المحبي (1061-1111هـ) - نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة

المحبي
محمد الأمين بن فضل الله بن محب الله بن محمد (1061-1111هـ)
نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة

إبراهيم بن عبد الرحمن السؤالاتي وافر الحظ من البراعة، صائب اللحظ في زخرفة اليراعة. اكتسب الأدب بكده وجده، وانتهى من القوافي والفقه إلى أقصى حده.
وكان وبعارضه ريحانةٌ شرقت بماء شبابه، ومزجته وجداً وصبابةً بقلوب أحبابه.
وضع عقله في يد الهوى، وتطوح معه في كل مهوى. فأقام حيناً وله إلى التصابي لجاجة، وما حلي يمينه في مواسم العيش إلا زجاجة. وله في غضون ذلك موشحات وشحت كل جمع، وشنفت بجواهر كلماتها كل سمع. ثم تعاورته نوائب جلت فكادت تتجلى، وتوالت عليه مصائب تولت فما أوشكت تتولى. وانقلبت به المحاسنة، إلى المخاشنة. وتبدَّلت المجاملة، إلى المحاملة. فاقلع عن تلك الهنات، ومحا كثيراً من سيِّئاته بحسنات، ولزم الفقه متجِّراً في مسائله، وكان لتحصيل أمانيه من أعظم وسائله. وقد صحبته والأيام أمالت قناته، وأمر المرض المؤلم مِجنَّاته، فاستحالت صفته، وتقلصت شفته. لكنها وإن ذبلت خمائله، فلم تزل غضةً شمائله.
وإن تفرَّقت ديمه، فما برحت ملائمة شيمه. فكنت أتمتع من منادمته الحلوة، بلطائف لها في كل قلبٍ خلوة. وأخذت عنه من أشعاره ما يبهر الشمس في الشروق، ويتمشَّى تمشِّي الرَّاح السَّلسل في العروق. وها أنا ذا أورد منه ما يطري ويطرب، ويجعله زاده كل مشرِّقٍ ومغرِّب. فمن ذلك قوله يمدح المولى عارف، المذكور في ديباجة الكتاب:
جَذبَتْ محاسنُك القلوبا ... حتى غدوتَ لها الحبيبا
وطلعتَ من أُفقِ العُلا ... بدراً لخُرَّدِهِ خطيبا
ونفثتَ روحاً في النُّفو ... سِ فكنتَ لها الطَّبيبا
وغدا بقُطرِ نداك روْ ... ضُ الفضلِ مُخْضَلاً خصيبا
وكسوتَ من حُللِ الرَّبي ... عِ جِنانه برداً قشيبا
فحدائِقُ الآدابِ من ... كَ تنفَّستْ مِسكاً وطيبا
وتجاذبتْ فيها نسا ... ئِمُ لطفِك الغصنَ الرَّطيبا
وغدا يُناغي فوقه ال ... قمريُّ بلبلها الطَّروبا
وأدرتَ من سلسالِها ... ما بيننا كأساً وكوبا
وأبحتَ خِلاَّنَ السُّرو ... رِ من العُلا الصَّدرَ الرحيبا
يا فاضِلاً أنسى العِما ... دَ بديعه وسما الخصيبا
وجلا على الأسماعِ من ... أبكارِه عرُباً كعوبا
من للثُّغورِ من الحسا ... نِ عن المحابرِ أن تنوبا
وخدودهنَّ تكونُ قِر ... طاساً لراحتِهِ رقيبا
وقدودُهنَّ يراعةٌ ... من لمسِ أُنملهِ قريبا
ونواظرُ الأحداقِ أن ... فاساً إذا أنشى نسيبا
مولايَ يا ربَّ الكما ... لِ ومن غدا الشَّهمَ الأريبا
يا عارِفَ الوقتَ الذي ... تَخِذَ الفخارَ له نصيبا
أبديتَ بالسِّحرِ الحلا ... لِ من البيانِ لنا العجيبا
وتلوتَ من آياتِ فض ... لِكَ ما بهرتَ به اللَّبيبا
وأعدتَ للدَّاعي الوجو ... دَ وكنتَ سائِله مجيبا
فشموسُه بكَ أشرقتْ ... من بعدِ أن دنتِ الغروبا
وبعثتَ من فضحَ الرَّبي ... عَ من البديعِ لنا ضروبا
أشهى إلى الظمْآنِ من ... فضفاضِ كوثرِهِ ضُروبا
وأرقُّ من مرِّ النَّسي ... مِ على خمائلِه هبوبا
فطفقتُ يلثمُ مسمعي ... لِكؤوسِها ثغراً شنيبا
وتقولُ في جنَّاتٍ اسْ ... طُرُ طِرسِها عينايَ طوبى
لا زلتَ ترقى في الفضا ... ئِلِ والعُلا الشَّرفا الحَسيبا
وبقيتَ تهدي للنُّفو ... سِ نفائِساً تجلو الكُروبا
ومن غزلياته، قوله:
حتَّى مَ تُعرِض عن محِبكْ ... وتصدُّني عن طيبِ قربِكْ
إن دامَ هذا الهجرُ أق ... ضِي بالمحبَّةِ إي وربِّكْ
يا أيُّها التيَّاه في ... زهوِ الصِّبا رفقاً بصبِّكْ
ما كنتُ بالسَّالي هوا ... كَ ولسْتُ بالتَّالي لعتبِكْ
تجنِي عليَّ وتجتنِي ... ظُلمي وتأخذُني بذنبِكْ
شرَّقْتني بالدَّمعِ مذْ ... غرَّبتْ عني تحتَ حجبِكْ
أأبيتُ إلى فُرُشِ الضَّنى ... وتبيتُ ملتهِياً بسربِكْ
يا منيةِ القلبِ الأما ... نَ فلستُ من أكفاءِ حربِكْ
وقوله:
لا تلمنِي أنا الألوفُ وقدْ ... مِتُّ غراماً من فقدِ إِلفٍ رقيبِ
هكذا في الرَّقيبِ حالي فقل لي ... كيفَ حالي وقدْ جفاني حبيبي
وقوله، وهو مما قاله بديهاً:
همُّ المعيشةِ حالَ ما ... بيني وبينَ حبائِبي
ولربَّما نهضتْ إلى ... نيلِ العلوِّ مراتِبي
فيفوقُني همُّ المعي ... شةِ عن جميعِ مطالبِي
فكأنَّني الدُّولابُ أص ... عدُ للهبوطِ بجانبِي
لو كلِّفَ السَّيفُ المعا ... شَ نبا بكفِّ الضَّاربِ
وله في الغزل:
إنَّ الغزالَ الذي في طرفِهِ حوَرٌ ... في مِرشفيهِ سُلافُ الرَّاحِ والحبَبُ
حارتْ لرؤيتِهِ الأبصارُ حينَ بدا ... غصنُ الجمالِ حلاهُ اللُّطفُ والأدبُ
ما مالَ من هيَفٍ ميَّالُ قامتِه ... إلا عليهِ فؤادُ الصَّبِّ يضطَربُ
دارتْ إليه قلوبُ العالمينَ فما ... قلبٌ لغيرِ هواهُ اليومَ ينقلِبُ
وله:
تقمَّصَ ثوبَ اللاَّذِ من فوقِ لؤلؤٌ ... ورصَّعَ بالدُّرِّ الجمانَ بديدا
وألْبسنِي مِرطَ النُّحولِ مخلَّقاً ... وأعدمني بردَ الشَّبابِ جديدا
غزالُ كِناسٍ لو رأتْهُ من السَّما ... كوكِبُها خرَّتْ إليهِ سُجودا
وله:
رِياضٌ سقتْها سحبُ جدواكَ لا ذوتْ ... ولا برِحتْ بالفضلِ معشِبةً خضرا
ولا برِحتْ رسلُ المحامِدِ والثَّنا ... إليكَ مدى الأيَّامِ واردةً تترى
وله:
تصبَّرْ ففي اللأواءِ قدْ يُحمدُ الصَّبرُ ... ولولا صرفُ الدَّهرِ لم يعرفِ الحرُّ
وإنَّ الذي أبلى هوَ العونُ فانتدِبْ ... جميلَ الرِضا يبقى لكَ الذِّكرُ والأجرُ
وثقْ بالَّذي أعطى ولا تكُ جازعاً ... فليسَ بحزمٍ أن يروِّعكَ الضُّرُّ
فلا نِعمٌ تبقى ولا نِقمٌ ولا ... يدومُ كِلا الحالينِ عسرٌ ولا يسرُ
تقلُّبُ هذا الدَّهرِ ليسَ بدائمٍ ... لديهِ معَ الأيامِ حلوٌ ولا مرُّ
وله:
حتَّى مَ يا ظبيَ النَّقا ... عنِّي تُحجَّبُ في كِناسكْ
لا تنأَ عن عيني وته ... جرني قلًى من دونِ ناسكْ
أنا عبدُ رقِّكَ أرتجي ... كَ وأختشِي سطواتِ باسِكْ
لا تبغِ بالإعراضِ قتْ ... لي واسقِني بحياةِ راسِكْ
وله:
وحياتهِ وحياتِه ... إنِّي لرؤيتِهِ كَلِفْ
صنمٌ لبستُ الغيَّ في ... هِ وقلتُ للرُّشْدِ انصرِفْ
حسنٌ وإن كانَ المُس ... يءَ لمن بعشقتِه تلِفْ
ما استحسنتْ عيني سِوى ... حسنٍ ولا قلبي ألِفْ
وكتب إلى بعض الأعيان، يمدحه:
أهديْتني وأجزْتني وبررْتني ... وشملْتني بالبرِّ والألطافِ
ولئِنْ بشكرِكَ راحَ لفظِي كاسِياً ... نعماكَ كاسِيةٌ بها أعطافِي
لا بِدعَ إنْ أسديتَ معروفاً فذا ... لكَ من عوائِدِ سنَّةِ الأسلافِ
ومدح بعض الكبار بقصيدة، فانتقصه، فكتب إليه:
مدحْتُكَ لا رغبةً في نداكَ ... وإنْ ملَّكَتْهُ الورَى رِقَّها
ولا رهبةً من سَطاكَ الَّذي ... أذاقَ الأعادِيا ما ذاقَهَا
ولكنْ لمعنًى تراهُ الكِرامُ ... وذاكَ لأقضي العُلا حقَّها
ومما أنشده لنفسه قوله:
على مَ الصُّدودُ ولا ذنبَ لي ... وفيمَ التَّجنِّي وصبرِي بَلِي
بمن أوْدعَ السِّحرَ في مقلتيْكَ ... وحكَّمَ لحْظيْكَ في مقتلِي
دَعِ الصَّدَّ وارفُقْ بمن قلبُه ... على حرِّ نارِ الغَضا ينْقلِي
إلى اللهِ أشكو أليمَ الجوَى ... وقلباً بحرِّ الجوَى ممتلِي
لحى اللهُ قلبي الظَّلومَ الَّذي ... عن النُّصحِ ما انفكَّ من معزِلِ
كليمُ الصَّبابةِ لا ينتهي ... عنِ الوجدِ في الرشأ الأكحلِ
رثى ليَ في الحبِّ من لامَني ... ورقَّ الحسودُ وما رقَّ لي
يميناً بهِ حبَّهُ ما سلوتُ ... ولا مِلتُ عنهُ إلى عُذَّلي
مليحٌ أبى اللهُ إلا هواهُ ... على رُغمِ أنفِ البليدِ الخلِي
ومن غرامياته قوله:
يا هل ترى لو نظرَ ال ... غادونَ حالِي رحِموا
أو علِموا ما صنعوا ... بي من أسايَ ندِموا
يا منْ لوجدِي عَمَروا ... والصَّبرَ منِّي هدموا
تاللهِ من بعدِكُمُ ... كلُّ وجودٍ عَدَمُ
وله مضمناً:
واصَلتُ ودَّكَ بالوَفا فقطعْتني ... ورفعتُ ذِكراكَ في الوَرى فوضعْتني
وزعمتُ أنَّكَ ذو غنًى فأضعتني ... أبعينِ مُفتقرٍ إليكَ نظرتني
وهذا المصراع من مقطوع يروى للمتنبي، ولم يوجد في ديوانه، وبعده:
.... ... فأهنتَنِي وقذفْتني من حالِقِ
لستَ الملومَ أنا الملومُ لأنَّني ... أنزلتُ آمالِي بغيرِ الخالِقِ
وله:
عشِقَ المعشوقُ ظبْياً مثلهُ ... واعتراهُ في هواهُ ولَهُ
كانَ معشوقاً فأمسى عاشِقاً ... فقضى الحبُّ عليهِ ولَهُ
وله:
بي أغيدٌ تشخصُ الأبصارُ حينَ بدَا ... في طلعةٍ جَلَّ من بالحسنِ عدَّلها
كأنَّما الحسنُ لمَّا زانَ صورتَهُ ... قدْ قال للحسنِ كنْ وجهاً فكانَ لهَا
ورأيت بخطه، وقد نسبه إلى نفسه:
في أزرقِ الملبوسِ مرَّ مُعذِّبي ... متمايِلاً كالغُصنِ في خيْلائِهِ
ورقى دُخَانُ التَّبْغِ غشَّى وجههُ ... من فيهِ مثلَ الغيْمِ يومَ شِتاتِهِ
وكأنَّهُ لمَّا بدا من شرقِهِ ... بدرٌ تبدَّى في أديمِ سمائِهِ
سترَ الجمالَ عن العُيونِ مخَافَةً ... أن لا تكونَ النَّاسُ من قُتَلائِهِ
مثله لبعضهم:
ولمَّا بدَا في أزرَقٍ من قِبائِهِ ... يَتِيهُ لِفرطِ الحُسنِ في خُيَلائِهِ
خلعتُ عِذارِي ثمَّ صِحْتُ عواذِلي ... قِفوا وانظُروا بدرَ الدُّجى في سَمائِهِ
قلت: وفي لون السماء للأدباء اختيارات، وذلك بحسب حالاتٍ واعتبارات،؛ فبعضهم يصفه بالزُّرقة، كما وقع لهذين الشاعرين، وقد تبعا أبا عثمان الناجم في قوله، وقد رأى جارية وعليها ثوبٌ أزرق:
ما تعدَّتْ قَبُولُ حين تحلَّتّ ... شِبهَ زِيٍّ لوجهِها ذِي البَهاءِ
لبِستْ أزرقاً فجاءتْ بوجهٍ ... يُشبِهُ البدرَ في أديمِ السَّماءِ
وهذا مذهب القدماء، وزرقته عارضةٌ من شعاع الشمس، وهو مائل إلى البياض، كما أن العرق الأبيض إذا جرى فيه الدَّم رُئِيَ لازوردياً، فتولَّدَ من اللونين لونٌ آخر.
وبعضهم من أهل الآثار يجعله أخضر؛ لحديث: ما أظلَّتِ الخضراءُ ولا أقلَّتِ الغبراءُ أصدقَ من أبي ذَرٍّ.
وبعضهم يجعله لازورديًّا؛ كما قال أبو حفص بن برد، في غلام بدا له في ثوبٍ لازورديٍّ:
لمَّا بدَا في لازورْ ... دِيِّ الحريرِ وقد بهَرْ
أكبرتُ من فَرطِ الجما ... لِ وقلتُ ما هذا بَشَرْ
فأجابني لا تُنْكِرَنْ ... ثوبَ السَّماءِ على القمرْ
وبعضهم يجعله بنفسجيًّا، كما قال ابن المعتز في غلام عليه ديباج حرميّ:
وبنفسجِيّ اللَّونِ قتْ ... لُ مُحِبِّهِ من رائِه
الآن صِرْتَ البدرَ إذ ... أُلبسْتَ لونَ سمائِه

.
 
أعلى