عاد من المدينة خالي الوفاض، وحده الذي يعرف تفاصيل ما جرى، لا يعرف عن نكباته هناك أحد سواه، ولذلك كان جوفه يستعر نارا عند استعادة تلك الصور، وحتى لا يدري بمآسيه أحد روّض نفسه على الصمت وعلى البشاشة، فإن أرادها تسرية عن النفس قال متمتما: أهل المدينة نصّابون، قلوبهم نحتت من الصخر، أهل المدينة لا...
صعدت إليه في مكتبه والترقب يملأ جوانحي، طرقت الباب، جاء صوته مثل صوت ضبع متخم: تفضل. دخلت ولم أجلس، بقيت واقفا إلى أن يأذن لي بالجلوس. يغضب كثيرا إذا جلس الموظف قبل أن يأذن له وهذه ملعنة أَلِفْنَاها منه، ليست الوحيدة ولكنها واحدة من كثير. قال: أجلس. جلست، توجهت إليه، أرهفت سمعي جيدا ولم ينبس...
وقفت طويلا لعلي أجد فرجة أنفذ منها إلى داخل الأتوبيس فلم أجد، تعبت ساقاي كثيرا، الوقوف متعب والانتظار مملّ، أخذت أطوف به بحثا عن فرصة دخول أو فرصة خروج مما أنا فيه، عاينت مداخله كلها فلم أجد منفذا، كانوا على كل باب مثل النحل أو أشد تلبكا. داخلني قلق شديد أن تنفذ المقاعد ثم لا أجد إلا على رحلة...
مرق مثل سهم غَرْبٍ لا يُعرف له رامٍ، طاف بالعربة الأولى من يمينها، قطع طريقها ليطوف بالعربة الثانية من اليسار، قطع طريقها ليطوف بالعربة الثالثة من اليمين، انطلق مثل هبّة ريح يسير على خيط رفيع يفصل بين الرصيف وبين طريق السيارات، انطلق وأنا أراقبه وكل من كان معنا كان يراقبه أيضا، أما هو فقد كان...
صرخوا في وجهه: لماذا هنا؟ الوعد بيننا أطراف مدينة الطيبات فلماذا هنا؟ لماذا تُلقي بنا في قلب هذه المفازة الموحشة؟ أعطيناك أموالنا لتأخذنا إلى حيث الحياة لا إلى رملة الموت هذه. تقدم منه أحدهم، أمسك بتلابيبه حتى كاد أن يقتلعه من على الأرض، حذّره من مغبة تركهم في هذا القفر، صاح به والزبد يتطاير حول...