حسين السنيد

الميلاد
Feb 28, 1989 (العمر: 35)
نموذج من كتاباتك
مع وقف التنفيذ...
حسين السنيد

تلك المرأة الثلاثينية ..على الرغم من امتلاكها لعناصر الجمال من بياض ناصع و عيون واسعة عسلية وشعر ناعم منسدل على اكتافها مدى سوداء ,الا انك بمجرد النظر اليها سترى البؤس يتمطى في ملامحها .وان عيونها العسلية الواسعة كمصباح قديم معلق في شرفة بيت مهجور ..مغمور بالتراب.وان جسدها المكتنز بلحمه البض ,امسى ارض قفراء متفطرة .
لاعجب .. اذا عرفت انها فتاة تزوجت في السابعة عشرة من عمرها ثم بدأت تحمل وتلد لخمسة مرات متتالية قبل ان تترمل .مات زوجها بمرض لم يعرف سببهلإ نفخ كل جسمه ,فامست مسؤولة عن 3 اولاد و بنتين تسكن في غرفة واحدة بسقف من صفيح .
ذات ليلة شتائية ماطرة وبعد ان استطاعت سد جوع اطفالها الخمس بحيل وصعوبة, دثرتهم في ملاحف وملاءات قديمة واستلقت على ظهرها بين اطفالها وغطت في تفكير عميق .لم يكن تفكيرا موجها بل كانت تسرح في بؤسها و كيف ان حياتها انتهت في الشباب وهي التي كانت تطمح لحياة افضل بكثير من هذا .
وكان السقف الصفيحي قد بدأ يسرب قطرات المطر , شكل سقوط قطرات المطر في الاواني التي وضعتها تحتها نوعا خاصا من الموسيقى الغير منتظمة,ولكنها كانت موسيقى جميلة يعجبها ان تستمع لها . ثم علت صوت سقوط القطرات في الاواني نصف الممتلئة ..ثم علت ..ثم صارت اشبه بصوت ارتطام ..ثم اشتدت ..حتى صارت تشبه صوت قرع الطبول .
دم ..دم...دم...دم... صوت مدو لايقاع الطبول
شق ذلك الايقاع الرتيب صيحة عالية بصوت رخامي .
- محكمة ...محكمة ...محكمة ..
قالها الصوت باحكام وبطريقة ممتدة منطلقا من مكان قريب وكانه في نفس الغرفة .
مابرح ان دخل القاضي بهيئته المهيبة , نظرت الى القاضي واذا بها هي القاضي !
كانت نفسها ولكنها اكتسبت هيئة القاضي بوقاره وهيبته وحكمته . فغرت فاها وشهقت لحظة شاهدت نفسها القاضية .
جلست القاضية بوقار وهدوء على الكرسي ثم طرقت بمطرقتها الخشبية طرقتين ونادت بصوت كان صوتها ايضا..
- ادخلوا المتهمين
وبدأ المتهمون بالدخول واحدا بعد الآخر .واذا بالمتهمين اهلها ! امها و والدها دخلوا قبل الآخرين ثم اخويها و زوجها ,واخيرا دخلوا خمسة اشخاص لم تعرفهم ولكنها وجدت وجوههم مألوفة جدا .ثلاثة منهم رجال وامرأتين.
دخل المتهمون الى قفص الاتهام .
نادت هي التي كانت قاضية :
- ايتها الام ..(ثم اردفت بتردد) ...العزيزة , انت متهمة باهمالك المتعمد في متابعة دراسة ابنتك (واشارت لها ) وذلك بانك كنت تظنين انها قليلة الذكاء ولايمكنها دخول الجامعة ,وكذلك متهمة بتزويجها وهي فتاة صغيرة لاتدرك حجم مسؤولية الحياة الزوجية والامومة والاسرة . فما هو دفاعك؟
قالت امها والدموع تملئ محاجرها:
- ياسيادة القاضية ..كانت مشاكل الحياة كثيرة لاتنتهي وكنا فقراء لانقدر على قوت يومنا ,وعائلتنا كبيرة فلم يكن بمقدوري متابعتهم جميعا .وهي لم تحصل على درجات جيدة مشجعة خلال الدراسة الابتدائية ,فقمت بتزويجها مبكرا ,فانا امها و هي فلذة كبدي وانا اعرف الناس واحرصهم على سعادتها .

رفعت القاضية يدها في اشارة للصمت ثم دعت والدها للوقوف خلف منصة الاتهام.
- ايها الوالد انت متهم باهمالك ابنتك .. كنت تنسى حتى اسمها مرارا وتكرار ولم تدر يوما باي صف هي ؟ ثم انك قلت مرات ومرات امامها انها جائت حصيلة خطاء و انك وددت لو تكون ولدا ..ثم انك قبلتها قبلة كاذبة يوم زفافها ,قبلة بلاروح وبلا دفئ .
قال الاب واصبح وجهه قبرة وقت الغروب
- كنت اعمل من الفجر الى المغيب في سبيل اشباع بطونهم ..لم يكن ثمة وقت او مزاج لتدليلهم .ثم ان الاهتمام بالاطفال هي من مهام الام وليست من مهامي ! اما عن حبي للاولاد فهذا ما ورثته من ابائي واجداي و اسرتي الكبيرة ..اني احب الولد اكثر من البنت على طريقة الاجداد وهذا ليس ذنبي!
صرخت القاضية :
- هذا يكفي ..هذا يكفي .. ايها الاخوة حان دوركم ..تقدموا انكم متهمون بعدم الوقوف معها يوم كان زوجها يضربها بعنف وكذلك لم تساندوها يوم اصبحت ارملة وحيدة مسؤولة عن خمسة اطفال, فدافعوا عن انفسكم .

قال احد الاخوين :
- نحن مثلها ..من المعدومين الفقراء ,نسكن بيوت الصفيح في اطراف المدينة و نعمل لساعات طويلة لتأمين ادنى متطلبات المعيشة.
ثم هتف الآخر :
- سكتنا عن زوجها لان لامكان للمرأة الا بيت الزوج .
قالت القاضية :
- اصمتوا ..اصمتوا فهذا يكفي. تقدم ايها الزوج .. لماذا كنت تحرمها من كل شيئ ولم تصطحبها ولو لسفرة واحدة لمكان قريب بحجة التكاليف العالية فيما كنت تصرف نصف دخلك الشهري في القمار ؟ولماذا ضربتها مرات كثيرة بلاسبب فقط لانك كنت تريد كتمان فشلك في عملك وتجارتك ؟
قال الزوج بوجه قطة صغيرة جائعة
- انا ..احبها ..احبها ..هي ام اطفالي .
- ليس عندك شيئ آخر تقوله؟
قال مرة اخرى بيأس وتردد :
- احبها ..والله احبها
ثم انفجر باكيا
قالت القاضية :تقدموا ايها الخمسة
فتقدموا و بدت وجوههم قريبة الى قلب المرأة . التفتت القاضية التي كانت اصبحت اكثر غضبا اليها
- اتعرفينهم ؟ انهم اطفالك بعد 25 عاما.
فابتسمت المرأة ابتسامة عريضة عميقة وسرى ماء مثلج في شرايينها المنكمشة . الفتاتان اصبحتا جميلتان فاتنتان والاولاد كبروا وصاروا رجالا , وربما يكون لهم اسرة واولاد وزوجات.
- انتم متهمون ايها الاطفال الخمسة بانكم ستتركون امكم العجوز وحيدة و هي مريضة وبامس الحاجة لكم . وتعلمون جيدا يا اطفال انها لم تترككم ولم تتخل عنكم حينما كنتم اطفالا صغارا .. وبناء عليه فانا اتهمكم بالخيانة ,قولوا ماعندكم.
قال الكبير : لي اسرة واطفال.
قال الثاني : كنت خارج الوطن للدراسة والعمل.
قالت الكبيرة : انا اصبحت اما و لي عملي الخاص ولاوقت لي.
قال الثالث : زوجتي جميلة وصغيرة و انا اعشقها .و هي لايمكن ان ترتاح في غرفة وصوت سعال امي لم ينقطع للصباح.
قالت الصغيرة : انا حرة نفسي ..ولست موظفة خدمة عند امي.
ثم غرقت صالة المحكمة في اصوات الهمهمات ,ثم علت الهمهمات وصارت تتحول شيئا فشيئا لفوضى .
فجائت الطرقة الاخيرة قوية ..تلك الطرقة التي اسكتت كل الافواه وجعلت كل الاذان والعيون في حالة ترقب قصوى , والقلوب ضاعفت جهدها و راح الدم يتدفق في الشرايين بضغط مضاعف و تعرقت الجباه حد الغرق.
- احكم عليكم جميعا بالاعدام ..لتقصيركم في حق هذه المرأة و لتحطيمكم طفولتها وشبابها و مشيبها .
ما ان سمعوا الحكم الصادر حتى هجم حراس المحكمة على المتهمين بالسلاسل و كان المتهمون يصرخون ويبكون و يستنجدون ويتوسلون.
حاولت المرأة ان تصرخ ..فلم تتمكن وشعرت ان حنجرتها مقفلة , حاولت ان تجري خلف القاضية فوجدت نفسها مسمرة بالارض بمسامير لها رؤوس كرؤوس المواليد الجدد.
استجمعت كل قوتها محاولة الصراخ والتحرك .واحست بسائل بارد ينساب على رؤوس اصابع قدمها , ثم حشرجت ..ثم تحولت الحشرجة صوتا ..و استحال الصوت صراخا ,فاستفاقت مندهشة مرتعبة و وجدت اطفالها ينظرون لها بوجوم. ونظرت للسائل البارد الذي سال على اقدامها فوجدتها قطرات من ماء المطر المتسرب من السقف المتهالك.
- ارجعوا للنوم يا احبائي ..لاشيئ ..انا بخير . لاتخافوا ..انه حكم مع وقف التنفيذ.
البلد
العراق
أعلى