جوزيف مكير مجوك

الإقامة
الخرطوم
نموذج من كتاباتك
#قصة_قصيرة
#ولكنها_القدر
______

أعتاد أبي أن يجمعنا قرب سريره قبل أن يخلد للنوم و بحكم إنني الأكبر بين إخوتي كان يطلب مني دعوة إخوتك، فأركض بفرح ونشاط،ثم نأتي كلنا و نلتف حوله .
وكان يسرد لنا حكاياتٍ جميلة و ممتعة عن مدى جمال القمر و عما يحمله لنا من الخيرات و الأفراح و ضرورة تمعن وجهه البرئ متى ما شئنا (عند الضيق ،الفرح ،الملل ... الخ)
وعندما تنزل السماء إسدال ظلامها الموحشة معلنة قدوم الليل أجدني أتأمل القمر بدقة وإمعان ، فهو الوحيد الذي لن يرفض ان أرسو سفينة أحلامي الصفراء بموانيه الشاسعة. وكانت نظرة طفولية تحمل في طياتها معانٍ وذكريات تمنيت إلا أنساها وإن دعت الأمر أن أحول ذاكرتي الواهنة إلى شرائح السليكون ؛ رحيل أبي الفجائي وهمسات أمي الهادئة :"أبيك رحل بعيد ولن يعود أبداً "
كلمات إستوعبت مقاصدها بعد فوات الأوان، ربما لم يكن لتفسيرها ضرورة أنذاك، فامي كانت تبذل قصاري جهدها كي توفر لنا إحتياجاتنا لدرجة إننا لم نشعر يوماً بنقص إلا في بعض الأحيان خصوصًا المواقف التي تحدث بلا حسيب و نادراً ما يحدث.
أتذكر ذات يوم ذهبت للعب مع صديقتي نانسي إبنة جارتنا و اثناء لعبنا بدأت نانسي تثرثر بإستمرار كما موجات الراديو عن أبيها: كم انه رجل ودود و تارة قاسي و كريم و طماعة و هلم بذا من سمات تحمل في دلالتها التناقض .
وقعت كلماتها على أذنيّ كصاعقة، عٰدت إلى منزلنا باكية حزينةً، لم أكن أحسدها قط بما تنعم بقدر ما كنت أحبها و لكنني فقط لم أحتمل كلماتها ، و فور وصولي المنزل وجدت أمي جالسة في الفناء تحت ظل إحدى غرفنا الطينية اللبنية التي تعكس ثقافتنا السودانية الجامدة الراكدة التي لم تمضى قدماً منذ عصور و إنما تتقدم الى الوراء (تتطور تراجعياً) وارتميت في حضنها حيث كانت تفهمني دون أن أتفوه بكلمة كأنها عرَافة دمازينية ماهرة في قراءة الأذهان. سالتها باكية
- أين أبي؟
- أبوك رحل بعيد جداً.
-ألن يعود كي يرانا؟ أريد أن أريه صديقتي .
-سارة بنتي لا تبكي إننا سنقابله عما قريب و لكن ليس هنا .
سألتها غاضبة بصيغة الأمر : أمي طيب أين هذا المكان البعيد.؟
فردت بهدوء وبدأت تمسح شعري بيدها اليسري وأشارت إلى السماء بيدها اليمني ! هناك، لم تكن إجابتها كافية لكنها مرضية نوعاً ما.
عدا هذا كنا سواسية مع غيرنا من عيال الحي؛ ندرس في نفس مدارسهن ، رغم أن أمي لم تكن تعمل عملاً كبيراً إلا إنها إستطاعت بعملها المتواضع شأنها و شأن نساء الهامش أن تربينا وحدها صامتة دون ان تشكو مرارة الحياة و قساوتها فهي إمراة قوية و شجاعة وصبورة و مؤمنة واثقة بربها.
كانت مصروفاتنا تزيد يومًا بعد يوم خصوصاً بعد إلتحاقي بجامعة، وأصبحت تفوق طاقات أمي ( الدراسة و الاغراض الشخصية و إخوتي الصغار و إيجار المنزل..... الخ) لذا كنت أستيقظ الرابعة صباحاً ذاهبة إلى العمل في وزارة النفط و المعادن و كنت أحمل معي خياراً اخر ألبسها بعد الدوام، وألحق دراستي بمدرسة الاعلام بكلية شرق النيل الجامعية، غالباً ما كنت استوعب المحاضرات الصباحية فقط إما تلك التي تاتي بعد الظهر، فكانت تعبر مرور الكرام دون أن اتذكر منها الكثير ،
لم يكن الحصول على عملٍ كذلك هيناً لو لا أن إحدى زميلاتي قد توسطت وأخبرت عمها الذي كان يعمل بدوره مشرفاً في الوزارة لكانت دراستي أقرب إلى مرور الجمل بثقب الإبرة .
لم تكن أمي راضية بعملي ولكنني ألححت عليها لشعوري بالمسؤلية و بالتالي ضرورة تخفيف ثقل عبئنا عليها .
و سارت الحياة على هذه الوثيرة حتى تخرجت من مدرسة الإعلام بكلية شرق النيل الجامعية .
وفي إحدى أيام الحجر الصحي كان عقارب الساعة تتحرك أبطأ من السلحفاة حيث أستيقظت ذلك الفجر في غير عادتي؛ الرابعة صباحاً أي بضبط في نفس الوقت الذي كنت إستيقظ فيه ايام الدراسة، كانت القمر عمودياً تماماً لمستوى نظري ، محاط بعدد لا متناهي من نجوم تتلالاة في السماء الصافية وجميلًا كُ قطعة من الأحجار الكريمة التى نشاهدها في الأفلام، لا مفر سوى النظر إليها بتحديٍ و بغضٍ تماماً كما ننظر لالو ص عجزنا عن مجارته فتفلت من أيدينا و رويداً و رويداً بدأ الشمس في الظهور .
كانت الشوارع تعيش حالة الصمت الموحش و الهدوء المميت كأنما هُجر قبل مئات سنين نتيجة لحجر الصحي الذي أعلن بسبب جائحة الكورونا.
أخرجت (بنبر)² من العريشة و جلست بها في إحدى أركان (حوشنا )³، و بينما أنا شاردة في أحلامي اليقظة أتذكر ما تلقيتها في الأعلام ، أخذت هاتفي البالي و وصلته بسماعة أحادي الإذن إستعرتها من صديقتي بداعى الإستماع بها و كان ثمة أخبار قديمة دونتها في مذكرتي عن جائحة الكورونا بغية التسلية ، طلبت من إختي الصغيرة ان تسجل لي الفيديو و بدأت أذيعها برواقة و أريحية غير مهتمة و كأنني في إحدى عوالم ديفيد ميلد و نشرتها في حالتي لكسر شوكة الملل، ثم شاركها أحدى أقربائي في اليوم التالي ولم يدم طويلاً حتى انتشر الفيديو سريعاً في وسائل التواصل الإجتماعي كالنار في الهشيم .
لم اكن اتصور ان يجد ما سجلته بغية التسلية هذا القدر من الإهتمام . و لكنها القدر .
_______
قصة واقعية لإحدى الجنوبيات
حدثت في الخرطوم _أمدرمان 22/4/2020
كم من موهبة ضاع و مازال تضيع نتيجة للإهمال و ضعف الإمكانية ؟

بقلمي : جوزيف مكير - الخرطوم - مايو 2020
البلد
السودان
Gender
Male
أعلى