محمود عرفات

الميلاد
Nov 20, 1947 (العمر: 76)
الإقامة
كفر الزيات محافظة الغربية- مصر
نموذج من كتاباتك
صبح دافيء
في ذلك الصباح الباكر، كنت أقطع الطريق من شرق المدينة حيث أقيم إلى أقصى غربها حيث يقيم والدي. المشى هوايتي المفضلة. شعرت بأن الطريق أطول مما ينبغي. الشمس الساطعة تضفي على الجو البارد إحساسًا خفيفًا بالدفء، لكن أشعتها الدافئة لم تستطع أن تسكت رعشة البرودة التي تسري داخلي، كومضة الضوء التي تنتقل من مصباح إلى آخر في اللوحات الإعلانية الليلية. ورغم دفء أطرافي إلا أن كياني كله كان يرتجف، كيف يكون اللقاء، وأنا لم أره منذ خمسة عشر شهرًا. لعنة الله على أموال الدنيا كلها، تلك التي تركنا من أجلها الأهل والوطن والأصدقاء، وأخبار الصباح الطازجة في الصحف، "كانت شورة مهببة".. عندما ذهبت للحصول على التأشيرة من القوى العاملة، وجدت ثمانية طوابير أمام ثمانية نوافذ، نهارك أسود لو وقفت في الطابور الذي يمتد بطول ثلاثمائة متر ووصلت إلى الشباك بعد ساعات ليعيد لك الموظف أوراقك بعد فرزها لأنه ينقصها توقيع أو دمغة أو... أو... يومها وصلت إلى الشباك فأخذ الموظف المجهد المؤدب أوراقي وتفحصها ببطء ثم قال باقتضاب وحسم:
= استلام التأشيرة بعد ثلاثة أسابيع.
عدت بعد ثلاثة أسابيع، فتصورت أن البلد كلها في طريقها للخارج، ولم أتعجب من استخدام مكبرات الصوت، فقد بدا لي أنه الحل الوحيد للسيطرة على هذه الجموع. عندما ركبت الطائرة تذكرت العبور العظيم وتساءلت: هل تعبر بي الطائرة تلك الأجواء الشاسعة من حال إلى حال، من حال العيش بالكاد إلى حال العيش بالوفرة، هل يحدث ذلك، وإذا حدث فهل أقدر عليه؟ هل أنفع في الغنى؟ وهل نفعت في الفقر؟
آاااااااه أشعة الشمس كاسحة، ورغم إحساسي بدفء أشعتها إلا أن البرد مازال يسيطر على جسدي. الطريق إلى والدي طويل، لقد أوحشني كثيرًا، كيف تحملت ألا أراه كل هذه المدة، وكنت قبل سفري أكاد أجن عندما يمر أسبوعان دون أن أراه، أجلس إليه، وأقرأ في المصحف بين يديه، فينبهني برفق إلى قواعد المد والوقف وطريقة نطق حروف القلقلة، من المهم أن ألحق بصلاة الجمعة في نفس المسجد الذي يصلي فيه. أعرف مكانه الأثثير في المسجد الذي لم يغيره لسنوات طويلة. أمام المسجد كنت أرى الرجال يتسابقون لتحيته، ينادونه بأستاذنا، وأتعجب إذ أرى رجالًا كبارًا ينحنون على يده لتقبيلها في حب وتقدير، كنا نقطع المسافة من المسجد إلى المنزل في ربع ساعة، ونحن صامتين تقريبًا، لكنه صمت مكثف، مشحون، أبلغ من أية كلمات، والدي قليل الكلام، ويبدو أنني ورثت عنه نفس الصفة، لم أكن أشعر باالرغبة في الكلام وأنا في حضرته، لأن وجوده بالقرب مني كان يكفيني، وعندما يطول الصمت بيننا كان يقول في اقتضاب:
= قل.
وعندما أتساءل: ماذا أقول؟ يرد:
= قل كلامًا ولو في غير موضعه.
إنه يريد أن يسمعني والسلام، وأسأله مندهشًا:
= هذا صدر البيت، فأين شطره الآخر؟ فيجيب:
= لا أذكر.
كان من النادر أن يقول هذه العبارة، فذاكرته تحتفظ بالتفاصيل، وخصوصًا فيما يتعلق بالشعر، وبالرغم من شاعريته فلا أذكر أنه تحدث بأبيات من شعره إلا قليلًا، حفظ القرآن صغيرًا فأصبح شيخًا، ثم التحق بمدرسة المعلمين بالمحلة الكبرى، وتخرج فيها فاختلط بصفوة المتعلمين في شمال الدلتا، وتأثر بأساتذته الذين كانوا شيوخًا في اللغة العربية وكافة فروع الأدب، قرأ عيون الأدب والشعر، وحرص على اقتناء وتجليد مجلتي الرسالة والرواية منذ ظهورهما حتي احتجابهما، واطلع على الأدب العالمي مترجمًا، ونظم الشعر، ونشرت له قصائد عديدة في الصحف والمجلات، يدور الحديث فيستشهد بآيات القرآن الكريم وأبيات الشعر والمأثورات اللغوية، وكان أحيانًا يصفو "ويتسلطن" كما يحدث لكبار المودعين فيحكي، فنتسمر أمامه وتتبدد كل الرغبات الأخري... إييييييه.. رائحة الصباح الطازج تختلط بأشعة الشمس الدافئة، في السابق كانت رائحة الخبيز المغموسة في أشعة شمس البكور تغمرني بالبهجة والدفء، لكني اليوم.... كم أحبك يا أبي، ويزن السؤال الذي يدير رأسي: هل كنت بارًا بك، وأنا لم أملك إلا السلام والحب والمشاعر الحلوة الصادقة، كنت أحيطك بكل ما لدي، وأعاني مع ذلك من شعور كاسح بالتقصير، لكنك كنت دائمًا تجعل الأمر سهلًا علينا وعليك.
وأقترب.. وكلما ازددت اقترابًا ازداد الجو برودة رغم انتصاف النهار، وعبرت الجسر الصغير الذي يربط البر الشرقي بالبر الغربي، وبدت الشواهد، واجتزت الطريق الرئيسي الذي يشرف على الشوارع الصغيرة المتتالية المتلاصقة، وأخذت أعد الشوارع، الشارع العاشر وأتجه إلى اليمين، وأواصل السير حتى أصل إلشارع العرضي لأتجه يسارًا، وأمضي في الشارع العريض حتى يصبح سدًا، فأتوقف وأعد، الثالثة إلى اليسار. الاسم يزين المكان، مثلما زيَّن كل مكان حل فيه من قبل. الأشجار صامتة، السكون الشامل يجعل وقع الخطوات أقرب إلى صوت مكنة تعمل في رتابة ودأب، حتى العصافير لم ألحظها أو أسمع لها صوتًا، الشجيرات الخضراء القصيرة ونباتات الصبار تعاني الوحدة، لكنها لا تعاني الإهمال. توقفت وألقيت السلام، جلست على مصطبة صغيرة في المواجهة. ها قد التقينا أخيرًا، أنا الآن بجوارك، تماما كما كنت دائمًا أجلس بجانبك على كنبة الصالة، صامتًا أتعلم من صمتك، الصمت بيننا لغة صاخبة، لكنه اليوم لغة مخنوقة، ومهما طال سكوتي فلن أسمعك تقول وأنت تستحثني على الحكي: قل كلامًا ولو في غير موضعه. هل جاء الدور عليَّ لأتحدث أنا لتستمع أنت؟ وهل ما زال بعيدًا ذلك اليوم الذي نتجاور فيه لنستعيد صمتنا الأول، أنا واثق أنك تسمعني عندما ألقيت عليك وعلى الآخرين السلام، أيكي كثيرا عندما يستبد بي الشوق إليك، أخطو نحو مشارف الخمسين، ورغم ذلك أشعر في حضرتك بأنني ولد خجول لا يستطيع أن يرفع بصره نحوك، الآن فقط بدأت أشعر بالدفء، هل تسمح لي بالانصراف؟ أرجو أن تأذن لي. قلتُ لك كلامًا، لا أدري إن كان في موضعه أو في غير موضعه، لكنه أراحني، الصمت يستمد مدلوله في حضرة الأحياء، لكنه في مدينتكم العامرة بالصمت يكون تكرارًا موجعًا بلا نهاية، ويأكلني خاطرٌ مستبد، متى تغرب الشمس وتغيب، وترطبنا جميعًا ظلمة المكان الذي يتساوى فيه شروق الشمس وغروبها وتتالي الليل والنهار وتتابع الفصول، وازدهار الأشجار وسقوط أوراقها، سأذهب الآن إلى أمي التي تتابعني في صمت بنظراتها اللائمة لأقول لها إنني كنت في حضرتك، إنها تفهم ولاشك لم تأخرت الزيارة، لم أحضر على الفور، كان يجب أن أتهيأ للقاء.. السلام عليكم يا أبي.. آه.. نسيت أن أقول لك إن أول زيارة قمت بها مع أخي سامي كانت لعمتي نفيسة، كما زرنا صديقيك المخلصين لك محمد سالم ومحمود حجازي.
التفت إلى الوراء فوجدت الشواهد تتقارب كلما ابتعدت، والشوارع الصغيرة المتلاصقة تتلاشى لتندمج الجدران المنخفضة متكاثفة في وحدة غامضة، أسرعت الخطى. غادرت المكان وأنا أشعر بالدفء يتمدد داخلي، أخرجت يدي من جيبي، وأحسست أن وزني صار أخف وخطواتي باتت أسرع.
البلد
مصر
Gender
Male
أعلى