أنوار رزوق

نموذج من كتاباتك
المضاعفات والقواسم

ربما كانت السنة الثانية على التوالي التي زاملني فيها بشير بالفصل الدراسي حين زج به في السجن. أذكر أن الحي اهتز على وقع الخبر. صوتت أمه وولولت أختاه، وخرجت كل نساء الزقاق من منازلهن لتطييب خواطرهن. وجاء من أخذ بيدهن وقادهن إلى منزل السي الطاهر علّ وجهه الذي لم يرق ماؤه كله يشفع لهن في الكوميسارية لإخلاء سبيل بشير بدل وجوههن المنكوبة بالبؤس واللطم والدمع والعويل. كان السي الطاهر غارقا في أوراده حين جاءته النسوة مستغيثات. فخرج وأقسم على رؤوس الأشهاد أنه لن يذخر رقما في مفكرة أرقام محموله الخاصة دون أن يخابرها، وأن زوجه حرام عليه، (لا أحد يدري أي زوجة يقصد من بين زوجاته الثلاث)، إن لم يعد ببشير إلى حضن أمه. انخرطت النسوة في بكاء جديد، وقلن له إن زوجاته وعياله أشرف ناس الحي، وحكت الحاضرات وقائع ما جرى للغائبات، فأجمعن على أن السي الطاهر رجل فاضل ما عرفن له نظير. يجدنه في المحن والشدائد مسارعا إلى إراقة ماء وجهه في ردهات الكوميساريات لإطلاق سراح فلذات أكبادهن، ويخف إلى المحاكم ليوصي بهم خيرا، ويحضر جلساتهم، ويعودهم في الحبس ليطمئن عليهم ويُطمئن ذويهم. لذلك أجمعن على التشبث به وعدم تغييره، وليخسأ ولد مينة الحولاء التي لا تزال تشتغل خادما في البيوت رغم أن ابنها توظف، وظن بذلك أنه الأحق بنيابة الدائرة في المجلس البلدي. إن أراد أن يفعل خيرا فالأحرى به فعله بأمه الخادم في بيوت الآخرين.
في البدء انتسجت الألفة بيننا في الثانوية وحدها. كان مشهودا لي بتفوقي في اللغة العربية والمواد التي نسميها "مواد الحفظ"، بينما كان واحدا من العملات النادرة في الفصل، يفيدك التقرب إليه وتقاسم نضد الطاولة معه ليس لأنه كان مشهودا له بتفوقه في مادتي الجبر والهندسة فحسب، بل الأهم من ذلك هندسته لكل جسور الإمدادات التي يربط بين التلاميذ النجباء في موادهم والتلاميذ الموسومين للمهانة ما لم يدركهم المدد وهم اللمة الطاغية حين كل اختبار. كان يجمعنا أيضا السكن في حي واحد. بينما يقع بيت أسرته في درب المسيرة كان بيتنا قائما في شارع المغرب العربي، ثلاثة أزقة نزولا عن يمين من درب المسيرة. أصبحنا لا نتردد في زيارة أحدنا الآخر لنتسكع سويا بين الأزقة والمنازل التي تفوح بروائح الرطوبة والبصل المقلي والبقدونس والشحم المذوّب، متصيدين فرصا تطلق شقاوتنا من عقالها. جرت السنة الدراسية أذيالها منطوية إلى الأبد فدهمتنا العطالة الصيفية واقعا أكثر شقاوة. كلانا ظفر بالنجاح المأمول ببيته، ذلك الذي لا يزيد عن ارتقاء من مستوى لآخر. لكن أهم من ذلك تخلصنا من لعنة المقررات الطويلة الغامضة، تقلب أهواء الأساتذة، هواجس الفروض المنزلية والاختبارات، غلظة الإداريين والغياب والإذن بالدخول الذي كان الحصول عليه مثل الظفر بتأشيرة شينغن.
كنا نستقبل إجازة الصيف بابتهاج منقطع النظير يطبخ على لظى شمسها حتى يغشانا برم ثقيل لا ندري كيف نهادنه. كان هم بشير ينحصر في شيء واحد: البحث عن عمل يعول به نفسه ويبسط به يده إلى أسرته التي تعيش الفاقة. أقصى ما كانت توفره له هو الملاذ. حتى سقفه كان مهددا بالوقوع على رأسه حين يستعر الشجار بينه وبين أختيه. كانت الأولى مطلقة ببنت والثانية مشروع عانس. وكانت الأم لا تتردد في الانحياز لبنات جنسها فيطرد إلى الشارع أمام نظرات أبيه المقعد الحزينة.
خلال العطل وأيام الآحاد لا تطيب له نفسا إن لم يدبر عملا صغيرا. كان يستطيع أن يتحول بسرعة إلى أي شيء. بناء، حمال، سمسار، وقد يبيع الديطاي صباحا ويقامر أو يعمل دهّانا مساء. المهم أن يطوي يومه الذي لا يضطر فيه الذهاب إلى المدرسة وبجيبه ما يحفظ كرامته. قبل أن يجد عملا هذا الصيف، وقبل أن أجد قريبا أدعوني إلى بيته الواقع بمدينة ساحلية لقضاء أيام من الإجازة يمر بي أو أمر به ونستمرئ عطالتنا معا والصيف يلفحنا بهجيره.
أخبرني أنه لن يبيع سجائرا هذا الصيف بمنجم الذهب كما كنا نسميه؛ زاويته المغبرة على طوار فقير لصق بقالة إبراهيم لفتور علاقته به، حيث كان يرخص له بالبيع ثمة مقابل تسخيره لقضاء بعض من شؤونه بما فيها تنظيف بقالته وصقل واجهتها الزجاجية، وإشباع فضوله في تسقط أكثر فضائح المدينة طراوة. كما أنه لن يحمل العتلة كذلك لأنه تردد على كل أوراش البناء المنتشرة في المدينة فأقام له طاشروناتها مناحة بموت البناء هذه الأيام، ولن يشتغل في محل الأقمشة مثلما فعل الصيف الماضي لأن صاحبه الحاج اعتذر له متذرعا بسبات البيع والشراء هذه الأيام.. من بقي حيا بها إذن؟ سألته.
إن كان البناء ميتا والبيع والشراء ناعسا فأنا حي وصاح.. تعال معي. أشار إلي.
- إلى أين في هذا الصهد؟
- سنحتمي بالأفاريز، لا تقلق.
لم يترك لي وقتا للاعتذار حتى سحبني من ساعدي إلى مقهى الغزالة القريب. انتظرته على بابه لأنني كنت أدنف من دخوله كونه مقهى مشبوها يختلف إليه الحثالة التي لا تهتم كثيرا إن شحنت في عربة شرطة وقضت الليل في أقبيتها. نظرت بضيق إلى ساعة معلقة على صدر جدار قبالتي في أقصى القاعة. الحادية عشرة إلا ربعا صباحا. شبان يلعبون الورق أو يدخنون. تابعت مشاهدا من فلم فوق عيون بعضهم المنشدهة بعنف شاشة مثبتة في زاوية ما كل ما يصلني منها رطانة تتوعد وأصوات ضرب وسقوط وتحطم وفرقعات. ضقت ذرعا بالانتظار وحاولت التلويح له بتذمر حيث كان مائلا بجسده على الكونتوار يحاول ربما إقناع صاحب المقهى عله يقبله نادلا مساعدا أو بائع حرشة على واجهتها فلم يعرني أدنى لفتة. نظرت إلى الساعة الحائطية بضيق. الحادية عشرة إلا ربعا صباحا.
عندما تركنا المقهى كانت أوراق اللعب وغليونات السّبسي الأشياء الوحيدة التي تدور بانتظام ودقة بين أيدي المتحلقين في مقهى الغزالة.
سلكنا طريقا يسير باتجاه وسط المدينة. على مبعدة خمس دقائق منه سألته متأففا:
- إلى أين نحن ذاهبان؟
- سألتني من بقي حيا بالمدينة؟ تعال لأريك.
ساحة المدينة.. وسعة مفروشة بالرمل، تكاد أضلاعها تتوازى. لا ظل ينعكس فوقها والظهيرة تدنو ببطء. الشمس تتهالك في سمائها لاهثة. لهاثها شواظ تزفره بين جنباتها بحقد مبيت. فرش فقيرة مبسوطة على الأرض كملاجئ أيتام، تتكدس فوقها خرداوات وأدوات لقيطة تخطر أو لا تخطر على بال. إبريق صدئ، أواني وملاعق وسكاكين وشوكات مستعملة. كرسي خشبي من ثلاثة قوائم، مكاوي فحمية وكهربائية. معاطف حائلة ذات أزرار من خشب أو من دون أزرار. قمصان، سراويل فضفاضة، تنانير متباينة الأشكال والأحجام. فونوغراف وأقراص بلاستيكية مغبرة. إطارات صور، مزاليج، مبارغ. أقفال وكتب ومجلات مهترئة. أغطية طناجر، صنابير وألياف كهربائية..
أقلب عيني بسأم بين البسط التي لاذ أصحابها بأفاريز البنايات وأخذوا يراقبون خردواتهم بفتور.
وقف بشير أمام كومة من الأحذية. غرس يده فيها وسلّ فردة من دون رباط. لا أدري كيف رآها داخل الكومة. دقق فيها النظر. نقر كعبها المطاطي بأصابعه. نظر إليّ بظفر من عثر على صيد ثمين. لم أشاطره قناعته خصوصا أني أدنف من مجرد التفكير في دس قدمي في حذاء سميك ضخم في هذا الحر. سأل عن ثمنه. أفرد صاحبه أصابع يده من بعيد دون أن يكلف نفسه عناء المجيء إلينا. أسقط بشير الفردة بإهمال وواصلنا تسكعنا.
جانب ثان من الساحة أفرد لحلقات الفرجة القليلة، تشكل فيها بعض الدهماء واستغرقهم متابعة ما يدور بداخلها. أصوات هجينة تضج وتتمايز، ينفر من بينها صوت يلعلع في مايكروفون تصاحبه نقرات على العود لصوت يؤدي أغنية الحاج العنقا:
آش طامع في باب الجافيين تلقاه
حين غلقوا في وجهك بابهم أو صدوا

استعرضنا الحلقات القليلة بفتور مستغربا اصطلاء السوقة بنار كهذه للظفر بفرجة رخيصة. ولما لم يكن موحى والرابوز ذو الشعر الأشعث المبيض واللسان البذيء السليط صاحب إحداها فقدت اهتمامي بالساحة ولم أعد أطيق صبرا على العودة. رأيت بشير يزيغ من جانبي لاويا على حلقة جانبية. ناديته بتذمر كي يعود. لكنه لم يهتم بي وفضوله يمطط رقبته مطاولا الأعناق المنشدة إلى داخل الحلقة. لم أجد بدا من اللحاق به. دليت رأسي فوقعت عيناي على أغرب ما يمكن أن تقعا عليه بين غرائب حلقات الفرجة..
لا متاع يؤثث فضاءها، لم يكن صاحبها حاويا ولا قرادا ولا ساحرا ولا متطببا ولا كحواتيا ولا مهرجا. كل متاعه صحن زجاجي مسطح أغبر، وضعه في وسط الحلقة بينما يتبارى رجال على إلقاء نقودهم في قعره. كانوا يلثمونها بين أصابعهم، ترتعش شفاههم متمتة بأدعية مناسبة، يصوبون نظراتهم إلى قعر الصحن قبل رمياتهم، ليستردونها حسرى وقطع النقد تعاند جيوبهم وتنزلق فوق زجاج الصحن لتسقط في جيوب صاحب الحلقة الذي يلتقطها من فوق الحصى وصوته الجهير لا يملّ ترديد أرقام ومضاعفاتها كي يحفظوها جيدا: عشرة بعشرين، عشرين بربعين، مية بميتين.. اربح، اربح.. يعيد إلقاء درسه بلا ملل مثل معلم ابتدائي، ويصلصل النقود المنتفخ بها جيبه كأنما يؤكد لهم أن الأمر ليس مجرد مزحة.
طرفت إلى بشير فرأيته ساهما يتمعن في قامة الرجل القصيرة وشعره الأكرث، ووجهه الذي لوحته الشمس وياقة قميصه القذرة. يرصد حركاته وسكناته. يكاد يحصي أنفاسه، تبرق عيناه حين يراه ينحني ليكنس المال من فوق الأرض. انتبه إلى أنني كنت مستغرقا في تأمله، فقال لي متأففا: الحرّ لا يطاق.. لم لا نعود أدراجنا..
بلغنا منطقة سكننا وجسدانا يتصببان عرقا. هادننا الوقت إلى أن يحين موعد الغذاء بمراقبة فتيات مشغل للنسيج خرجن في فترة استراحة إلى أن اضطررنا للافتراق عن بعضنا حين ذهب إلى باب الجامع ليعود بوالده إلى البيت بعد أن يفرغ من صلاة الظهر واتجهت إلى بيتنا لتناول طعام الغذاء بعد تواعدنا على اللقاء مجددا تحت إملاء العادة لا الضرورة.
استسلمت لرقاد ثقيل لم أصح منه إلا على خشونة صوت المؤذن وهو ينادي لصلاة المغرب. خرجت لأنعش رئتي بدفقة هواء المساء الطري وأتنفس بعمق علّ ذلك يزيل طنينا حادا برأسي نتيجة إفراطي في النوم. فكرت بزيارة بشير. لا يمكنني السؤال عنه بطبيعة الحال في بيتهم. سـأمر بصالة البلياردو علي أجده بها أو بالفرن حيث يحلو له معاكسة حيدة الفران الأخرس.
في جانب من درب المسيرة الذي يسكن بشير في أقصاه، على رصيف بيت غير مأهول بطوابقه الثلاث، يملكه مهاجر في أوروبا يعود ليقضي به جزءا هينا من إجازة الصيف، رأيت جمعا متحلقا من شبان وأطفال. دنوت منهم ظنا مني أن الأمر يتعلق بشجار لا يفوت. سقط فكاي دهشة وأنا أثبت لقدمي موطئا بينهم وأرى بشيرا يتوسط الحلقة ويصرخ بأعلى صوته: عشرين بأربعين، مية بميتين.. وقرب قدميه صحن زجاجي، لابد أنه غافل خالتي هنية والدته وسرقه من مطبخها، ويكفيها اكتشاف فعلته كي يبيت ليال موزعا بين حصائر المعارف الخشنة وأرصفة الشوارع. ظننت الأمر مزحة سرعان ما تنتهي، وحين التقت عينانا غمز لي محييا.
كان الإقبال على حلقته كثيفا خصوصا بعد خفوت حرّ الشمس وقلة ما يمكن أن ينشغل المرء بفعله. من بين ضحاياه عرفت شابا أثرى والده حديثا في نشاط لا أحد يتكهن به. يسافر ببساطة إلى هولندا مرة كل شهرين أو ثلاثة أشهر ليعود بعد أسبوعين بحقيبة ملأى بالأوروات. بين ذهاب وأوبة اعتقال وقائي، شبهة ملتبسة، إطلاق سراح بكفالة، عقارات ومقاهي ورزم كثيرة تزكم الأنوف. كان بشير قد كبده خسارة فادحة لكنه أصرّ بنزق على مواصلة اللعب. لمحت أفرادا من طغمته، إذ قل أن يترك أمثاله بلا طغمة تصاحبه كظله، تنبري له بالنصح كي يكف عن اللعب فما وجدوا من أذنيه سوى العجين. لم يكن راضيا بخسارته وكان يظن أن الانسحاب إقرار بها، وإذا به يفاجئ الجميع حين أوقف اللعب وتطلع إلى بشير قائلا بحدة وتحدي ملوحا بورقة نقدية صقيلة:
- لماذا لا نلعب مثل الرجال؟
- ماذا تقصد؟
- أن نلعب المزايدة..
كنت أظن أن بشيرا سيرفض إشفاقا بما لمّ حتى الساعة من نقوده لكني فوجئت به يقبل ببساطة، وبدأ لعب الرجال.. في وقت ما كنت أنا من أشفق من احتقان الموقف، بعد أن نفذت نقود الشاب وطلب من بشير أن يقرضه ما يراهن به، فانسحبت بصمت.
اليوم التالي ظهرا التقيته في السويقة يحمل قفة كبيرة. بدى مرحا. سألته عن مآل مزايدة الأمس، فقال ضاحكا أن ما يدين له به الشاب فقط تجاوز أربعة آلاف درهم. لم أصدق لكني لم أجد سببا يدفعه إلى الكذب، فسألته إن كان الشاب سيدفع له ما عليه ووددت لو أضيف ألم يكفك ما نهبته من ماله. فقال وهو يتعجل الذهاب إلى الجزار حيث أوصاه على بعض السقط والهبرة لأن خالتي هنية ستعد القلية لضيوفها على مائدة العشاء:
- سيدفع، سيدفع.. عقدت معه صفقة، سيدفع ما عليه ومن جانبي لن أخبر أحدا من أسرته. هذا يناسبني لأنني في غنى عن مشاكل تأتيني من أبيه. ليتك رأيته حين استفرد بي.. طفل نادم يكاد يبكي دما وهو يستعطفني كي لا أخل باتفاقنا..
لم يعدم لحلقته مريدين كل مساء. كان ينفق فيها كل وقته وطاقته، فلم نعد نلتقي مثلما هو الحال عندما يجد عملا إلا اللمم. في الصباح كان يغط في النوم إلى الظهيرة فيخرج متثاقلا رخوا ليجلس في سطيحة مقهى الغزالة مستلذا امتصاص أنبوب منغرس في زجاجة كولا أو كوب برتقال مثلج وهو يرقب عاملات مشغل النسيج اللواتي أنهين دوامهن الصباحي.
بعد القلية جاء الدور على الحذاء الجلدي الجديد بعد أن غير مداسه الضخم المخصوف الذي باعه إياه يوما رصّاص سكير بثمن بخس، وقميص الحرير الموشى بسعوف استوائية وشطئان لازوردية. قد تنطوي السنة الدراسية كاملة دون أن يغير ملابسه، وحين رأيته بالحذاء والقميص الجديدين بدى لي مثل قط ميازيب سلخ فروته واستبدلها بفروة قط صالونات مخملية. تذكرت يوم تخلصنا فيه من كتبنا ودفاترنا المدرسية في حانوت حسن الحمامصي واشترينا قنينتي دجين وريكار وبقينا في الكريان نشرب إلى أن ثملنا، وكان بشير رخوا مثل إسفنجة مبللة، وفي الطريق ونحن عائدان إلى المدينة تطاول على بدويين يجدان صوب دوارهما ولاحاهما فكادا يفتكان به لو لم أتدخل لأنقذه من براثنهما. كانت أول مرة نسكر فيها معا.
لم يكن الحفاظ على ائتلاف الحلقة كل مساء أمرا هينا. بلغني أن قريب المهاجر الذي يتفقد بيته بالزيارة أخبره أنه غير مرغوب فيه أمام منزل قريبه، بل هدده بالإتصال به خصيصا وإبلاغه بالجوقة التي يجمعها أمام باب داره. لم تنته متاعبه عند هذا الحد. كان يبدو أن مقدم الحومة قد وجه راداراته وأنتيناته تجاهه وأنه أخبره مرارا بتذمر الجيران، وأن منهم من يريد التبليغ عنه فيما لم ير طرف آخر أجدى من عضلاته خصوصا أمام شاب صعب المراس مثل بشير، وبرأ ذمته مما قد يحصل له وتركه. كان المسدس محشوا بالرصاص والمسألة ليست سوى من سيضغط الزناد. أكثرنا تفاؤلا لم يكن يراهن على أيام معدودات قبل أن يتخلص بشير من عادته في استراق النظر ظهرا إلى فتيات المشغل ويضطر للاستيقاظ مع الحبش والديك الرومي ليبحث عن ورش بناء أو عربة تقله ليعزق الحقول.
لكن بشير سفه كل ما قيل ويقال، وأثبت مرة أخرى أنه شاطر بالحساب ولا يترك شيئا للصدفة محافظا على دوران الصحن كل مساء. أما في البيت فأصبح بؤبؤي عيني والدته، تغدق عليه من زاد رضاها الأمومي بغير حساب ليلا ونهارا بعباراتها التي تبدو كأنها خرجت من إحدى القماقم السليمانية: سر يا ولدي الله يبعد عليك ولاد الحرام.. سر يا ولدي الله يعمي حسادك ويجعلك تشوف قبرهم قبل ما يشوفوا قبرك.. كما أن الأختين الشرستين نسيتا عنوستهما وأصبحتا تسعيان لنيل مرضاته وتعرضان عن إيغار صدر أمهما ضده. وحينما سألته يوما التقيت به إلى متى ستظل توقع بالمغفلين كل مساء أجابني: إلى أن تجد الناس شيئا آخر تطعم عليه غير الصحون.
**
في اليوم التالي خرجت متأخرا بعد قيلولة مضطربة وتلكؤ عقيم بالبيت، نشب فيه شجار بيني وبين أختي التي تكبرني بسنتين، من آثاره كدمة على وجنتها وآثار خمش فوق عنقي وخدي الأيمن. تجولت قليلا بين أزقة حينا الهادئ وأنوار مصابيحها طافحة فوق غسق المساء مثل رغوة الحليب فوق فنجان الماكياتو.
في درب المسيرة فوجئت بصمت مريب ملغّم يتفشى في كل جنباته. القليل من الناس الذين صادفتهم فضلوا الانزواء وعلى غير عادتهم تلحفوا بالحذر وخفضوا أصواتهم وهم يخوضون في أحاديث جانبية. تعمق الصمت أكثر أو هكذا خلت وأنا أدنو من بيت المهاجر. طواره الذي لم يشذ عن قاعدة الخرس خال تماما. اقتربت أكثر بتوجس فراعتني رؤية شظايا زجاج مبعثرة. اهتز صدري على وقع ضربات قلبي العنيفة. ثمة بقع دم متخثر على الأرض أيضا. شعرت بحركة ورائي. لويت رقبتي فجأة لأرى با المحجوب بائع الديطاي يرش رملا فوق بقعة أخرى في الجهة المقابلة حيث يوجد دكان ابراهيم البقال. اقتربت منه سائلا بحلق ناشف ما الذي جرى؟
- كان شجارا رهيبا كادت فيه الروح تزهق لولا الألطاف الربانية..
- من تشاجر؟
- حذرتهم مرارا فلم يلقوا بالا إلي.. قالوا أن با المحجوب يخرف..
- من تشاجر؟ ألحفت في سؤاله. تجاهلني ودلف إلى دكان بقالة ابراهيم ليحضر مكنسة أخذ يمررها على الأرض كانسا شظايا الزجاج.
- هل أتى البوليس؟
لم يرفع رأسه إلي مواصلا كنسه فهتفت بصوت مرتفع قصدت به تجاوز سمع با المحجوب:
- التابعة هذي يا با المحجوب..
با المحجوب.. وا با المحجوب. صوت ممطوط ملحاح ناداه من دكان البقالة. حمل مكنسته ومضى يعرج وغاب في الدكان. كان صوت ابراهيم البقال الذي رخص له باستغلال منجم الذهب؛ بيع سجائر الديطاي أمام واجهة دكانه. إن لم يكن بشير فبا المحجوب، وإن لم يكن با المحجوب فلائحة الإنتظار طويلة بما يكفي ويفي.. تركني أجتر حيرتي. نظرت إلى كتل الرمال الصغيرة التي لم تخف بقع الدم الغزير بعد أن تشربتها. لا أستبعد أن يكون با المحجوب واشيا لأن بشير ناهيك عن خدعة الصحن قل أن يخلو جيبه من علبة سجائر. لم يكن يدخنها بل كان يبيع لمن يطلبها ليدبر مصروف جيبه. لماذا لا أقر أن بشير أخطأ الحساب هذه المرة؟ ما كدت أولي بيت المهاجر وبقالة ابراهيم المقابلة له ظهري حتى سمعت عويلا وولولة نساء قادمة من أقصى الزقاق.
البلد
المغرب
أعلى