فدوى القاسم - نهداي وأنا

(1)
لا يتركانني وشأني.
هكذا أبداً لست وحدي، دائماً هما معي.
إن حاولت أن أنسى، أتناسى، أنهما معي دوماً، فلا مجال، حركة بسيطة تجعلهما يختلجان، يهتزان، يرتعشان. وكلما تثاءب البدر، أشعر بهما يكبران، ينضجان، يؤلمانني قليلاً، تزداد حساسيتهما.
علاقتي بهما حائرة، حنونة، مجنونة، يداعبانني بوجودهما، بثقلهما، بإعاقتهما لحركتي.
نهداي وأنا.

(2)
تفتح وعيي وأنا أحلم بهما.
طفلة تتفرج على الناهدات صاحبات القمم العالية، الكبيرة، المتماسكة.
كنت أحلم بأن يصبح لدي ما لديهن، أن أستيقظ ذات صباح لأجد في المساحة ما بين عنقي وخصري جبلين صلبين، جميلين.

أحببت الالتصاق بأمي.
زيارات صباحية، تسوق، محلات الخياطة، القبوع في غرف تبديل الملابس، ابتداع طرق لاستراق نظرات فضولية. كم تحملت مللي لأبحث عنها، تلك التفاصيل.. ما رأيته كان قليلاً، لكنه كان جميلاً، كافياً ليغذي أمنيتي.
كانت النساء من حولي توصدن ستائر وأبواباً. تغلفن أجسادهن بمناشف، بحذر، بحياء، بخجل حتى من أنفسهن.
فهمت ذلك عندما كبرت، عندما بدأت تلالي الصغيرة بالظهور. كانت مجرد تورمات ضئيلة، لا يراهما سواي، ولا يميز تحولاتهما سواي. كان يزعجني جداً حجمهما الصغير جداً. ظننت أن هذا فقط نصيبي، هذه فقط حصتي، مجرد تلتين سخيفتين، وأنا كنت أريد الانضمام إلى النساء.

(3)
لا أدرك حتى الآن أين اختفت تلك اللحظة الفاصلة؟ متى استيقظت من النوم جسداً ينضح بالأنوثة، وروحاً تنضح بالطفولة؟
صحوت ونهداي قد تفجرا دون إذن مني.
أصبحا أول من يستقبل دفء الشمس صباحاً، وآخر قمم تنزلق عنها قطرات الندى مساء.
تحديا قمصاني، فساتيني، سريري، مرآتي.
خيالهما في الأيام المشمسة الكثيرة كان يفضح سري عندما ينسكب على جدار أو أرض، أو على عابر سبيل يمر بقربي.
اقتحما المساحات أمامي، يسبقانني أينما ذهبت. لا يقف في طريقهما شيء. يجرانني خلفهما. ينطلقا أبداً إلى السماء، مندفعان إلى الأمام كدعوة، عنواناً صريحاً، متمرداً، صارخاً لأنوثتي.
يلفتا الأنظار رغماً عني.
يتحاورا مع من أمامي، رغماً عني.
يثيرا الغيرة، الحقد، الشهوة. أحياناً الاشمئزاز.
أصبح زر مفتوح يسبب احمرار واحتقان وجوه، نساءً ورجالاً، وزر مغلق يحدث حالة ترقب، تأمل، انتظار.

(4)

نهداي أصبحا يفتحان أبواباً، يحطمان حواجز، يبنيان جسور، يختصران طرقاً، مجهوداً، وقتاً.. حتى تم اختصاري أنا لرطلين من لحم نافرين.

لم تعد هناك حاجة لأكون.

نسي كثيرون اسمي، وكثيرون لم يتعرفوا على اسمي أصلاً. ويهجم السؤال عند ذكري: هل هي تلك كبيرة الثديين؟

ملامحي كافة اندثرت داخل ذلك المكان الدافئ بينهما، تلك الفجوة الضيقة، العميقة، بينهما…

كافية كانت ليغض النظر عن نواقص، عن مسؤوليات، عن تقصير…

مسارات حياتي جميعها اكتظت بوجودهما، فما كنت أقوى على التنفس.

حتى قلبي، الذي كنت أرقب انفعالاته خلف بشرة رقيقة، شفافة، لم يعد ملكي. هو أيضاً قابع في ذلك المكان بينهما، لا أستطيع الوصول إليه إلا عبرهما. ينبض لأجلهما، ينبض خلفهما، فينبثق منهما ضوء ينادي للحياة، يقبلها – رغماً عني.

حاولت. حاولت أن استعيد نفسي منهما، أن التقطتها فأضعها أمامهما، قبلهما. حاولت أن أكون أنا أكبر منهما. فجرت قنابل بعقلي، بفكري، بلساني. تماديت، تمردت، بالغت، جننت… طالبت بالتركيز على حديثي، على آرائي، أو حتى على عيني، على شفتي، على شعري، خصري، سيقاني، يدي.. ناديت، رفعت صوتي… دوماً كان صوتهما أعلى.

تمنيت أن يغلبني أحدهم، أن يوبخني أحدهم، أن أثير غضب أحدهم. دوماً كان ثدياي كتاب غفراني من كل إثم.

(5)

ألا يقال أن اليد ستبوح يوماً بأسرارها؟ أما أنا، فثدياي يبوحان يومياً بأسرار الآخرين … بأصواتهم، بصلواتهم، بعجزهم، بحرمانهم، بكبتهم.

لحظة واحدة راودتني فيها فكرة تصغيرهما جراحياً، ولم أفعل لأنني، مثل الآخرين، أحبهما.

لأنني تمنيتهما، لأنهما ثدياي، لأنهما نهداي أنا، لأنهما مني، جزء من هويتي، ولم أقل من جمالي، إنما من شعوري بالجمال… أحبهما. أليس ظلماً أن تهزمهما هزيمة الآخرين؟

لن أخفيهما تحت مواعظ، وعبارات العيب، وأمتار وفيرة من قماش أسود سميك.

لن أعتذر عن وجودهما، عن بروزهما.

لن أعتذر عما أنفقته من دعاء للحصول عليهما.

لن أعتذر عن حقي كأنثى بأن أحلم بأنوثتي .. خاصة بعد أن قبلهما حبيبي، فوصل عبرهما إلى أعماق، أعماق تلك الفتاة الصغيرة التي هي أنا.

قبلهما وقال لي: “إنهما رائعان. أشعر أنهما شعاران لك، يرفرفان ليعلنا للملأ بياناً للجمال. أنهما انتصار لكل أنوثة الشرق!”




* Modigliani
Seated Nude
1917


.




صورة مفقودة
 
ج

جوتيار تمر

محاكاة رهيبة تجعل من التواري خلف التشكيلات الواهية امراً مستحيلاً.. التصوير واضح فائق الدقة، والتمازج بين الذات والرؤية والصورة امر جعل من المتلقي يعيش حالة التحام باللحظة الرائدة التي انبثقت منها هذه الايقونة...
محبتي
جوتيار تمر
 
أعلى