عبد الفتاح كيليطو - ألف ليلة وليلة.. حكاية كافور

ما الذي يدفع بأشخاص ألف ليلة وليلة إلى رواية حكايتهم؟ يتعلق الأمر في أغلب الأحيان بتعليل ما أصابهم من تعاسة أو خسارة؛ فهذا شخص يحكي كيف فقد إحدى عينيه، وآخر كيف تحجر نصفه التحتاني إلى قدميه، وثالث كيف صار وجهه أصفر كالزعفران…
في هذا الإطار سأتعرض إلى جانب من “حكاية التاجر أيوب وابنه غانم وبنته فتنة”(1)؛ وتنطلق هذه الحكاية بمشهد ثلاثة من العبيد يلتقون ذات ليلة ويروي كل واحد منهم “سبب تطويشه”، أي إخصائه (يتبين من خلال محادثتهم رغبتهم في أكل لحم البشر، مما يدفع إلى التساؤل عن علاقة هذه الشراهة بالإخصاء). العبد الأول أخصي لأنه أزال بكارة بنت سيده، والثالث لأنه نكح سيدته؛ أما الثاني، واسمه كافور، فأخصي لأنه كذب على أسياده، وسيشكل سرده لما حل به موضوع هذا البحث السريع.
منذ نعومة أظفاره، اكتسب كافور عادة سيئة حدا: “اعلموا يا إخوتي أني كنت في ابتداء أمري ابن ثماني سنين، ولكن كنت أكذب على الجلابة في كل سنة كذبة حتى يقعوا في بعضهم، فقلق مني الجلاب وأنزلني في يد الدلال وأمره أن ينادي: من يشتري هذا العبد على عيبه؟ فقيل له: وما عيبه؟ قال: يكذب في سنة كذبة واحدة، فتقدم رجل تاجر […] ومكثت عنده باقي سني إلى أن هلت السنة الجديدة بالخير، وكانت سنة مباركة مخصبة بالنبات، فصار التجار يعملون العزومات وكل يوم على واحد منهم إلى أن جاءت العزومة على سيدي في بستان خارج البلد، فراح هو والتجار وأخذ لهم ما يحتاجون إليه من أكل وغيره […] فاحتاج سيدي إلى مصلحة من البيت فقال: يا عبد اركب البغلة ورح إلى المنزل وهات من سيدتك الحاجة الفلانية […] فلما قربت من المنزل صرخت وأرخيت الدموع فاجتمع أهل الحارة كبارا وصغارا وسمعت صوتي زوجة سيدي […] فقلت لهم: إن سيدي كان جالسا تحت حائط قديمة هو وأصحابه فوقعت عليهم […] فلما سمع أولاده وزوجته ذلك الكلام صرخوا وشقوا ثيابهم ولطموا على وجوههم فأتت إليهم الجيران، وأما زوجة سيدي فإنها قلبت متاع البيت بعضه على بعض وخلعت رفوفه وكسرت طبقاته وشبابيكه[…] ثم خرجت سيدتي مكشوفة الوجه بغطاء رأسها لا غير وخرج معها البنات والأولاد وقالوا: يا كافور امش قدامنا وأرنا مكان سيدك الذي هو ميت تحت الحائط حتى نخرجه من تحت الردم ونحمله في تابوت[…] فلم يبق أحد من الرجال ولا من النساء ولا من الصبيان ولا صبية ولا عجوز إلا جاء معنا[…] وأنا قدامهم أبكي وأصيح […] فلما رآني سيدي بهت واصفر لونه وقال: ما لك يا كافور وما هذا الحال وما الخبر. فقلت له: إنك لما أرسلتني إلى البيت لأجيء لك بالذي طلبته، رحت إلى البيت ودخلته فرأيت الحائط التي في القاعة وقعت فانهدمت القاعة كلها على سيدتي وأولادها”.
والعجيب في الأمر أن كافور، عندما بانت الحقيقة، لم يتملكه الذعر من عقاب محتمل ولم يأبه بتهديدات سيده، بل جابهه بوقاحة وصلف، وبقدرة فائقة على المماحكة والمنازعة: “والله ما تقدر أن تعمل معي شيئا لأنك قد اشتريتني على عيبي بهذا الشرط والشهود يشهدون عليك […] وهو أني أكذب في كل سنة كذبة واحدة، وهذه نصف كذبة، فإذا كملت السنة كذبت نصفها الآخر فتبقى كذبة كاملة”.
مرة كل سنة، يصاب كافور بأزمة لا يستطيع التغلب عليها، بنوبة قاهرة، أو بحال من الأحوال يجبره على اختلاق أكذوبة. لكن اللافت للانتباه أنه يتصرف وكأن ما يرويه صحيح ومطابق للواقع، فلا يبدو أنه يلعب دورا أو يتصنع، ولا يمكن الجزم بأنه يعي كل الوعي أنه يكذب؛ فحتى عندما يتعرف أسياده على كنه الأمر، أي على سلامتهم، يظل برهة يصيح ويبكي ويحثو التراب على رأسه وكأنهم ماتوا فعلا وكأن ما اختلق هو الحق بعينه. إنه، ويا للمفارقة، سليم الطوية صادق مع نفسه حين يكذب!
تتعين الإشارة هنا إلى أن حكاية كافور مدرجة في حكاية أخرى يدور موضوعها أيضا حول الكذب. وخلاصتها أن زبيدة، زوجة هارون الرشيد، غارت من قوت القلوب، محظية الخليفة، فسعت أثناء غيابه إلى تخديرها، وأمرت العبيد الثلاثة، ومن جملتهم كافور، بدفنها حية خارج القصر (وهذه نقطة التقاء مع حكاية كافور الذي ادعى أن أسياده ماتوا تحت الأنقاض). ثم أمرت نجارا أن يعمل صورة من خشب “على هيئة ابن آدم”، وبعد ذلك كفنتها ودفنتها في قصرها. ولما عاد الخليفة من سفره، قيل له إن قوت القلوب ماتت، فـ”صار حائرا في أمره، ولم يزل بين مصدق ومكذب، فلما غلب عليه الوسواس أمر بحفر القبر وإخراجها منه، فلما رأى الكفن وأراد أن يزيله عنها ليراها خاف من الله تعالى، وهكذا انطلت الحيلة عليه(2)… أما المحظية، فإن شابا اسمه غانم أخرجها من القبر الذي دفنت فيه خارج المدينة وخلصها من موت محقق (وهذه نقطة التقاء ثانية مع حكاية كافور، حيث يتبين أن الأسياد أحياء، فكأنهم والحالة هذه خرجوا من تحت الأنقاض). وكما ينتظر القارئ المبتلى بقراءة الحكايات، فإن غانم وقوت القلوب “أحب بعضهما بعضا”؛ ولكن ما تكاد تقص قصتها، حتى يشعر بالرعب والهلع، فبعد أن كان يراودها عن نفسها بإلحاح، صار “يتمنع عنها خوفا من الخليفة”؛ أي أنه تحول، بمعنى من المعاني، إلى مخصي. فإذا كان كافور قد أخصي لأنه تكلم، فإن غانم أخصي لأنه استمع. إن رواية حكاية والاستماع إليها أمر لا يكون دائما محمود العواقب(3).
غني عن القول إن كذبة كافور أثارت البلبلة والفوضى، فإذا بالمدينة كلها في حالة انفعال وهياج؛ إنه الشخص الذي تأتي الفضيحة على يده. قد نفسر نزعته إلى الكذب برغبة في الانتقام، بإرادة خفية في قتل أسياده وإتلاف ممتلكاتهم، إلا أنه، ومهما كانت حوافزه الدفينة، حريص على إقناع سيده، الحانق عليه، بأنه لم يخف عنه أبدا عيبه (أي حقيقته!)؛ فمن وجهة نظره تصرف باستقامة وأمانة، ولهذا ليس عنده أي شعور بالذنب، أما التوبة فليست داخلة في حسابه. لا يوقظ الكذب عنده مشكلا أخلاقيا، وإنما مشكلا من نوع إستطيقي، إذا اعتبرنا أن الكذب بالنسبة إليه شيء شبيه بتحفة فنية تتطلب سنة من التحضير والإعداد لكي تصير “كاملة”؛ وهذا يذكرنا بحوليات زهير بن أبي سلمى (المصنف ضمن “عبيد الشعر”)، الذي كان يقضي حولا كاملا في إنشاء قصيدة وتنقيحها وتثقيفها. ومن أجل تأمين الوقت اللازم لإنهاء تحفته، يرفض كافور الإنعتاق من العبودية الذي يقترحه عليه سيده ليتخلص منه ويستريح من أكاذيبه: “والله إن أعتقتني أنت ما أعتقك أنا حتى تكمل السنة وأكذب نصف الكذبة الباقي، وبعد أن أتمها فانزل بي إلى السوق وبعني بما اشتريتني به على عيبي”.
حدث هذا عندما “هلت السنة الجديدة”، وهو ما يتوافق في النص مع فصل الربيع (“وكانت سنة مباركة مخصبة بالنبات”). فكما أن الطبيعة تنتج البراعم والفواكه، فإن كافور ينتج الأكاذيب، بحيث إن إمراع خياله يقابل خصوبة الأرض ووفرة نباتها.
وهنا نتساءل: ألا تتضمن هذه الحكاية أثرا أو بقية من عادة غابرة، عادة الكذب مرة في السنة، عند بداية أبريل؟ وللتذكير فإن التقويم الروماني القديم كان يبدأ بالضبط مع هذا الشهر! وهذه العادة (الهند-أوروبية) كان المقصود منها الاحتفال بالسنة الجديدة، وكانت مرتبطة عند الرومان بعيد المجانين وملاهي الكرنفال(4). ولعل في حكايتنا صدى لهذا الطقس، إذا ما اعتبرنا الموكب الذي اتجه خارج المدينة، نحو البستان، حيث لقي السيد وأصحابه مصرعهم كما زعم كافور، وهو موكب عجيب اشترك فيه أشخاص من شتى الفئات والأعمار، وهم “مكشوفو الوجوه والرؤوس”. ولعل في هذا الطقس أيضا ما يفسر الحق في الكذب الذي يطالب به كافور، وعدم مبالاته بما قد يترتب عن فعلته من عقاب.
لكن سيده لا ينظر إلى الأمور بهذا المنظار: “ثم ذهب من شدة غيظه إلى الوالي فضربني علقة شديدة حتى غبت عن الدنيا وغشي علي، فأتاني بالمزين في حال غشيتي فخصاني وكواني،فلما أفقت وجدت نفسي خصيا، وقال لي سيدي: مثل ما أحرقت قلبي على أعز الشيء عندي أحرقت قلبك على أعز الشيء عندك”. بخلاف العبدين الآخرين، لم يقترف كافور خطيئة الفسق، لم يستسلم لنزوة جنسية، وإنما ارتكب ذنبا لسانيا، فلسانه هو الذي حمله على الزلل. ولا شك أنه حريص كل الحرص على سلامة هذا العضو، إذ لولاه لزال “عيبه”، وهو عيب يتشبث به ويعتني به أيما عناية، وكيف لا وهو حقيقته وقوام شخصيته ووجوده؟ وهذا ما غاب عن سيده الذي لم يقطع لسانه، أعز الشيء عنده، فلم يقتص منه والحالة هذه كما يجب؛ وعليه فإن انتقامه ناقص، تماما كما أن كذبة كافور غير كاملة.
في دراسة سابقة(5)، تطرقت بصفة عابرة لهذه الحكاية وتساءلت عما إذا أقلع كافور، بعد إخصائه، عن اختلاق كذبته السنوية. لسبب أو لآخر اعتقدت أنه تاب بعد العملية التي أجريت له، لا سيما وأنه يعترف بانهياره (“وقد انكسرت نفسي وضعفت قوتي وعدمت خصاي”). لكنني أخطأت في التقدير ولم أنتبه جيدا إلى النص، وبالفعل فإن كافور لم يغير ما بنفسه على الإطلاق: “وما زلت ألقي الفتن في الأماكن التي أباع فيها”. لقد ظل متمسكا بعيبه، وإن كنا لا نعلم شيئا عن أكاذيبه التالية خلال تطوافه من سيد إلى سيد؛ ذلك أنه لم يرو للعبدين إلا الحكاية التي كانت سبب “تطويشه”. وطبعا يمكن أن نتساءل عما إذا كان صادقا فيما رواه. بعبارة أخرى، ألا يكذب عندما يعلن أنه يكذب؟ أليست الحكاية التي يرويها للعبدين المخصيين نابعة أيضا من نزعته السنوية إلى الكذب؟

الهوامش

1 – ألف ليلة وليلة، القاهرة، المطبعة العامرة العثمانية، الطبعة الثالثة، 1311، ص 123-136.
2 – في الترجمة الفرنسية لماردروس (باريس، منشورات روبير لافون، مجموعة “بوكان”، 1980، ا، ص 282)، نقرأ أن الخليفة “رأى الصورة الخشبية مغطاة بالكفن فظن أنها محظيته”.
3 – انظر تسفيطان طوضوروف، “الرجال-الحكايات”، شعرية النثر (بالفرنسية)، باريس، منشورات لوسوي، 1971، ص 87.
4 – استقيت هذه المعلومات من بعض الموسوعات.
5 – العين والإبرة، ترجمة مصطفى النحال، الدار البيضاء، نشر الفنك، 1996، ص 18.


* من كتاب “أنبئوني بالرؤيا” – عبد الفتاح كيليطو

.
 
أعلى