علي الشدوي - كتاب ألف ليلة وليلة

يعتبر وجود كتاب ألف ليلة وليلة خطوة لا مثيل لها لا بالنسبة لتطور السرد العربي وحده ، إنما لتطور السرد العالمي والتفكير الفني لكتاب البشرية العظام ، ولقد سرد لنا أحد كبار كتاب العالم كيف أن ألف ليلة وليلة قد جعلت كولريدج يستوطن عالم الاتساع بسبب قراءته لهذا الكتاب العظيم ، وأن وردزورث وصفه بكنز طفولته والوعد الذي يندر أن يكون دنيويا .
لقد وقع العديد من كبار كتاب العالم تحت إغراء ألف ليلة وليلة ، كإدغار ألن بو الذي وقع تحت تأثير كتابة الليلة الثانية بعد الألف ، وجوزيف روث الذي تعيش شهرزاده أيام انحطاط الإمبراطورية النمساوية ، وجون بارت الذي يحكي لشهرزاد الحكايات التي يجب أن تحكيها ، ومارسيل بروست الذي رأى نفسه في صورة شهرزاد ، وخورخي لويس بورخس الذي كتب أجمل قصصه عن الليلة التي تقع في منتصف ألف ليلة وليلة .
لم يقف التأثير عند هذا الحد إذ يؤكد أحد الكتاب الكبار( امبرتو إيكو ) وهو يراجع حصيلة المعرفة الإنسانية في ألف سنة مضت أن الروايات الكبرى في الثقافة الغربية من دون كيخوته إلى الحرب والسلام ، من موبي ديك إلى الدكتور فاوست قد كتبت في ظل ألف ليلة وليلة .

***

الكتاب الذي لم نعرف قيمته

في مقابل احتفاء الثقافة الغربية بكتاب ألف ليلة وليلة ، لم ترفع الثقافة العربية الإسلامية حكايات ألف ليلة وليلة إلى مرتبة النص ، ولم تسع إلى أن تحتفظ بها ، أو أن تخشى عليها من الضياع .، كما أنها لم تشرح أو تؤول ، ولم تدرج في كتب المنتخبات والاختيارات التي كانت شائعة في الثقافة العربية ، وحتى في أيامنا هذه لم تدرج في المؤسسات التربوية ، ولم يقم حولها في الغالب دراسات معتبرة في المؤسسات العلمية العربية .

إن مقارنة كتاب ألف ليلة وليلة ، بكتاب مثل كتاب كليلة ودمنة تثبت أن قسمة تاريخية تشكلت بين نصوص مركزية وأخرى هامشية ؛ ذلك أن الثقافة العربية الإسلامية تصرفت تصرفا متواطئا مع طبقة اجتماعية في النظرة المعادية لحكايات ألف ليلة وليلة ، ومما يثير الأسف أن الطرفين ( الثقافة والطبقة ) أديا عبر تهميشهما حكايات الليالي ، ودعمهما الإجراءات التي تهمشها إلى أن جعلا منها تسلية وغير جديرة بالاحترام عند القارئ العربي .

ربما أوضح الحكم القديم على ألف ليلة وليلة ما أعنيه ، فالوصف بالغث وبرودة الحديث الذي وصفت به حكايات ألف ليلة وليلة حدث مع أكثر من نوع أدبي وبمؤدين مختلفين ، والفكرة الأساس لهذا الوصف هي افتقاد القيمة الأدبية ، فالفعل ( غث ) يتضمن بشكل ملموس الرداءة والهزال ، ويستند إلى فكرة بناء غير متماسك ورديء وهش .

لقد ظل وصف ابن النديم هذا غامضا لأنه لم يقدم تعليلا ، وغير دقيق لأنه لم يكلف نفسه تحليل الكتاب ، لكن الأهمية الكبرى لهذا الوصف تكمن في كونه حكما عرضيا يبين القيمة ، والأحكام العرضية عادة لا تنتمي إلى النقد بل إلى تاريخ الذوق الذي يشير إلى تحيز ديني أو سياسي أو طبقي وهذا ما حدث مع ألف ليلة ولية .

***

فخ الأجهزة الثقافية

تربط المصادر العربية القديمة بين حكايات ألف ليلة وليلة وبين الخرافة ، سأشير هنا إلى ما أورده المسعودي في كتاب مروج الذهب وأبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة وابن النديم في الفهرست ، لقد كان من الصعب على هؤلاء إدراك حكايات ألف ليلة وليلة من غير أن يربطوها بالخرافة .

لم يقتصر الربط على هذه المصادر التاريخية والقصصية والإخبارية بل شمل أيضا المصادر الدينية ، سأشير مرة أخرى إلى الصياغة النظرية لموقف الدين من السرد عند ابن الجوزي والغزالي اللذين وضعا السرد لا سيما الخرافات ومن ضمنها حكايات ألف ليلة وليلة ، وضعاه في منزلة أدنى لا تستحق الالتفات لأنها لم توجه لتحقيق أغراض وعظية أو أخلاقية في ظل تصور ديني محكم للتعامل مع السرد إنتاجا وتلقيا .

لقد كان لهذا الربط نتائجة إذ قدمت حكايات ألف ليلة وليلة إلى القارىء العربي بصورة غير مرغوب فيها فهي أخبار موضوعة عند المسعودي ، وكتاب غث بارد الحديث عند ابن النديم ، وضرب من الخرافات عند أبي حيان التوحيدي . لقد نظروا إليها من حيث هي نوع من الأسمار لا تصلح فهمشوها وقصروها على التسلية في المسامرات التي لا تصلح لعقولهم الرصينة .

ثمة نتيجة أخرى هي أنهم اعتبروا حكايات ألف ليلة وليلة غير مقنعة ، إن عبارة أخبار موضوعة تعني إسناد ما لا حقيقة له إلى ما لا وجود له ، وبرودة الحديث تعني لغة ألف ليلة وليلة الفقيرة وأسلوبها التكراري وتراكيبها التقريبية ، أما النتيجة الأكثر أثرا فقد كانت من قبل الفقهاء والوعاظ والمذكرين حينما وصفوها بهذيان عقل مشوش وخطاب بذيء ولا أخلاقي .

على امتداد تاريخ الثقافة العربية وصف الفقهاء نصوصا بأنها تافهة ؛ لا لشيء إلا لكي يبطلوا آثارها وكم هي النصوص العربية – ومنها ألف ليلة وليلة - وقعت في فخ أجهزة ثقافية ذرتها وأفرغتها من المعنى .

***

أفكار قيمة

عربيا جرى تلمس الخصائص التكوينية والصنفية لحكايات ألف ليلة وليلة ولأول مرة فيما أعلم على يد عبد الفتاح كيليطو في كتابه الأدب والغرابة ، في هذا الكتاب الصغير الحجم العظيم الأثر والفائدة ، يحدثنا بمتعة يقظة وماكرة عن حكايات السندباد ، وعن المصطبة التي تفصل بين عالمين هما عالم البر والفقر من جهة ، وعالم البحر والغنى من جهة أخرى ، يحدثنا عن الباب الذي اجتازه السندباد البري حينما طلبه السندباد البحري ، مما جعل الباب يكتسب صيغة رمزية تفصل بين فضائين مختلفين .

بحسب كيليطو لو بقي السندباد في فضائه المألوف ، ولم ينتقل إلى فضاء غير مألوف ، لما كان هناك حكاية ، إذ إن شرط الحكاية هو الانتقال واجتياز العتبة الفاصلة بين فضائين، وما لم يكن هناك انتقال فلن يكون هناك سرد ، فالسندباد البحري لم ينتقل بعد السفرة السابعة ،وبذلك انتهت حكاياته ، ولم يتبق له إلا أن يضع نقطة الختام .

من شرط الانتقال ، ينتقل كيليطو إلى استنتاج صفات العالم الغريب الذي وصل إليه السندباد ، ويحددها في أربع صفات ، تتعلق بحجم المخلوقات الذي يختلف عما هو شائع في العالم المألوف ضخامة ودقة ،و مزج المتناقضات والمتنافرات حينما تتجاور في العالم الغريب أشياء نفيسة مع كائنات مخيفة ، ووجود شعائر وعادات لم تكن تدور في خلد السندباد ، وأخيرا التسمية حيث لا ينجح السندباد في تسمية الأشياء التي رآها ، وحينما يسميها تتكشف تسميته عن خدعة .

هذه هي الأفكار القيمة التي توصل إليها كيليطو ؛ لأنه تناول حكايات السندباد من جانب تكوينها ، وسلط الأضواء على خصائصها الجوهرية ، غير أن هذه الأضواء فيما أعتقد غير كافية ، فهو لم يبين بأية صورة يصبح الانتقال مبدأ خاصا بحكايات السندباد ،ذلك أن الانتقال ممكن في كل أنواع السرد ، وهو موجود في الرحلة والمقامة والحكاية الشعبية .

كما أن صفات العالم الغريب التي توقف عندها ، لا تقتصر على حكايات السندباد العجيبة والغريبة ، بل هي موجودة في كتب الرحلات ، وفي كتب الجغرافيا القديمة ، وفي كتب العجيب والغريب ، و كتب التفسير ، و مالم يقم به كيليطو هو أنه لم يبين بأي صورة تصبح هذه الصفات مبدأ خاصا بحكايات السندباد العجيبة والغريبة .

إن الصفات التي استنتجها كيليطو للعالم الغريب هي في الحقيقة صفات للمحتوى ( العجيب والغريب ) وليس للظرف ( المكان الغريب ) ، ومع ذلك يجب أن نعترف بأن عبد الفتاح كيليطو هو مؤسس دراسات الحكاية العجيبة والغريبة ، وهو الذي بشر بوجود هذا النوع السردي القديم في كتاب ألف ليلة وليلة .

***

هدأة العقل النقدي

عند تصفح الدراسات والأبحاث والكتب ،التي خصصت لكتاب ألف ليلة وليلة يتكون انطباع بأن الحديث فيها لا يدور حول الحكاية العجيبة الغريبة ، بل يدور حول سلسلة متكاملة من الآراء التاريخية والاجتماعية ، وآراء أخرى تقويمية تتعلق بأصول الكتاب ، ومؤلفه ، ومصادره وتاريخ جمعة ، وآراء ثالثة تقريبية تتعلق بمضمون حكاياته ومجادلات لموقف الإسلام منها ، إضافة إلى آراء تتعلق بالطبقة الاجتماعية التي تقرأ الحكايات أو تستمع إليها ، وتفاصيل متناثرة تتعلق بحسد المرأة ، والفوضى الجنسية ، والتحرر ، والتشويق والرغبة والتحليل النفسي .

الأخطر في هذه الدراسات هو النظر إلى حكايات ألف ليلة وليلة على أنها خرافة ، أو حكاية شعبية ، أو سيرة شعبية ، أو حكاية مرحة ، أو حكاية شطارية ، لقد شكلت هذه المفاهيم عائقا كبيرا أمام دراسات الحكاية في ألف ليلة وليلة التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تخضع لخصوصيات هذه الأنواع السردية .

إن خصوصية الحكاية في ألف ليلة وليلة تكمن في أنها لا تتضمن أيا مما قاله النقد إلى الآن ؛ ذلك أن الدراسات النقدية مازالت صدى مباشر لهذه الأنواع السردية السائدة في التراث العربي الأمر الذي أدى إلى استيعاب الخصائص الفنية لحكايات الليالي في ضوء هذه الأنواع التقليدية والقديمة . هذه الدراسات على أهميتها تخفي وراءها ما هو تصوري أهم أعني الخصائص الإبداعية للحكاية العجيبة الغريبة في كتاب ألف ليلة وليلة .

ما يسميه جابر عصفور " هدأة العقل النقدي " في مقدمة عديين من مجلة فصول مكرسين لحكايات الف ليلة وليلة ، لم يقد إلى دراسة الخصائص والتكوينية لحكايات ألف ليلة وليلة العجيبة الغريبة بل قاد إلى " معنى النقد الاجتماعي ودلالة الاتجاه الديني ورمزية الشخوص ومستويات الحوار ، جنبا إلى جنب مع مذاهب القصاص في تصوير ما يصورون في الأغراض وما يتكشف عنه ذلك من مغزى في التاريخ الأدبي الذي يتصل بالحياة الشعبية ".



* نشرن بالملحق الثقافي جريدة عكاظ
 
أعلى