ناطق خلوصي - استلهام ثقافة العرب في السرد العالمي، ” اسم الوردة ” نموذجا ً

تواصلت عملية التلاقح الحضاري والثقافي بين الشعوب على امتداد قرون من الزمن منذ أن تفتـّح الوعي الانساني على أهمية وضرورة هذا التلاقح . وكان من ثمارهذه العملية أن اتسعت آفاق المعرفة بكل اشكالها وازدادت مديات تداولها بين الأمم ، وتشكّل الترجمة الوسيط الأكثر تعويلا ً عليه في انجازها .

لقد جاء اهتمام العرب بالترجمة في وقت مبكر ، تقديرا ًمنهم لدورها الفاعل في التوصيل الثقافي ، فنقلوا من خلالها الكثير من معطيات الفكر الانساني مثلما نُقِل عنهم الكثير من هذه المعطيات الخاصة بالفلسفة والرياضيات والفلك والأدب وغيرها ، الى مختلف اللغات .
يُنظر الى كتاب حكايات ” ألف ليلة وليلة ” أو ” الحكايات العربية ” على انه نقطة عبور رئيسية للثقافة العربية الى ثقافة العالم . لقد تركت هذه الحكايات بصماتها على هذه الثقافة باعتراف العديد من كبار الكتـّاب في العالم نشير هنا بشكل خاص الى تأثيرها على كاتب مثل غابريل غارسيا ماركيز الذي نجد من يرى ان جذور واقعيته السحرية ترتبط بهذه الحكايات . يقول ماركيز : ” أتذكر ان نظرتي الى القصة كانت بدائية على الرغم من القراءات الكبيرة التي قرأتها منذ اعجابي بقصص ألف ليلة وليلة ، الى الدرجة التي تجرأت على التفكير في ان العجائب التي كانت تقصها شهرزاد ، كانت تحدث حقيقة ً في الحياة اليومية لزمنها . ” ( أن تعيش لتحكي ـ ترجمة د. طلعت شاهين ـ 2003 ـ ص 219 ) . ويقول في مصدر آخر : ” لقد قرأت الف ليلة وليلة حين بدأت أعي الدنيا ، وربما كان ذلك واحدا ً من الأسباب التي جعلتني اعتبره كتابي الذي لا ينسى . لكنني كلما سمعت أحدا ً يروي قصة العشيق المقطوع الرأس تنبعث انفعالات هاجعة من قراءات طفولتي الضبابية ، لكنني اعجز عن العثور على القصة في الطبعات المختلفة التي املكها من جكايات شهرزاد الخيالية . ” ( قصص ضائعة ـ ترجمة صالح علماني ـ ص 15 ) . وليس ماركيز الوحيد بين كتّاب العالم الذي تأثر بكتاب الحكايات وليس كتاب الحكايات لوحده هو الذي ترك بصماته على كنـّاب العالم .

لقد تُرجم الكتاب الى اللغة الفرنسية في العام 1704 والى اللغة الانكليزية في العام 1707 ، وعلى امتداد أكثر من ثلاثة قرون من الزمن أخذ طريقه الى كثير من اللغات الحية شأنه في ذلك شأن غيره من الكتب العربية .

***

نغادر هذا المدخل الضيّق لنطل على فضاء السرد العالمي الرحب فنجد ان بصمات حضارة العرب وتاريخهم وثقافتهم يتواتر حضورها بشكل أو آخر في هذا الفضاء ،الذي تصعب ، بسبب سعته ، تغطية مجمل ما تم ويتم استذكاره أو استلهامه منها في الأعمال الروائية العالمية . لذلك سنحاول أن نقدم قراءة لرواية كبيرة أثارت اهتماما ً واسعا ً في العالم لنقدمها نموذجا ً لهذا الاستذكاروالاستلهام ، ونعني بها رواية ” اسم الوردة ” لأمبرتو ايكو التي كانت قد صدرت بالايطالية في العام 1980 .

لعل في مقدمة ما يمكن ملاحظته في هذه الرواية ان ايكو توسّع وتشعّب في سرد أحداثه التي وقعت في القرن الرابع عشر الميلادي ، فجاءت ، في ترجمتها العربية بـ 542 صفحة . وهذا التوسّع والتشعّب محسوب أملته طبيعة الأحداث والصراعات التي تحتدم فيها .. لقد تناولت الرواية عملية انهيار كيان بفعل تآكله من الداخل بسبب عمليات التواطؤ والخيانة والتآمر والصراعات التي كانت قائمة بين العاملين فيه . ولهذا الكيان خصوصيته . فهو دير كبير ( رمز السلطة الدينية ) ، حرص امبرتو ايكو على التعتيم على مكانه ربما لكي يضفي صفة التعميم من خلاله وكأنه على خصام مع الكنيسة وهو ما تشي به النهاية التي آلت اليها الأحداث ...

ان ما يهمنا هنا يتمثل في ان الرواية تستلهم حضارة العرب وثقافتهم وتوظفها توظيفاً منصفا ً. يقول احمد الصمعي مترجم الرواية في مقدمة الطبعة الأولى لترجمته ان هذه الترجمة تأتي ” لتمد القارىءالعربي بأحد النصوص الهامة في هذا النصف الثاني من القرن ، تتحتم عليه معرفته ، خاصة وان الرواية ، وإن كانت ثقص أحداثا ً لا تهم في الظاهر العالم العربي الاسلامي ، تعترف على لسان بطلها غوليالمو دا باسكارفيل ، بعلم العرب ومساهمتهم في نشر العلوم والمعارف في أوربا في القرون الوسطى ، تلك المعارف التي هيّأت أسس الاستفاقة الاوربية اللاحقة . ” ( المقدمة ـ ص 5 ) ، و “هذا الكناب إذن يهمنا . يهمنا كقراء متطلعين الى ما يجدّ على الساحة الأدبية والفنية من أعمال تستحق أن تترجم وأن يقع التعريف بها ، ويهمنا كعرب ومسلمين لأن بانتشاره عبر انحاء الدنيا بنشر صورة للحضارة الاسلامية الماضية تتسم بتقدم العلوم والمعارف وبروح التسامح والتفتح ” ( ص 6 ) .
تبدأ أحداث الرواية بوصول غوليالمو وتلميذه الفتي أدسو( الذي سيروي الأحداث عندما يتقدم به العمر ويصبح شيخا ً) ، الى الدير للتحقيق في جريمة وقعت فيه ، وعلى امتداد أيام التحقيق القصيرة يتوالى وقوع سلسلة من جوادث الموت الغامضة تظل مجهولة المصدر مع انها بفعل فاعل من داخل الدير نفسه يتم الكشف عنه في خاتمة الرواية . يقوم امبرتو ايكو خلال ذلك بتشريح واقع الدير الداخلي ويميط اللثام عن ممارسات غير سوية يمارسها عدد من الذين يعتكفون داخل صومعات عزلتهم الروحية ، إيغالا ً منه في التعبير عن خصامه مع الكنيسة .

ترد الاشارة الى العرب ومنجزهم العلمي والثقافي والحديث عنه في أكثر من عشرين موضعا ً في الرواية ، ولا تلقي هذه الاشارة الضوء على منجز العرب حسب ، وإنما على سعة إلمام واطلاع امبرتو ايكو نفسه به أيضا ً. .

يقول بطل الرواية لرئيس الدير في محضر الحديت عن أفضلية مكتبة الدير : ” أعرف انها تمتلك من الكتب أكثر من أي مكتبة مسيحية . ….. أعرف ان ديركم هو النور الوحيد الذي تقدر المسيحية أن تضاهي به مكتبات بغداد الست والثلاثين ، والعشرة آلاف مخطوط التي يمتلكها الوزير ابن العلقمي ، وان كتبكم المقدسة تعادل الألفين وأربعمئة مصحف قرآني تتباهى بها القاهرة . ” ( ص 55 )

ويدور حوار بين بطل الرواية وعشّاب الدير حول الأعشاب الطبية ، يسأله العشّاب فيه : ” هل انت تهتم بالأعشاب ؟ ” فيرد عليه بتواضع : ” قليلا ً جدا.ً لقد حصل مرة بين يديّ كتاب أبي القاسم البلداشي ( تقويم الصحة ) ” ، فيصحح له العشّاب : “ ابو الحسن المختار بن بطلان “ يقول الآخر : ” أبو القاسم المختار كما تريد . أتساءل إن كانت توجد منه نسخة هنا ” فيؤكد العشّاب : ” ومن أجملها ، مع رسوم كثيرة ممتازة . “ ( ص 89 )

ويتمنى بطل الرواية وهو يحدّث تلميذه قائلا ً : ” لو كان لدينا القليل من معرفة العرب . ان أروع الدراسات حول الشفرات العامضة كتبها علماء كفار . وفي أوكسفورد استطعت أن أحصل على احداها لقراءتها . لقد صح قول باكون عندما أكد ان التمكن من العلم يمر من خلال معرفة اللغات . لقد كتب ابو بكر احمد بن علي بن واشية النباتي ، منذ عدة قرون ، كتاب ( رغبة المخلص الغامرة في معرفة رموز الكتابات الغابرة ) ، وعرض عدة قواعد لتركيب ولفك رموز الحروف الغامضة ، صالحة للشعوذة ولكن أيضا للمراسلة بين الجيوش ، أو بين ملك وسفرائه . لقد رأيت كتبا ً عربية تعرض مجموعة من الوسائل حقا ً عبقرية ” ( ص 188 ) . ( من الملاحظ ان المسلمين والمسيحيين كانوا يتبادلون وصف بعضهم البعض بالكفار ) .

وفي موضع آخر يخاطبه قائلا ً : ” يجب أن تقرأ بعض الكتب في علم البصريات كما قرأها دون شك مؤسسو هذه المكتبة وأحسنها هي كتب العرب. لقد ألـّف الخازن كتابا ً بعنوان ( زيج الصفائح ) حبث يتحدث، مستدلا ً ببراهين دقيقة في علم المساحة ، عن قوة المرايا. ” ( ص 194 ) .

وحدث أن سُرقت عدستا القراءة العائدة الى غوليالمو بهدف منعه من القراءة او الكشف عن اسرار المكتبة ، فطلب من تلميذه أدسو ان يقرأ له عناوين بعض الكتب ، فلم يستطع قراءة عدد منها لأنها باللغة العربية لكنه وجد كتبا ً عربية مترجمة الى اللاتينية فقرأ اسم الخوارزمي فعقّب استاذه قائلا ً : ” لوحات الخوارزمي الفلكية ، ترجمها اديلاردو دا باث ! انه كتاب نادر جدا ً ” ، ثم قرأ أدسو : ” عيسى بن علي ( في علم البصريات ) ، الكندي ( حول اشعة الكواكب ) ” (ص 195 ) .

وفي خمس صفحات من الرواية ( بين الصفحة 353 والصفحة 357 ) يتحدث أدسو عن الكتب العربية ويتواتر ذكرأسماء : ابن حزم والرازي وابن سينا بالارتباط مع هذه الكتب .
ولأن حبكة ” اسم الوردة ” بوليسية ( لكنها ليست بوليسية خالصة ) لابد من ان يتوافر فيها عنصر تلغيز يمثل ركيزة اساسية في بنية الرواية وقد ظلت مهمة فك شفرة اللغز هنا تشغل بال بطل الرواية حتى استطاع أن يرفع الغطاء عن السر الكامن وراء حوادث الموت التي تكررت في الدير واكتشف ان الراهب المسن يورج ( وكان قد اصيب بالعمى منذ زمن) ، يقف وراء تلك الحوادث وكان في انتظار ان يتخلص من غوليالمو نفسه بالطريقة ذاتها التي تخلـّص فيها من ضحاياه وبضمنهم رئيس الدير . ويكمن السر الذي كشفه عوليالمو في كتاب كان يورج يحرص على أن لا يقرأه أحد . ةالكتاب مجلد يحتوي الجزء الأخير منه على نص عربي وآخر سرياني . لقد حاول يورج أن يخدع غوليالمو من خلال تقديم الكتاب له ليقرأه لكن غوليالمو كان أذكى منه فوضع يديه في قفازين قبل أن يلمس الكتاب فوجد المخطوط عربيا ً وحين قام بتوريق الكتاب ووصل الى النص السرياني انتبه أدسو الذي كان يراقبه بأن أوراق المخطوط من مادة مختلفة وانتبه غوليالمو وهو يقرأ ان الأوراق التي بلغها في قراءته تلتصق الواحدة بالآخرى . فحاول يورج ان يشجعه على مواصلة التصفح لكن غوليالمو فطن الى ان المادة اللاصقة انما هي سم وكانت وراء موت كل الذين حاولوا تصفح الكتاب . وبرر يورج فعلته بالحرص على المسيحية في تزمت واضح يقدم صورة رمزية للعقل الظلامي المتعصب كما يقول المترجم . قيورج يقول ان الكتاب ” للفيلسوف وان كل كتاب لذلك الرجل حطم جزءا ً من المعرفة التي جمعتها المسيحية طيلة قرون ” ( ص 509 ) .

يقول أحمد الصمعي مترجم الرواية ان امبرتو ايكو استعار ثيمة الكتاب المسموم من حكايات ألف ليلة وليلة ( الليلة الخامسة على وجه التحديد ) ففي احدى حكايات ألف ليلة وليلة نجد أيضا ً كتابا ً مسموما ً ، وهي حكاية تشابه في فحواها ما حصل في ” اسم الوردة ” وفي هذا مثال مضاف على تأثير الف ليلة وليلة بشكل خاص والثقافة العربية بشكل عام على السرد العالمي .

وما دمنا قد تحدثنا عن ” اسم الوردة ” نجد ان من المناسب ان نتحدث عن رواية أخرى تقترب منها في عدد من جزئيات مبناها السردي ، ونعني بها رواية ” المخطوط القرمزي : يوميات أبي عبدالله الصغير آخر ملوك الأندلس ” التي كتبها الكاتب الأسباني انطونيو غالا بالأسبانية وصدرت في العام 1990 وترجمها رفعت عطفة عن هذه اللغة ..لقد توسّع غالا في سردها بوفق ما أملته عليه طبيعة حبكتها التاريخية حتى بلغ عدد صفحات ترجمتها الى العربية 511 صفحة. واعتمدت بنية الرواية على توظيف المخطوطة شأنها شأن سابقتها مع اختلاف طبيعة التوظيف . وإذا كانت “ اسم الوردة ” قد تحدثت عن انهيار كيان ديني بسبب التواطؤ من الداخل ، فإن ” المخطوط القرمزي ” تحدثت عن انهيار كيان مدني ( دولة بني نصر في الأندلس ) ، رمز السلطة المدنية ، للأسباب ذاتها . وتكرر نمط الممارسات الشاذة في بلاط الصغير ايضا َ. ولعل مما يلفت الانتباه أن يضع امبرتو ايكو خارطة لمكان الأحداث في نهاية روايته فيضع انطونيو غالا خارطة مماثلة قس نهاية روايته هو الآخر . لقد استلهمت ” المخطوط القرمزي ” جوانب من الثقافة العربية ( الشعر الاندلسي بشكل خاص) ، يكشف غالا فيها عن إلمام واسع بتفاصيل المكان الذي سيّر أحداثه فيه :تفاصيله الجغرافية والاجتماعية ، حتى ليبدو كأمه كان قد عاش زمن الأحداث مع انها وقعت في القرن الخامس عشر الميلادي !
 
أعلى