ياسمين فيدوح - أنطوان جالان "مفجّر شاعرية الشرق"

تقف نظرية الترجمة اليوم على النقيض من كل المعايير، وهي تشدد على امتلاك الأداة المثلى والمقدرة على التوصيل، وتهدف في جوهرها إلى تفسير عمليات النقل بالاعتماد على مبادئ ألسنية. ويشغل هذا التوجه جزءاً كبيراً من اهتمام المترجم الذي لا يكتفي بوصف تلك العمليات، وربما لن يجد في بعض التنظيرات الحديثة أكثر من مجرد افتراضات.

وليس من السهل أن يجزم الإنسان بحقيقة ما يتوصل إليه من نتائج في حقل أجمع الباحثون على أنه [أي الترجمة] "فن قائم على علم"([1]). فهل يمكن أن نسن لـه القوانين ونضع لـه القواعد من دون أن نقع في اضطراب أو تناقض؟

من هذا المنظور جاء التساؤل حول مكانة ألف ليلة وليلة في الأدب الفرنسي، وكيف تسرب ذلك العالم السحري بكل تلك الجاذبية إلى الأوساط الأدبية، وغيّر معالم الرواية والمسرح والشعر. وقد ركزنا ـ في دراستنا هذه ـ بالأساس على أنطوان جالان بوصفه مفجر شاعرية الشرق الذي يرجع لـه الفضل في أعظم اكتشافات القرن الثامن عشر بالنسبة لأوروبا، والمتمثلة في ترجمة ألف ليلة وليلة.

فكيف تعامل أنطوان جالان مع هذا النص الفاخر، بخاصة إذا علمنا بأن القراءة هي تمثيل خيالي للمقروء؟ وما مدى استجابته لسياق مغاير زماناً ولغة وحضارة؟ وهل استطاع تكييف العبارات والجمل والتراكيب؟ أم أنه تخطى المصدر، مستخلصاً المعنى ليصوغ نصه الخاص بما يلائم سياق مجتمعه وذوق متلقيه؟

يتطلع هذا البحث إلى الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها من وجهة نظر استقرائية، تمتاح ـ بما أتيح لها من مفاهيم معاصرة ـ أدواتها التحليلية لمقارنة مختلف التراكيب من خلال أمثلة تطبيقية تهتم بالسياق التركيبي في تحليل المعنى، بدءاً من أنظمة التراكيب إلى كيفية توظيفها بانتقالها إلى سياق لغة أخرى، كما يتطلع البحث إلى مشكلات التراكيب النحوية، والدلالية، آخذين بعين الاعتبار اختلاف القواعد النحوية وتباين النظم البلاغية بغرض تحليل منهج أنطوان جالان بالنظر إلى هذه الاختلافات، وكيف كان يبتدع مكافِئات نحوية بخاصة ما يتعلق منها بالعبارة ذات الفعل، والعبارة المبنية من دون فعل، ناهيك عن مهارته الفائقة في إيجاد المكافئين الدلالي واللفظي الملائمين كلما اقتضت الضرورة ذلك.
السياق التركيبي لتحليل المعنى:
إذا كان الغرض من المكافِئات Equivalences التركيبية والأسلوبية هو خلق الانسجام والتناغم داخل النص الهدف فهل يحتاج المترجم لتحقيق هذه الغاية إلى التوسع والتصرف؟ وإذا جاز لـه ذلك فما هي حدود هذا التصرف وإمكاناته؟

صحيح أن العرب قد نقلوا حكمة اليونان وأخذوا آداب الهند والفرس، غير أن ذلك لم يمنع الغرب من اتخاذهم "ألف ليلة وليلة" مفتاح الدخول إلى عالم الشرق السحري، بألوانه الفنية المتنوعة، العجيب بإبداعه المتميز، فانكبوا عليه، ونهلوا منه، وأضافوا، وحذفوا، وأبدعوا، وحرفوا، وما تزال حركة النقل قائمة طالما هناك تواصل بين لغات مختلفة، وحضارات متباينة كما كان الشأن بالنسبة للحضارة العربية الإسلامية التي أثرت الفكر الإنساني.

وعلى الرغم من أ نه لم يتيسر للباحث الترجمي منهجاً محدداً أو متفقاً عليه لضبط عملية الترجمة وآلياتها، فإن ذلك لم يثن عزم الباحثين في اقتراح بعض الأنظمة والأساليب القائمة على الافتراض والتأمل أكثر من التأسيس والضبط.

وربما تعذر تعميم منهج عام وشامل لترجمة النصوص، غير أننا نعتقد أن أهم الخطوات هي تلك المتمثلة في فهم السياق المعرفي للغة المنقول منها، والأهم من ذلك استيعاب الحمولة المعرفية للمؤلف نفسه، على اعتبار أن فهم السياق هنا يخرج عن اللغة إلى مستوى انزياحها، فإذا ما حاولنا ترجمة كتابات بعض الدارسين والمنظرين الغربيين المحدثين مثل كريستيفا، غريماس، كوهن، فعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار لغة كل واحد منهم. فحتى وإن استخدموا الأدوات نفسها فهم لا يكتبون بالطريقة ذاتها. وبالتالي فإن الدخول إلى عالم كريستيفا يتطلب وعياً رياضياً وفلسفياً أكثر منه أدبياً "لأن الإحساس بالمعنى يختلف من مترجم إلى آخر، وكذلك اختلاف العصور والاهتمامات للمترجمين عبر السنين"([2]).

وهكذا، فإن مسؤولية المترجم تبدو أكبر بكثير من مسؤولية المؤلف، فهو مسؤول عن الفكرة، ونقلها، وعن المعنى، وإعادة صياغته من حيث كونه" يتعامل مع الموضوع أكثر مما يتعامل مع النص، مع المعنى أكثر مما يتعامل مع اللفظ، فهو يعود إلى الموضوع ويراجعه ويغير أمثلته، ويستبدل بها أمثلة أخرى تعبيراً عن المعنى لتقريب المعنى الذي يقصده المؤلف، فالمترجم هنا قارئ أول ومؤلف ثان"([3]).

إن البعد التواصلي هو الذي يتولى صوغ مساحة النص المقروء والمستوحى، وهو الذي يحدد فيما بعد، وتبعاً لمهارات المترجم، طبيعة الترجمة المنجزة، فتضفي على النص المترجم روح المترجم بما يبعث فيه من حرارة اللغة المنقول إليها حتى يكاد يجعله ينطق بثقافة أسمائها، ويحيا بحياة أفعالها" ومع ذلك فهو مطالب بأن يخرج نصاً يوحي بأنه كتب أصلاً باللغة المترجم إليها، أي أنه مطالب بأن يبدو كاتباً أصيلاً، وإن لم يكن كذلك وهذا مكمن الصعوبة الأول والأكبر"([4]). والمترجم في هذه الحال يصادف على صعيد الفهم، كما على صعيد الإفهام، سلسلة من العقبات كتلك الناتجة عن الاستعمالات المختلفة لحروف الجر وأسماء أدوات الربط. فقد يؤثر ذلك على الناتج المعنوي والحاصل الدلالي للنص المترجم، بل إنه قد يحدث أحياناً أن ينتج عن العبارة نفسها المترجمة معنى مغايراً وبصيغة مختلفة في النص الهدف، ولأجل ذلك فبوسع الترجمة أن تستلهم بشكل إيجابي لسانيات الكلام أولى من لسانيات اللغة فهي تندرج ضمن دراسة الوظيفة الحقيقية للغة، حيث تكون المعلومة المنقولة محددة بالهيئة المقدمة بوصفها تعمل على إعطائها معناها([5]).

إن المعالج اللغوي للنص المصدر لا يطابق المعالج اللغوي للنص الهدف، ونقصد بذلك أن الهيئات والحالات الناجمة عن تراكيب اللغة (أ) تختلف عن تلك المتعلقة باللغة (ب). من هنا، غالباً ما يلجأ المترجم إلى الحذف والزيادة ـ على نحو ما نلاحظه عند أنطوان جالان لاحقاً ـ بترجيح الأفق التأويلي ضمن السياق المتطلب للغة المترجم إليها. ولذلك وجب مراعاة ـ ليس فقط أنظمة التراكيب وإنما ـ التمعن أكثر في توظيف هذه التراكيب، وما ينجم عنها من معان "وهكذا فإن أي تعبير في لغة المصدر يكون من الناحية الشكلية متكافئ الأهمية، ولكن من حيث دلالة اللفظ يعتبر بدلاً أو نقيضاً أو ثانوياً في الأهمية، يجب أن يخضع حالاً للتشكيك، ومن ثمة يجب أن يخضع إلى تدقيق دقيق وإلى تكييف مفهوم"([6]). وكثيراً ما يقع المترجم في التناقض والخلط فيفسد المعاني والعبارات، وقد يحدث ذلك عندما يصر على الأسس التطابقية للأشكال والمفردات. ولتفادي الإخفاقات المتوقعة وجب على المترجم تجاوز النقل إلى "مستوى الإبداعي"، مكرساً بذلك كل الإمكانات الناجمة، فهو ليس مجرد ناقل، بل هو محلل، وشارح، ومتأمل، ومؤول، ومطالب بإخراج النص من سياق لغة إلى سياق لغة مغاير على اعتبار "أن أي فرد كان قد فحص ترجمة تنهج أسلوب (الكلمة بالكلمة) عند النقل إلى لغة أخرى لا يمكن إلا أن يتأثر بعدد لا يصدق من المركبات اللغوية الغريبة التكوين من حيث بناء الجمل والناتجة في تلك الترجمة. إن هذه المركبات لا تؤدي في بعض الأحيان أي معنى على الإطلاق، بل تعني أحياناً المعنى المغلوط تماماً"([7]) ونعتقد أن الأمر سيكون أكثر تعقيداً إذا ما تعلق بتراث سردي عتيق مثل ألف ليلة وليلة، وذلك لما يتميز به من عوالم عجيبة تحمل المترجم على احتواء سر تلك العجائبية، فيحاول إخراج النص بتلك الروح السحرية. وقد كان أنطوان جالان مدركاً تلك الروح، ملماً بذلك العالم، إذ أخرج إلى الفرنسيين كنوز الشرق، مراعياً في ذلك لغة متلقيه، حيث قال عنه أحد الدارسين: "ومما لاشك فيه أن جالان تصرف في ترجمة الكتابات ليقرب النص العربي إلى الذهنية والذوق الفرنسيين. ولقد امتدح العديد من المترجمين طريقته في الترجمة لأنه لم ينجرف وراء الصنعة المتكلفة التي عرفتها لغة الليالي في النموذج الأصلي. صحيح أن السحر والأعمال الخارقة وعالم الجنّيات والأرواح، قد لعبت دوراً كبيراً في نجاح الترجمة، لكن المهم أن الخارق واللا مألوف كان يحكى بكل وضوح وبساطة ورشاقة"([8])، وقد نجد السياق نفسه في منظور ميشونيك عند قوله: "إن ما يجعل الترجمة تحظى بالاعتبار والبقاء هو مفهوم النص نفسه، وإلى جانب مفهوم النص، يحضر مفهوم الأدبية الذي لا يظل حكراً على النصوص المصدر. فهذه السمة هي التي جعلتنا لا نكف عن إعادة طبع ألف ليلة وليلة وقراءتها بتوقيع المترجم جالان رغم الترجمات التي تلتها؛ لأن ترجمته تمثل أثراً أدبياً"([9]). وكما تختلف لغة الأدباء وتتباين أساليبهم، كذلك تتعدد الطرائق الترجمية ليس بالنظر إلى تعدد أنماط النصوص وحسب، ولكن بمقدار ما يتميز به كل مترجم من المؤهلات، وما يمتلك من مهارات، وفي هذا الشأن فإن أحدث النظريات الترجمية تؤكد نوعين من المهارات"، مهارات فك الشيفرة المطلوبة في القراءة، ومهارات التشفير المطلوبة في الكتابة"([10]).

وعلى اعتبار أن المترجم قارئ أول ومؤلف ثان، وجب عليه احتواء النص المصدر بإعادة ترميزه في النص الهدف، وقد يكون أكثر ما يشق عليه في هذا الشأن هو عملية الإيصال"، فالمترجم لا يترجم للفهم بل للإفهام فالمسألة بالنسبة إليه ليست اكتشاف معنى يجهله، بل اكتشاف وسيلة التعبير عن هذا المعنى
في لغته الأم"([11]).

وربما أعظم ماكان يواجهه جالان في ترجمته هو تعامله مع لغة لا تنحدر من الجذور نفسها للغته مما يضاعف عادة من إيجاد المكافِئات سواء على صعيد العبارة أو المفردة، ناهيك عن اختلاف نظام الجمل، ودلالات الألفاظ، فيلجأ المترجم إلى الاقتراض والتطويع والإبدال وغيرها من وسائل الترجمة التقليدية. كذا يتطلع في الآن نفسه إلى ابتداع طرق وأساليب خاصة تعتمد على ثقافة المترجم من تحليل وتأويل...

نلاحظ أن المترجم يعمد مرة إلى الحرفية الشديدة وأخرى إلى التصرف التام، تبعاً لما يقتضيه السياق وما يتطلبه النظام التركيبي. فمثلاً في النص المصدر الصفة تتبع الموصوف "كان رجلاً فقير الحال" بينما في النص الهدف الصفة تسبق الموصوف "il y'avait un pauvre porteur" وهذا الاختلاف هو في صلب النظام النحوي لكل من لغة المصدر ولغة الهدف. ويظهر التصرف أكثر على مستوى المرادفات مثال: الفعل se nommait كان يمكن إبداله بمرادف آخر مثل الفعل s'appelaet والفعل fort fatique كان يمكن تغييره بالفعل épuise ومع ذلك فقد اختار المترجم "se nommait" و"fort fatique" اعتقاداً منه أنهما أقرب للدلالة على الفعلين "يقال له" و"تعب".

إن بعض العبارات قد تبدو مضللة وخادعة بحيث يتعذر على المترجم أن يجد لها مكافئاً في اللغة الهدف، وغالباً ما يتعلق ذلك بالصور البلاغية. أما فيما يخص العبارات العادية فمن اليسير أن نجد لها ما يكافئها بخاصة عندما لا يضطرنا التركيب النحوي إلى تحليلها.

يغلب على ألف ليلة وليلة مايمكن أن يطلق عليه "الجمل الوصفية"، وتكمن وظيفتها في تمثيل الخيال التصويري الذي تجسده الصور المرئية والذوقية والشمية... والتي تكاد تحاكي واقعاً حقيقياً معاشاً في زمن الملوك والسلاطين.

ولاشك في أن أنطوان جالان كان مستوعباً الفضاء السردي، والذهنية التي حاكته مما جعله يتطلع إلى نسج نص على غراره في السياق الفرنسي آخذاً بعين الاعتبار الفروقات البنيوية والدلالية لكل من نظامي النحو العربي والفرنسي، غير أن ذلك لم يمنعه من نقل الليالي بطريقة متقنة، وبأسلوب سلس وجذاب، وبلغة راقية. فكيف تعامل مع التراكيب والجمل والمفردات والصيغ ووجد لها مكافئات في اللغة الهدف؟
مشكلات التراكيب:
أ ـ التركيب النحوي:
إن تصرف أنطوان جالان في ألف ليلة وليلة كان بدافع اجتناب التكرار والإطناب مما يشفع لـه باستخدام الحذف واختصار العبارات واختزال الجمل، فأسقط بذلك أغلب التفاصيل المفرطة ـ في نظره ـ. وبعمله هذا كان أكثر تركيزاً على الحدث منه على السرد، على الرغم من أن الأساس في الليالي هو الحكي وليس الحكاية، وربما تجاوز أيضاً ـ وبكثير من التحايل ـ بعض المستويات النحوية خدمة للغرض أو بغية توصيل المعنى بما يتماشى وأفق انتظار متلقيه؛ "لأن اللغة الفرنسية بوصفها لغة عقلانية ومنطقية فهي تجريدية، بينا اللغة العربية، ومثل كل اللغات السامية، فهي لغة حية، فمثلاً نقول في الفرنسية: "Quantité de gens sont venus" ولكننا نقول في العربية "أناس كثيرون قدموا" فالاسم الموصوف substanti المجرد (Quantité) يصبح في العربية صفة adjectif ملموسة (كثيرون)" ([12]).

فإذا ما أمعنا النظر في حكاية السندباد في رحلته الأولى (النص المصدر) نجد أن أهم ما يميز البناء التركيبي هو تداعي التراكيب النحوية الثنائية، حيث يتم ربط وحدة تركيبية بأخرى بواسطة حرف العطف (الواو). وقد ورد أكثر هذه التراكيب في شكل عبارات مبنية بفعل، وأخرى مبنية من دون فعل، غير أن جالان كان في أغلب الأحيان يختصرها إلى تراكيب متباينة من حيث الشكل، متقاربة من حيث الدلالة.
1 ـ تركيب العبارة من دون فعل:
النص المصدر
النص الهدف بالفرنسي.
ـ القول المأثور (قول سليمان): يوم الممات خير من يوم الولادة ـ كلب حي خير من سبع ميت ـ القبر خير من القصر.. ص 391.
-Qu’il est monis fâcheux d’être dans le tombeau que dans la pauvreté………………….p223.

ـ مثل الميت..............393.
Demi - mort………………..225-
ـ عيون ماء عذب.........393.
Une source d’eau excellente25-
ـ جزيرة كأنها روضة من رياض الجنة..........392.
-Une île presque a fleur d’eau qui ressemblait à une prairie par sa verdure ..........................224

توفر اللغة العربية للمؤلف صيغاً متقنة للتعبير عن حالات كالمفارقة والمقارنة والمطابقة و المشابهة... وذلك لما تدخره من أدوات وما تتيحه من أساليب، فما قد يعتبر إطناباً وتكراراً في لغة ما قد يعد في لغتنا حركية دينامية لتأكيد موقف أو لتعميق مشهد.

وهكذا، فقد وردت كثير من الصيغ المعبرة عن انتقال السندباد من حال إلى حال لوصف متغيرات الأحوال من تأمل وخيال إلى بطولة وسجال، كرّس خلالها الراوي عبارات منتقاة للدلالة على متعة السرد ومضاعفة الترقب. وقد كان جالان ذكيّاً في احتواء النص المصدر بخاصة ما يتعلق منه بالجانب النحوي على اعتبار أن التطابق الشكلي، وحتى التكافؤ، لا يتحقق بصورة مطلقة الأمر الذي جعله يلتزم الحرفية في حال النقل، ويعمد إلى التصرف في حال الإبداع، "فقرر الاستغناء عن بعض الأوصاف أو على الأقل إيجازها في عبارات دقيقة من دون أن يتأثر مضمون الحكايات أو يتغير معناها، إنه يترجم ليكون مقروءاً، ولابد أن يجتنب التكرار والتفاصيل المملة"([13]). وفي العبارات السابقة نجد المترجم قد لجأ إلى الإبدال مع تصرف ظاهر في السياق كأن يتحول المفرد إلى جمع، أو كأن تصاغ عبارة بشكل مغاير مع المحافظة على المعنى؛ "لكن الإبدال الكلي مع ذلك يبقي الاختيار الأخير لتكافؤ الترجمة، وهو مفيد في بعض الحالات عندما لا يكون التكافؤ من النوع البسيط بمرتبة متساوية أو من النمط الذي تقابل فيه كل وحدة، وحدة أخرى"([14]). أما فيما يخص الأمثال الشعبية والحكم والمآثر فإن "شكل هذه الأمثال يوحي باستحالة إعادة إنتاجها في لغة أخرى بنفس الإيجاز، ونفس الإيقاع، ونفس الصور، وبما أن ذلك يبدو مستحيلاً فإننا نكتفي بممارسة الطريقة نفسها كما نفعل مع بقية النصوص بأن نبقى أوفياء للمحتوى قدر الإمكان بمقدار وفائنا للشكل".([15])، ومن الأفضل أن نجد لها مكافئاً في سياق اللغة المنقول إليها، وهي الطريقة التي اهتدى إليها جالان في تعامله مع حكمة سليمان عليه السلام.
2 ـ تركيب العبارة ذات الفعل:
تعرف بعض النظريات الحديثة عملية الترجمة بأنها "فك شيفرة النص في لغة المصدر وترميز النص في لغة الهدف"([16])؛ وحتى وإن بدت هذه العملية شبه تجريدية فإنها تمتلك من الدقة والرصانة ما يؤهلها لخوض عملياتها في مستويات من الأنظمة اللسانية والسيميائية. أما الغاية من تحليل التراكيب النحوية فلا تتعلق بإيجاد مكافئات نمطية لها وإنما النظر في مدى تلاحمها مع الدلالات التي تؤديها على اعتبار أن دلالات ألفاظ اللغة (أ) لا تتطابق مع دلالات ألفاظ اللغة (ب)، أي أن التطابق الشكلي لا يؤدي قطعاً إلى التكافؤ الدلالي.

ضمن هذا التصور فإن "بوبوفيك" "Popovic" في تعريفه التكافؤ في الترجمة يميز بين أربعة أنواع:
1 ـ التكافؤ اللغوي، حيث يوجد تجانس على المستوى اللغوي لكل من نصوص اللغة المصدر ونصوص اللغة الهدف بمعنى ترجمة كلمة بكلمة.
2 ـ التكافؤ النموذجي، حيث يوجد تكافؤ عناصر المحور "النموذجي التعبيري"، بمعنى أن عناصر النحو التي يراها popovic أعلى من التكافؤ المعجمي.
3 ـ التكافؤ الأسلوبي "الترجمي"، حيث يوجد التكافؤ الوظيفي لعناصر كل من النسخة الأصلية والمترجمة بغية الوصول إلى تماثل تعبيري مع الإبقاء على المعنى نفسه.
4 ـ التكافؤ النصي "التركيبي" حيث يوجد التكافؤ في البنية التركيبية للنص بمعنى التكافؤ في الأسلوب والشكل([17]).

ويحبذ المنظرون استعمال مصطلحات التماثل والتجانس والتكافؤ وذلك لما يتضمنه مبدأ التكافؤ من أوجه الاحتمال. وبما أنه لا توجد ترجمة خاطئة أو ناقصة وأخرى صحيحة أو تامة فإن الفارق الأساس بين هذه وتلك هو ما يطلق عليه Popovicالجوهر الثابت، ويرى بأن هذا الجوهر يرسخ بوساطة عناصر سيميائية أساسية ثابتة ومستقرة داخل النص([18]).

من المرجح أن التكافؤ التركيبي لا ينشأ جملة، بخاصة إذا أدركنا أن جالان ابتعد ما أ مكن عن الحرفية كلمة بكلمة أو عبارة بعبارة، فعندما نقرأ ألف ليلة وليلة لا نجد أي انفصام في التراكيب لأنها لا تطابق الأصل وإنما تحاكي المضمون فنشعر منذ البداية بأنه شرع في صياغة نصه الخاص.

تتضمن التراكيب المنتجة في لغة الهدف الغرض التوصيلي نفسه الذي تنطبق عليه تراكيب النص المصدر مع محاولة جلية للحفاظ ما أمكن على السياق العام لحكاية السندباد والذي تتحكم به أفعال الراوي. وبالنسبة للغة العربية فإن العبارات المبنية لا تخضع للترتيب ذاته الذي تخضع لـه اللغة الفرنسية، وإذا لم يراع المترجم نظام الرتب من تقديم وتأخير... فإنه قد ينجم عن تصرفه تحريف المعنى المقصود.

حتى وإن لم ينحدر الفعل خلّف، وhériter (في الجملة الأولى) عن نفس الاشتقاق الدلالي، فإن كون الفعل [خلّف] مسبوقاً بحصول الأبوة للسندباد البحري من طرف تاجر ثري خوّل للمترجم تعويضه بالفعل hériter الذي يعني ورث، ولأن الفعل خَلّف كان فعلاً متعدياً فقد استجاب المترجم ـ بما يوفره المعالج النحوي في اللغة الفرنسية ـ للنظام النحوي الذي أنتج العبارة في اللغة العربية، غير أنه جمع المترادفات التي جاءت مفعولاً به ومعطوفين في عبارة "des biens considérables" التي يستسيغها السياق الفرنسي.

أما الجملة الثانية التي وردت في النص الهدف فقد جاءت اختصاراً لمجموعة من التراكيب الثنائية المبنية بفعل والمعطوفة بحرف العطف (و)، فأوجزها المترجم مستغلاً الغرض منها بإعادة بنائها في لغته الأم.

لقد تعامل أنطوان جالان مع الجملة الفعلية "أو المبنية بفعل" بدقة وحذر. فعلى الرغم من تصرفه تارة بالحذف وأخرى بالإبدال فإن ذلك لم يؤثر على البناء الكلي للنص المنقول، ولم يُخِل بالمعنى ولم يحد من المضمون. لقد كان ماهراً في نقل سلسلة من التراكيب المتداخلة إلى لغة لا تمتلك النمط نفسه من أنظمة النحو وقواعده. ويبدو أن المترجم يستوحي نمطين من التكافؤ كما يسميهما (نيدا) Nida Eugene تكافؤ شكلي وتكافؤ ديناميكي بحيث يركز التكافؤ الشكلي على الرسالة ذاتها سواء في الشكل أم المضمون، وفي مثل هذه الترجمات يهتم المرء بتكافؤ الشعر مع الشعر، والجملة مع الجملة، والمفهوم مع المفهوم، ويسمي (نيدا) هذا النوع من الترجمة بالترجمة المذيّلة التي تسعى إلى تمكين القارئ من فهم أكبر قدر ممكن من سياق اللغة المصدر، ويقوم التكافؤ الديناميكي على مبدأ "الأثر المكافئ"؛ بمعنى أن تلك العلاقة بين المتلقي والرسالة ينبغي أن تكون العلاقة نفسها بين المتلقيين الأصليين ورسالة المصدر"([19]). وبذلك وضع جالان المتلقي الفرنسي بعين الاعتبار محاولاً الموازنة ما أمكن بين ثقافة النص المصدر وثقافة النص الهدف، ومن المرجح أنه كان على قدر واسع من المهارة والفطنة بما يسمح لـه بالتمييز بين الحشو والإطناب، وبين التكثيف والإيجاز، وكأنه ينظر بشفافية وعمق إلى محتوى النص فينتقي بجمالية وحس راق هذه العبارة لذلك المعنى، جاعلاً من اللغة فضاء للتأمل وأداء للفهم والبناء.

وبالإضافة إلى توافر شرط استيعاب تراكيب اللغة المنقول إليها للنص المصدر، فإنه من المستحسن أن يكون المترجم أقرب إلى روح النص بإدراكه أسراره وتمكنه من أدواته وتذوقه أسلوبه. وقد يعزى نجاح جالان في ترجمته ألف ليلة وليلة إلى كونه "كان قاصاً بطبعه"([20]) مما يسهل عليه الاستجابة لكثافة نص يقول عنه أحد الباحثين: "إن ألف ليلة وليلة بلا شك قص يدور حول فعل القص"([21])؛ أي أنه يشتغل من داخل عمقه التشكيلي، ولذلك فإن التراكيب النحوية التي غالباً ما وردت في النص المصدر في شكل تراكيب ثنائية ما هي إلا صورة للبنية الدلالية، بحيث تتجلى "النزعة الثنائية في ألف ليلة وليلة في الشخصيات والثيمات في الأسماء والأفعال الواردة في جملة السرد المركبة التي تشكل النص"([22]).

وإذا كان جيرار جينيت يرى بأنه "من الأحكم للمترجم، دون شك، أن يتقبل كونه لا يقوم سوى بفعل ضار، وأن يحاول، مع ذلك، القيام به على أحسن وجه ممكن. مما يعني غالباً القيام بشيء آخر"([23])، فإن جورج مونان يقر بأن "الترجمة اتصال. والرسالة التي يهدف إليها المترجم تتألف من معنى ومبنى، وعليه أن ينقل المعنى كما هو، وأن ينقل المبنى إلى ما يساويه في لغته لا إلى ما يشابهه. وتتطلب ترجمة المبنى التقيد بتراكيب اللغة المنقول إليها شرط اختيار الأسلوب الذي يلائم النص"([24])، وإذا كان الأمر كذلك فإن جالان لم يهمل هذه الأصول بل استطاع أن يدمج الدلالي والتركيبي في تلاحم جمالي بوصفه ينقل شكلاً سردياً مفارقاً للمألوف، يشتبك مصيرياً بفلسفة الزمن ورؤياوياً بخلاص الإنسان.
ب ـ التركيب الدلالي:
1 ـ الترجمة بما يناسب المقام:
يقع في تصور كل واحد منا حقيقة أن الألفاظ لا تدل بذاتها وإنما بما تحيل إليه أو بما توحي به من معان. وقد لا يشترط لتحديد هذه الدلالات سوى تأمل العلاقة بين الكلمة والشيء. وهناك ثلاث مقاربات ممكنة لتصور فهم المقصود بهذه العلاقة " أ ـ نظرية المرجعية والتي تعبر عن العلاقة بين كلمة ومرجع وفق شروط معينة، وب ـ تحليل المكونات التي تستفيد من القياس حيث تحتوي كل كلمة على عدد من ذرات المعنى، وت ـ مسلمات المعنى التي تربط المعنى بالمعنى من خلال تقاليد نظرية المجموعات"([25])، وإذا كان واضع المعاجم ملماً بهذه المفاهيم فإن المترجم يسعى إلى أبعد من ذلك، إذ هو لا ينقل الألفاظ كما وردت نقلاً قاموسياً مائعاً وإنما يبحث في مختلف اشتقاقاتها ومكوناتها الدلالية إلى أن يصل إلى ترويض المفردة في لغته الأم. ولعل أكثر ما تؤكده المناهج التي تعتمد الترجمة في هذه العمليات هو "فهم المترجم للنص الذي ينقل عنه وفهمه للروح التي يحتويها النص، وإدراك حقيقي للمعنى المقصود في هذا الموطن حتى لا توضع كلمة في غير موضعها أو غير ذات دلالة تامة على المعنى المراد، وذوق أدبي يصحبه ويوجهه حس دقيق بجمال اللفظة المختارة للترجمة، وعدم نفور الذوق أو العرف العام منها، وسهولتها على الألسن في الاستعمال"([26]). وقد تأخذ هذه المسألة أبعاداً أخرى منها ما يتعلق بالتصرف التام، ومنها ما يرتبط بالحرفية الشديدة. وبما أنه لا توجد ضوابط نهائية لحدود الحرفية والتصرف فإن كفاءة المترجم تكفل لـه حرية التعامل مع الألفاظ والمفردات فيحذف ما يراه مستهجناً ويغير ما يجده مستغرباً.

ونظن أن جالان قد عكف على تهيئة حالة ثقافية" في النص الهدف وفقاً لما هو في النص المصدر، محاولاً الإنصاف ما أمكن في نقل الليالي بخاصة وهو يتعامل مع لغة تراثية موغلة في الفصاحة. وقد شملت ألواناً من البلاغة، وضروباً من التكرار، وكثافة في الأسلوب، وغرابة في الأداء، فكان يجد اللفظ المقابل إذا استدعى الأمر ذلك، ويبحث في المعنى وفقاً لما يقتضيه السياق الذي وردت فيه، فيأتي بما يلائم ذلك من مفردات وصيغ تعبر عن الدلالة المقصودة. وهكذا فإن "ترجمة جالان خلصت الحكايات مما علق بها على مر العصور من تكرار وغموض وتناقض في بعض الحالات كما حذفت منها الألفاظ النابية... وقد اتبع أنطوان جالان منهج عصره في نقل أمهات الكتب القديمة، وهو منهج أقرب إلى الاقتباس منه إلى الترجمة الدقيقة"([27]). أما الألفاظ التي لا تسعفه دلالاتها فيبتكر لها ما يوازيها في اللغة الهدف مركزاً على مدلولها في السياق الذي وضعت للتعبير عنه، وقد تكمن الصعوبة في تمييز المفردات الصحيحة ودقة ملاءمتها لمعانيها الموضوعة لها. وقد تكون "الخطورة القائمة في افتراض توازي كلمات مفردة بعينها مهما كان اطمئناننا إلى معانيها هو السياق الذي وردت فيه أو ل مرة في نطاق خبرتنا، هو التضحية بالمعاني الأخرى التي يمكن أن تكتسبها هذه الكلمات في سياقات أخرى"([28]).

إن الغرض من الترجمة هو الذي يحدد الوسيلة، فإذا كانت الغاية هي التوسع في المعاني مع توخي الدقة والوضوح التزم المترجم بالرسالة المتضمنة أكثر من اهتمامه بالشكل، ويكون هدفه في ذلك القارئ، فيتركز اهتمامه على ما يسميه (نيدا) Nida "التطابق التأثيري" أكثر من "التطابق الشكلي" ويكون بذلك قد ضمن المادة المترجمة مسقطاً عليها أسلوبه.

ويعمد أغلب المترجمين إلى هذا النمط مستوحيين المعنى بإعادة صياغته أو النسج على منواله في اللغة الهدف، الأمر الذي جعل "جالان" يلجأ أحياناً إلى ترجمة عبارة شارحة بكلمة أو ترجمة كلمة بعبارة شارحة، كما نجده أحياناً يطابق لفظتين متساويتين في المعنى المباشر مختلفتين في المعنى الإيحائي.

والواقع أننا نستغرب إصرار أحد الدارسين على أن العدول عن ترجمة "اللفظة الواحدة بجملة متعددة الكلمات إلى الترجمة بلفظة واحدة هو المبدأ السليم في عملية النقل والترجمة مادام ذلك ممكناً، ومادام يوجد من الألفاظ المفردة ما يسد مسدّ الجملة المترجمة"([29]).

ومن البديهي أننا في الترجمة ـ وبخاصة الأدبية ـ لا نركز على اللفظ بمقدار تركيزنا على المعنى وإلا استحالت الترجمة، ومن ثمة فإن مترجم هذا النوع من النصوص لابد وأن يضع في الحسبان مايلي:
1 ـ الاهتمام بمعاني الألفاظ.
2 ـ استيعاب السياق الذي ترد فيه، حيث يتم تحديد اختلاف دلالات الألفاظ.
3 ـ تجاوز فهم العبارة قواعدياً إلى فهمها دلالياً.

ومهما كانت معرفتنا الذوقية في اختيار الألفاظ الملائمة وانتقائها بتأمل خالص معرفة دقيقة ومعمقة، فإن "من صعوبات الترجمة التي يعانيها المترجمون للعلوم والفنون صعوبة الوضوح أو العثور على اللفظ اللازم أو التعبير اللازم في المكان اللازم. فالمناسبة بين اللفظة المترجمة ومكانها في الترجمة مع صدق الأداء للمعنى المراد وضبطه هي الأساس في عملية النقل من لغة إلى أخرى"([30]).

وقد يكون في غياب منظومة دلالية يقاس إليها مستوى التناسب (لفظ/ معنى)، يلجأ المترجمون إلى التكافؤ التعبيري الذي يغفل المفردات الواردة في النص الهدف، معوضاً إيّاها بما يوافقها أو يقاربها في الدلالة. وقد يواجه هؤلاء مشكلة السياق الحضاري المختلف الذي أوجدها من جهة، ومن جهة أخرى استحالة تطابق دلالات الكلمات سواء أكانت منفردة أم مترابطة، فعندما نقول: "نؤوم الضحى" فإننا نقدر للمترجم معرفة وافية بقواعد اللغة العربية وبتاريخها البلاغي.

من غير المعقول، إذن، أن نقيم الحجة على اللغة، بل إن اللوم يقع على المترجم الذي ينبغي لـه أن يفقه مواطن المجاز، وأن يدرك ما تتضمنه هذه المفردات أو تلك من شحنات وجدانية، وما يقع من المفردات منها موقع التضاد أو التشابه...

إن مشكلات الألفاظ سوف لن تجد حلاً لمعضلتها في القاموس الذي قد لا يزيدها إلاَّ تعقيداً وإنما يكمن الحل في مهارة الاستعمال ويتم ذلك بمراعاة العناصر المذكورة سابقاً، والمتعلقة بفهم السياق (Contexte) الذي يقود المفردة إلى موقعها في اللغة المنقول إليها وقد اكتست روحاً جديدة وتلبست عالماً مغايراً.

وربما كان السؤال: (كيف نختار المعنى الذي نظنه أقرب إلى الكلمة الواردة في السياق، وهل من حقنا اختيار كلمتين لترجمة كلمة واحدة؟)([31]) سؤالاً جوهرياً بوصفه حاملاً جوابه معه.

2 ـ تطابق الدوال/ تكافؤ المدلولات.
إن من أكبر المشكلات في مجال نقل الدوال والمدلولات هو عجز القاموس عن مواجهة سلسلة من المترادفات التي كثيراً ما توضع للمعنى الواحد، فإذا ما استبعدنا التطابق التام في اللغة الواحدة فكيف يمتد ذلك ليشمل ألفاظاً تقع في لغتين مختلفتين، وفي سياق حضارتين متباعدتين" وهذه مشكلة كبرى ما فتئ المترجم المحترف يصادفها مع النصوص الجديدة. وكلما ازدادت خبرته بمعاني الكلمات في السياقات المختلفة، ازدادت حيرته، فهو لا يستطيع أن يلجأ في كل مرة يترجم كلمة من هذه الكلمات إلى شرح الفروقات الدقيقة بينها. بل هو يريد كلمة واحدة إذا أمكن، أو كلمتين على الأكثر لنقل المعنى كله، أو معظمه إلى القارئ"([32]). أما (نيدا) فقد حمله التساؤل إلى ضرورة تصور نظرية لدلالات الألفاظ حيث يرى أنه: "بنفس الشكل الذي يلتزم فيه النحو التوليدي generative grammer وجود قائمة جرد جوهرية من الجذور اللغوية morphemes وسلسلة قواعد الكشف لغرض صياغة الأنماط التي ترد فيها تتطلب نظرية دلالات الألفاظ وجود قاموس ومجموعة من قواعد الكشف لغرض وصف الطرق التي ترتبط فيها مثل هذه العناصر المعجمية في تعابير ذات معنى." ([33])

بعد كل عملية ترجمة يكون المترجم قد اكتسب مجموعة من الخبرات، وبما أن الترجمة نشاط يقوم باللغة وفي اللغة فإن المترجم حريصٌ على معرفة اللغة المنقول إليها وأصول النقل، ومهما تطورت الأساليب والمهارات فإن قواعد اللغات التي درجت عليها لا تتغير، أما ما تحتويه هذه اللغة (أو تلك من مضامين، وما تنتجه من مفاهيم، وما تبدعه من رموز ودلالات فهو قابل للتبدل والتطور والانقراض؛ ولذلك فإن العقل المترجم هو القادر على مواكبة المتغير، فيعرف طرائق تعامل لغة ما مع ما تفرزه من معان ورموز وصور.

ويبدو أن جالان قد تشبع بتراث الشرق، وتبحر في لغته، ناهيك عن كونه متمكناً من أدوات القص، بارعاً فيه، فلم يصعب عليه تطويع الليالي وبعثها في ثوب فرنسي، مضفياً عليها ذوقه، وثقافة عصره، وإحساسه بإيقاع الكلمات، وتدوين الصور. فهو لم يحاصر المعاني بمفردات غير ملائمة، بل عكف على تحريرها بما يوازي سياق اللغة المنقول إليها، وبما يكفل للنص تناسقه وانسجامه، فعمد أحياناً إلى ترجمة كلمة بكلمة، أو عبارة بعبارة، ونادراً ما كان يلجأ إلى ترجمة كلمة بعبارة شارحة، أو عدة كلمات بكلمة واحدة وذلك لتجنب سلسلة الأفعال المتكررة لحدث واحد، أو مجموعة الأسماء الموضوعة لغرض واحد.

غير أن تكافؤ المدلولات ينذر على الصعيد المعجمي ببعض الإخفاقات التي لا يمكن تجنبها إلا بتجاوز الحرفية "فالترجمة المحددة على المستويين النحوي والمعجمي على التوالي تعني استبدال نحو [ ل ص] بنحو [ل م] المكافئ لـه دون استبدال المفردات، واستبدال مفردات[ ل ص ] بمفردات [ل م] المكافئة لها دون استبدال للنحو. والترجمة الصرف المحددة بأحد هذين المستويين صعبة إن لم تكن مستحيلة، نظراً للعلائق الوثيقة المتداخلة بين النحو والمفردات"([34])، وتشمل هذه الاستحالات بالدرجة الأولى عدم إمكانية التطابق على أي من الأصعدة؛ لأن الترجمة لا تحتاج إلى القياس وإنما تتطلب التطويع، أو ما اصطلح عليه بالتكييف المعجمي الذي يفك شيفرة النص المصدر، ويعيد ترميزه في النص الهدف بتكريس حرية التصرف في الأنماط القولية، "ويبدو أن التكييف المعجمي لمتطلبات الاقتران الدلالي أو "الاصطلاحية" سمة مميزة للترجمة الحرة"([35]).

والملاحظ أن جالان حتى وهو يتعامل مع بعض العبارات حرفياً فهي تبدو للقارئ وكأنها من وضعه، وإذا ابتعد عن الحرفية خلق فضاء تحلق فيه مفرداته وعباراته وقد انتقاها بما يناسب المقام ويلائم السياق التعبيري وكأنها من نسج خياله. وعلى الرغم مما قد تكشفه تحليلاتنا من تنويعات لغوية ودلالية إلاَّ أنه من الصعوبة تفكيك تلاحم نص محكم البناء، واضح الرؤيا، متكامل الملامح، متحدة أجزاؤه من أصغر ذرة في المعنى إلى أكبر عنصر في التركيب. ومع ذلك فمن الضروري أن نقف عند بعض الأمثلة لتوضيح تعامل جالان مع كثافة النص المصدر ونظيراتها في النص الهدف:
النص المصدر
النص الهدف
ـ رفع طرفه إلى السماء وقال.388

il leva les yeux au ciel et dit….221
ـ سبحانك يا رب يا خالق.... 388.
puissant créateur de toute choses ….. 221.
ـ فما يكون اسمك وما تعاني من الصنائع.... 390.
Iui demanda comment il se nommait et quelle était sa pofession…..222
ـ قبض على يد الحمال..... 389.
le prenant par le bras……221

إن المترجم لا يتناول المفردات منعزلة، فليست المفردة هي التي تعطي المعنى وإنما وجودها في سلسلة من التراكيب وضمن مجموعات أخرى من المفردات. وسيكون من غير المعقول أن يعني الفعل رفع أو قال أو أظلم أي معنى من دون ربطه بمجمل السياق العام للحكاية، كذلك الأمر بالنسبة للفعل Ieva، وdit، وs'obscurait وهكذا دواليك مع بقية الكلمات.

ولكن المتأمل في حكاية السندباد البحري سيجد كماً من المفردات المتداولة والتي يتكرر بعضها باستمرار مثل: (البحر، الجزيرة، التجار، المركب،....). وما يتعلق بذلك من أفعال (السفر، والترحال، والبيع، والشراء....)، ناهيك عن فعل السرد المتكرر مبقياً على ثبوتية البداية والنهاية سواء على مستوى الحكي أم على مستوى الحكاية، على اعتبار أن الحكي هو ما يمثل طريقة الحكي لدى شهرزاد في حين تمثل الحكاية بطولات السندباد، ومحافظاً في الوقت نفسه على حركية الحدث المتجدد عبر تحولات السرد، وفي كل مرة كان جالان يتعامل مع الألفاظ بحكمة وروية، فينقل الدوال ذات الدلالة المتطابقة في اللغتين (شمس ـ خير ـ يد ـ جزيرة ـ خالق....). ويتصرف في ما لا يسعفه وفق "نظام تمييز بصري يمكنه من تمييز الكلمات عن غيرها في نص اللغة المصدر"([36]).

والمتتبع لترجمة جالان قد لا يعثر على فروقات فاضحة بين النص المصدر والنص الهدف؛ لأنه غالباً ماكان يضع اللفظ المناسب في المكان المناسب. فهو لا يساوي بين عدد المفردات، وإنما يجتهد في أن يجعلها معبرة عن المعنى المقصود، وقد حرص أشد الحرص على ملاءمتها لتقاليد الذوق الكلاسيكي.

تقتضي عملية الترجمة معرفة واسعة وشاملة بأصول اللغة المنقول منها واللغة المنقول إليها، ومعرفة أعمق وأشمل بمرجعياتها؛ أي تلك المتعلقة بمضمون الناتج الدلالي، "فالترجمة ليست غاية وإنما وسيلة، باعتبار أن الأهمية ليست للرسالة وللمعنى الذي ينقله النص وإنما لعملية الترجمة ولمختلف الوظائف التي تقوم بها: اكتساب اللغة وإتقانها ومراقبة الفهم ورسوخ المعرفة وتثبيت البنى"([37]). فمن الممكن توليد مجموعة لا نهائية من الجمل القواعدية، ومع ذلك تبقى خاضعة لنظام نحوي تجريدي متفق عليه، ومن الممكن توليد مجموعة لا نهائية من الجمل البلاغية، ولكنها لا تخضع لنظام محدد وقابل للتطبيق، فإذا كانت لدينا الخبرة الكافية للحكم على جملة بأنها صحيحة قواعدياً فليست لدينا الخبرة الكافية للحكم على جملة بأنها صحيحة بلاغياً، ومن هنا حيرة المترجم الذي لا يكتفي بالمقارنة، وإنما هو مدعو لأن يفحص كل عبارة ويقلبها فيبدل، ويغير، ويحذف، ويضيف، إلى أن يتأكد من ضمان الحد الأدنى من التكافؤ التعبيري. فهل وفق جالان في تحقيق هذا المستوى من التكافؤ؟.

إن براعة الترجمة لا تتمثل في بلوغ الأصل وإنما في كيفية التوصيل، وتختلف هذه الكيفية باختلاف أنماط النصوص من جهة وباختلاف أساليب المترجمين من جهة أخرى، فهم لا يملكون المهارات ذاتها كما أنهم ليسوا على قدر واحد من كفاءة التأمل والذكاء.

وإذا كانت الترجمة لا تعني ـ في الأساس ـ نقل مجموعة إشارات لغوية ورمزية من اللغة (أ) إلى اللغة (ب) فمن الواضح أن تفكير أنطوان جالان كان متجاوزاً مفهوم النقل الحرفي، وذلك ـ في اعتقادنا ـ لسببين:

أولاً : الخوف من تصدع النص في اللغة المنقول إليها، وفساد المعنى، وتضليل القارئ.
ثانياً: الرغبة في إبداع روائع قصصية "محوّلة" من ألف ليلة وليلة.

ويبدو جلياً أن مشكلات الألفاظ لا تتخذ بعداً أحادياً، فإذا أخذنا عبارة (لكزه الشيب في عوارضه) والتي ترجمها جالان بـ: une longue barbe blanche نستنتج في الحين أنه أخذ كلمة (الشيب) وبنى عليها العبارة الفرنسية، مستلهماً دلالات الهيبة والوقار، وليس دلالات الشيخوخة والعجز. أما في عبارة (إن الريح غلب علينا، وعصف بنا) والتي ترجمها بـ: nous fûmes battus dune tempête horrible فنجده ركز على الفعل [غلب وعصف] لأنهما مبعث الهول والهلع ليصنعا دلالة الرعب والفزع في العبارة الفرنسية.

لقد عكف المنظرون على تتبع مشكلات الترجمة وحاولوا معالجتها بشتى الطرائق العلمية، فأوجدوا لها حلولاً في اللسانيات والسيميائيات غير أن ذلك لم يكن نهائياً إذ ما تزال كثير من المشكلات عالقة، وإذا ما أحيلت إلى المترجم يتصرف فيها بحكمة مرتكزاً على ما هيّأه الباحثون من تصورات وما أنتجوه من نظريات، ففي مجال الألفاظ" يجب أن نكون قادرين على تمييز ما هو مختلف في التعابير التي تعتبر متشابهة من الناحية اللغوية، ومتعددة الأشكال من حيث دلالات الألفاظ.. وبالإضافة إلى ذلك يلزم أن تتوافر لدينا معرفة بالتعابير التي تعتبر متشابهة من الناحية اللغوية ولكنها متكافئة تقريباً من حيث دلالة اللفظ، وبنفس الشكل يجب أن نكون قادرين على تحليل العلاقات بين التعابير التي تعتبر مختلفة من الناحية النحوية، ومن ناحية الجذور اللغوية (أو من الناحية المعجمية)، غير أنها متكافئة من حيث دلالة اللفظ"([38]).

فمن خلال هذه المعرفة قد يتسنى للمترجم خوض سجال مع الدال والمدلول معتمداً على خبرته في التحليل والفهم، مستعيناً بما اكتسبه (لغوياً واجتماعياً) من قدرة على تمييز الألفاظ في أعراف اللغات المنقول منها والمنقول إليها؛ "لأن تعددية المعاني والغموض من شأن كل تركيب مفرداتي يتم خارج السياق إلاَّ أنهما يزولان عندما تندرج الجملة في إطار الخطاب، وإرادة التواصل هي التي تحرر الكلمات من تعددية معانيها وتزيل عن الجمل غموضها وتحملها المدلول المراد"([39]).

* د. ياسمين فيدوح
أنطوان جالان "مفجّر شاعرية الشرق"





=========

([1]) ـ جورج مونان: المسائل النظرية في الترجمة. ترجمة: لطيف زيتوني. دار المنتخب العربي، لبنان، ط1، 1994، ص 8.
([2]) ـ حسن حنفي: من النقل إلى الإبداع، دار قباء، القاهرة 2000، ص 81.
([3]) ـ المرجع نفسه: ص 78.
([4]) ـ محمد عناني: فن الترجمة، الشركة المصرية العامة للنشر، ط1، 1992، ص7.
([5])- Hellal. Yamina: Initiation a L’interprétation. Opu. 1982. P5.
([6]) ـ يوجين ا.نيدا: نحو علم للترجمة، ترجمة : ماجد النجار، وزارة الإعلام، العراق، 1976، ص 396.
([7]) ـ المرجع نفسه: ص 394.
([8]) ـ د.شريفي عبد الواحد: أنطوان جالان وألف ليلة وليلة، مجلة الآداب الأجنبية، ع 98. 1999، ص 59.
([9]) -Henri Meschonic: Poetique de la traduction. Paris. Gallimard. 1980. P 451.
([10]) ـ روجرت لندن بيل: الترجمة وعملياتها، ترجمة: محي الدين حميدي، كتاب الرياض، 2000، ص 91.
([11]) ـ جورج مونان: المسائل النظرية في الترجمة، ص 7.
([12])- Camille. I. Hechaime: La traduction par les textes, dar el machreq- Beyrouth, 1978. p3.
([13]) ـ عبد الواحد شريفي: أنطوان جالان وألف ليلة وليلة، الآداب الأجنبية، ص 59.
([14]) ـ جي سي كاتفورد: نظرية لغوية للترجمة. ص 55.
([15]) -Camille. I.Hechame: la traduction par les textes. P 24.
([16]) ـ روجرت لندن بيل: الترجمة وعملياتها، ص 105.
([17]) - Susan Bassnett, MC Guir: Translation stadies, Britich library, 1980. p25.
([18])-Ibid. p.26.
([19])- Susan Bassnatt Mc guir: Translation Stadies, p26.
([20]) ـ سهير القلماوي: ألف ليلة وليلة، ص 18.
([21]) ـ فريال جبور غزول: البنية والدلالة في ألف ليلة وليلة، مجلة فصول، ص90.
([22]) ـ المرجع نفسه. ص58.
([23])-GERARD GENETTE: PALIMPSESTES, SCUIL, 1981, P241.
([24]) ـ المسائل النظرية في الترجمة. ص 23.
([25]) ـ روجرت لندن بيل: الترجمة وعملياتها. ص 173.
([26]) ـ محمد عبد الغني حسن: فن الترجمة في الأدب العربي، الدار المصرية للتأليف، ص 185.
([27]) ـ هيام أبو الحسن: ألف ليلة وليلة في ضوء النقد الفرنسي المعاصر، مجلة فصول، ع4، سنة 1986، ص 212.
([28]) ـ محمد عناني: فن الترجمة. ص 14.
([29]) ـ محمد عبد الغني حسن: فن الترجمة في الأدب العربي. ص 190.
([30]) ـ المرجع السابق: ص199.
([31]) ـ محمد عناني: فن الترجمة. ص 18.
([32]) ـ المرجع السابق، ص 14.
([33]) ـ نيدا: نحو علم الترجمة. ص 209.
([34]) ـ جي سي كاتفورد: نظرية لغوية للترجمة. ص 48.
([35]) ـ المرجع نفسه: ص 50.
([36]) ـ روجرت لندن بيل: الترجمة وعملياتها، ص 109.
([37])- Seleskovitch Danica et Lederer Mariane : Interpéter pour traduire, Didier Euridion. Paris, 1984. p. 18.
([38]) ـ نيدا: نحو علم الترجمة، ص 209.
([39]) ـ محمد نبيل النحاس الحمصي: الترجمة نقل للعلامات اللغوية أم صياغة جديدة،

* مجلة البيان، الكويت، ع 372 ـ 373، 2001، ص 9.

fidouhblogspot *
 
أعلى