محمد شاهين - الف ليلة وليلة اشكالية المتلقي الخصم

ذكر نجيب محفوظ في مقابلة له عام 1968 أنّه يكتب ولا يفسّر "وبكل أمانة وصدق لم أكن أدرك أنّ شيئاً ما قد تغيّر بالنسبة إلى أعمالي الأخيرة. ربّما يكون هناك رابط بين هذه الأعمال، وعلى النقّاد والقرّاء لا عليّ، اكتشافه."(1).

ويعلّق سمر روحي الفيصل على رواية شكيب الجابري قائلاً: "أمّا الصوغ الجديد لرواية قدر يلهو فيضم محاولة جادّة للتخلّي عن كثير من الأمور السالفة. فقد خفّت حدّة السرد الإنشائي، وارتفعت نسبة الحوار، بل إنّ بعض المقاطع الحوارية تَنِمُّ عن فهم للغة الحوار ولمقدرة هذه اللغة على تطوير الحدث وجعل الشخصية تعيش أمام القارئ."(2).

أمّا برخت فيقول: "أنت لا تستطيع أن تُسجّل الحقيقة، بل عليك أن تدوّنها من أجل شخص ما وله أيضاً، ذاك الشخص هو الذي يستطيع أن يفعل بتلك الحقيقة شيئاً ما."(3).

أمّا الكاتب الأمريكي رونالد سوكنك، فيلاحظ في معرض حديثه عن الفوضى التي تعمّ التنظير والممارسة في الميدان الأدبي قائلاً "إنّ الكاتب المعاصر مجبور على أن يبدأ من الصفر، إذ لا وجود للواقع، ولا للزمن، ولا للشخصية الذاتية، ففي ضوء هذه العدمية لن يكون مفاجئاً أن يكون الأدب نفسه عدماً. وفي هذه الحالة لا يبقى إلاّ القراءة والكتابة."(4).

هذه شهادات على سبيل المثال لا الحصر، وهي غيض من فيض يدلّل بكل بساطة على أنّ التلقّي في العملية الروائية، أو السردية، أو التقنية بشكل عام، أصبح بيت القصيد، أو نقطة الانطلاق، أو خاتمة المطاف في الكتابة والسرد والقراءة، وأنّه لابدّ من الالتفات إليه والالتفات حوله إذا ما أردنا تقييماً شاملاً عادلاً لما يكتب لنا وما يُروى علينا. ومن هنا أولاه المحدثون من النقّاد عناية خاصة وصاغوا له، أو منه ما أصبح يعرف بنظرية التلقّي واستجابة القارئ. من نقّاد هذه النظرية هانس روبرت ياوس، وولف جانج إيزر، ديفد بلايش، ستانلي فشر. وارننغ، ت. تودوروف، ور.سي. هولب، س. جي اشميدت، وجي. جنيت، وهـ. جي بلتْ، ووّ. ستيرل، ويو. إكو، وغيرهم،. وهؤلاء جميعاً شغلوا أنفسهم بتشعّبات التلقّي والعلاقة العضوية بين المتلقّي ( أو القارئ) والنص، تلك العلاقة التي تتضمّن أسرار الراوي والرواية المودعة في النص.

وعند الحديث عن التلقّي كإشكالية حديثة تشكّل وجهاً من وجوه الحداثة وما بعد الحداثة، فإنّه يجدر بنا النظر إلى مسألة التلقّي في مثل خلّد نفسه على مرّ الزمن شرقاً وغرباً وهو ألف ليلة وليلة، أي في العلاقة بين المتلقّي شهريار، والراوي شهرزاد وحكاياتها النص الذي تبثّه عبر الزمن على مسمع من شهريار.

كيف استطاعت شهرزاد سيدة القصص الأولى (والليدي مونوليزا الشرقية بكل جدارة) أن تسيطر على الموقف وتبدع نصّاً له إشكالية حديثة؟ إنّ التماس بين شهريار ونص الحكايات أدّى إلى تطويع الزمن الفيزيائي، أي أنّ الزمن لديها لم يعد وحدات منفصلة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ساعات وأيام وأشهر وسنوات، وما إلى ذلك من التقسيم الذي نعيش فيه ظاهراً والذي يهيمن على حياتنا فيجعلنا نرضخ لوقعه وإيقاعه وقدره المحتوم. فكما نعلم عاش شهريار ردحاً من الزمن وهو ينتظر انقضاء الليلة حتى يختمها بضحية، وظلّ الأمر على هذه الحال إلى أن جاءت شهرزاد واستطاعت أن توقف عقارب الساعة وتدخل مع شهريار في حسبة مختلفة للزمن لا يمكن ضبطها بالطريقة المعهودة لحساب الزمن، وأول تصدّع في بناء الزمن التقليدي نجده في العنوان الذي يخلو من التطابق بين عدد الحكايات وعدد الليالي، أي أنّ الحكاية الواحدة لا تبدأ مع بداية الليلة وتنتهي مع نهايتها.. استطاعت شهرزاد أن تجعل الزمن عند شهريار وعياً داخلياً لا قوة خارجية منفصلة يحين موعدها عند الغروب مثلاً، أو في منتصف الليل، أو قبل الشروق، أو ما شابه ذلك.

استطاعت شهرزاد أن تخلق من شهريار متلقياً مشاركاً في نصّ الحكايات، وكأنّه أصبح لزاماً عليه أن يساهم في إبداعها وإعادة خلقها من جديد، كل ذلك من خلال تكوّن شعوري داخلي بالزمن لا مطابقة له مع الزمن الخارجي الذي كان يفرض نفسه عليه قبل سماع الحكايات. حالة شهريار الجمالية أصبحت أشبه بحالة الفنّان الذي يستمر في خلق الصورة الفنيّة دون أن يعرف سلفاً الصورة كاملة قبل أن تنتهي؛ لأنّه لو عرفها سلفاً لما وجد نفسه بحاجة إلى الاستمرار في خلقها، فهو من ناحية لا يمكنه أن يعرف الصورة التي يعمل على تكوينها قبل أن تكتمل، وهو من ناحية أخرى، لا يعرف زمناً محدّداً، أو معيناً يمكن التنبؤ به قبل أن تكتمل الصورة فعلاً، أي أنّ الفنّان يظلّ معلّقاً بزمن شعوري إلى حين اكتمال الصورة وما عليه إلا أن يستمر في الإبداع دون قيد زمني. هذا هو تصوّر الزمن عند بيرجسون: استمرارية شعورية متدفّقة يتحكّم بها وعينا بحالتنا الداخلية التي لا يمكن قياسها بساعة الحائط، ويضيف بيرجسون قائلاً إنّ ما نقوم به من عمل، يعتمد على ما نحن عليه من حالة شعورية.

لابُدَّ أن شهريار أدرك وهو يستمع إلى الحكايات، أنّ الحقيقة ليست ثابتة ثبوت موعد اقتراب الليلة التي تنقضي بضحية، بل إنها متغيّرة تغيّر حالاتنا الشعورية من حكاية إلى حكاية، أي أنّ الوعي بالحقيقة ليس شيئاً جامداً، بل إنّه في حالة تغيّر مستمر حتى في داخل الشخص الواحد. ويقول بيرجسون إنّ الوجود عند الكيان الواعي هو التغيير، وأنّ التغيير يعني النضج، وأنّ النضج يعني الاستمرار في خلق الذات إلى مالا نهاية. وهكذا يدخل شهريار في ديمومة التغيّر التي تحيد به عن روتين البطش الجامد الذي كان ناقوسه يدقّ بعد انقضاء كل ليلة. أي أنّ حياته التي كانت موزّعة على وحدات من الليالي، أصبحت ليالي متداخلة أشبه بالفترة الزمنية (duration) التي شبّهها بيرجسون بكرة الثلج التي تتدحرج من عل، فما أن تهبط إلى الوادي حتى تكبر في حجمها بعد أن استمرت في التقاط الثلج عبر تدحرجها. والتشبيه هنا كناية عن تداخل الماضي بالحاضر، وعدم النظر إليهما كوحدتين زمنيتين منفصلتين، إذ يصبح الزمن في هذه الحالة وعياً حاضراً تذوب فيه حدود الزمن التقليدي.

أهم حدث غيّر مجرى الحياة عند شهريار، هو تفعيل الذاكرة نتيجة التماس بينه وبين نصّ الحكايات. اعتاد شهريار قبل أن تدخل شهرزاد حياته أن يعيش فترات زمنية متطابقة بوعي واحد، ليلة بعد ليلة، ضحية بعد ضحية. يقول بيرجسون: إنّه لا للمرء أن يعيش فترتين زمنيتين متطابقتين بوعي واحد، أي أنّ الحدث، أو التجربة في فترة زمنية واحدة، لا تتكرّر نفسها ولا تعيد نفسها، ولو صحّت الفرضيّة: حدثان أو زمنان تطابقا في وقعهما على الوعي، لكان الوعي بهما واحداً، وفي هذه الحالة لا يكون للذاكرة مكانٌ في الوعي، أي أنّ الحياة تصبح وعياً دون ذاكرة. ومن الواضح إذن أنّ حكايات شهرزاد أيقظت الذاكرة عند شهريار، بل فعّلتها بطريقة جعلت حياته حدثاً أو إحساساً بحدث يتبعه ذاكرة، وأكثر من ذلك، أثرت حياته بأزمان مختلفة وأحداث متنوعة وإحساسات كثيرة وذكريات لا حصر لها –وكلها خرجت به من ظلمات الحدث أو الزمن الواحد الذي كان يكبّله في الماضي إلى نور الحياة الذي طلع عليه من تداخل الزمن الذي أصبح يتشكّل في وعيه واستمرارية هذا الزمن. ومثل هذا الوعي يصفه بيرجسون على أنّه متنوع الصفات، مستمر في تقدّمه إلى الأمام، متوحّد في الاتجاه.(5)

ويقول بروست في معرض حديثه عن استرجاع الزمن أنّ هنالك فارقاً بين حالة وعينا في الحاضر، والذاكرة التي تسلّل من الخفاء إلى هذا الوعي، كالفارق بين ذاكرتين نسترجعهما لسنوات، أو أمكنة، أو ساعات مختلفة، إذ تصبح المقارنة بينهما مستحيلة حتى لو أردنا غير ذلك. ويمكن أن نقرأ تغيّر شهريار من هذا المنظور، فبعد أن فعّلت ذاكرته أصبح يرى الفارق واضحاً بين ذاكرة البطش في الماضي، وحالة وعيه الحاضر بذكريات السندباد الجميلة المتنوّعة مثلاً، وغيرها من الذكريات الأخرى الأخّاذة. باختصار، يتغيّر شهريار عندما يتحرّر من عبودية الحدث الواحد المتكرر كل ليلة. أصبح وعيه مسكوناً حاضراً بليالٍ وملامح متنوعة الأزمان والمشاعر ومستمرة في تعاقب تداخل حدوثها وذكرياتها.

إنّ المشكلة الرئيسية التي كان شهريار يواجهها قبل تعرّضه لتأثير الحكايات، هي أنّ خياله كان يبدو معطّلاً، اللهمّ إلاّ من ذكرى الخيانة الزوجية التي لا تدخل طبعاً في سياق الخيال الإيجابي الذي يمكن أن يجلب البهجة والسرور إلى حياة الإنسان، إذ إنّ خياله بدأ عاجزاً عن استرجاع ذكرى جميلة في حياته الزوجية، أو أي ذكرى في حياته الماضية. ومن الطبيعي في هذه الحالة، أن يتعطّل وعيه بالحاضر الذي يمكن أن يعوّضه عن حدث الخيانة الزوجية، أو يصدّ استرجاعها مثلاً. يقول بروست في هذا الصدد: إنّه في كثير من الأحيان كان يصاب بخيبة الأمل في واقع الحياة التي يعيشها ويراقبها، خصوصاً وهو يرى أن خياله، وهو الأداة الوحيدة التي من خلالها كان بإمكانه أن يستمتع بالحياة ليس طوع إرادته؛ لأنّه بطبيعة الحال لا يأتيه إلاّ بما هو مفقود في واقعه، أي أنّه ليس من السهل علينا أن نطوّع خيالنا كأن يحضر إلى حاضرنا ماهو في ماضينا وقتما نشاء، وهذا ما يشكّل إحباطاً لابُدَّ أنّ الرومنتيكيين عانوا منه أكثر من غيرهم. لكن بروست يلاحظ أنّ الحاضر والوعي به يسدّ هذا الفراغ، إذ يلاحظ أنّ عدداً هائلاً من المشاعر والذكريات تتولّد من مجرّد الإحساس بالواقع، وأنّ الخيال يمكن أن يولد من الحاضر وفيه، وأنّه ليس قصراً على الماضي الذي يفصله الحاضر عنّا، والذي نرغب أحيانا في أن نعبره عن طريق الخيال الذي عاش الرومنتيكيون في ظلّه وتحت رحمته. يعتقد بروست أنّ خيالنا قادر على أن يفعّل أشياء كثيرة في وجودنا الحاضر من خلال الوصول إلى كنهها بواسطة الحواس. ويلاحظ بروست أنّ الحواس بمفردها غير قادرة على إيصالنا لجوهر الأشياء، وأنّ العقل بمفرده يعجز عن دراسة ماضي الأِشياء في جوهرها، وأنّه لا يستطيع أن يكوّن مستقبلاً متماسكاً يتعدّى شذرات من الماضي والحاضر تظلّ معزولة عن الواقع، ولا تناسب غير المنتفع الذي يرى فيها خطة مناسبة فقط لقصد إنساني محدود الأفق. وهكذا يمكن أن نصف حياة شهريار قبل شهرزاد بأنها محاصرة بثالوث زمني عقيم، وما خطّة الانتقام التي رسمها إلاّ شذرة تشكّلت من منطق عقيم جعلها تتحرّك عبر وحدات زمنية مغلقة، نفعية وهمية.

يرى بروست أنّه لابدّ من خلاص من مثل هذا الزمن المتردّي المقطّع الأوصال، عندما لا يسعف الخيال صاحبه دائما في نقل الماضي المبهج إلى الحاضر، وعندما لا يفي العقل إلاّ بنقل شرذمة من الماضي إلى الحاضر يوهم صاحبها أنّ فيها الخلاص، وعندما لا تقدر الحواس على غير ظاهر الأشياء تصويراً. الخلاص، كما يراه بروست هو في تفعيل الحالة الراهنة من الوعي بواسطة التفاعل بين الخيال والحواس، إذ تنطلق لحظة (duration) من عقال الزمن فتخرج من تسلسلها الفيزيائي بطريقة تلقائية، فتصبح محمّلة بالمشاعر المكثّفة، لا تعرف ماضياً، ولا حاضراً، كما أنها لا تعرف مستقبلاً بالتأكيد. يضرب بروست مثلاً على صوت ملعقة يتراءى إلى مسامعنا أثر رنينه فوق طبق، أو عبق نألفه يتسرّب إلى حاسّة الشمّ عندنا. هنا تتكوّن في وعينا تلقائياً حالة شعورية تمتدّ بين الماضي والحاضر، لكنها غير محصورة في زمن اللحظة الحاضرة على الرغم من أنّها تكوّنت في الزمن الحاضر، وهي بطبيعة تكوينها الجديد حاضر وليس ماضياً، والذي يحرّرها من بُعْدي الزمن التقليديين، هو الفجائية التي تجعلها تنفذ إلى جوهر البقاء الذي يبدو عادة مخفياً عنّا. ومع هذه اللحظة تنطلق ذاتنا الحقيقية التي كانت ولحين هذه اللحظة، تبدو ميتة من ناحية، إلى أن دبّت فيها الحياة من جديد، وكأنّها تلقّت الزّاد السماوي الذي أحضر لها من خارج الزمن.(6) ويمكننا القول هنا مقارنة مع نظرة بروست إلى الزمن أنّ شهريار يتغيّر في موقفه من البطش عندما يحيا في وعيه ما كان يبدو له ميتاً، وذلك من خلال تأثير الحكايات الذي يسمو به فوق أبعاد الزمن ويحمله على أجنحة اللحظة التي لا تعرف القيود.

ويمكننا القول إنّ شهريار وقع في أسر شهرزاد عن طريق ما يسمّيه بروست "لعبة الزمن العظيمة"، أو ما يسمّى أحياناً بـ "صندوق اللعب الصينية السحري"، إذ تتداخل أزمنة الحكايات بعضها ببعض، مثل تداخل اللعب في الصندوق الصيني السحري. إنّ بداية شهرزاد للسرد يمثّل فجائية الزمن الذي لا يعرف زمناً، فعبارة "بلغني يا ملك الزمان" عبارة تُخرج شهريار من قمقم الزمن الذي يذكر محنته في يوم من الأيام. هذه العبارة التي تستخدمها شهرزاد نفسها، أو نيابة عن غيرها، تختلف في قيمتها عن تلك العبارات المشابهة في الحكاية الإطار، إذ إنّ يوماً من الأيام هنا، في الحكاية الإطار، هو بالنسبة لشهريار يوم مشؤوم تسبّب ما حدث له فيه بليال. فالزمن الذي يمتد بين ذلك اليوم والليالي التي أعقبته وكادت تستمر في تواليها، زمن يعرفه شهريار ويعرف كيف كان، وكيف سيكون، والفاصل بين الزمنين، وهو الزواج من عذراء كل ليلة لا قيمة له؛ لأنّه نتيجة لمقدّمة اليوم المشؤوم ومتبوع بليلة مشؤومة، وهو أشبه بما يسمّى في المأساة comic reflief لا يقدّم ولا يؤخّر فيما حصل ويحصل لشهريار.

هذه الحكاية الإطار التمهيدية، تبيّن لنا التصاق شهريار بزمن الخطيئة النكراء: (حكي) والله أعلم أنّه كان فيما مضى من قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملك من ملوك ساسان بجزائر الهند والصين صاحب جند وأعوان وخدم وحشم له ولدان أحدهما كبير والآخر صغير وكانا بطلين وكان الكبير أفرس من الصغير وقد ملك البلاد وحكم بالعدل بين العباد وأحبّه أهل بلاده ومملكته وكان اسمه الملك شهريار وكان أخوه الصغير اسمه الملك شاه زمان وكان ملك سمرقند العجم، ولم يزل الأمر مستقيماً في بلادهما وكل واحد منهما في مملكته حاكم عادل في رعيته مدة عشرين سنة وهم في غاية البسط والانشراح....

تشرع شهرزاد في سرد حكاياتها، وتظلّ تسرد إلى الأبد، وشهريار يتلقّى الحكايات، وهي تنساب في اللازمن. وأول مظهر لتأثير الحكايات فيه هي أنها بانسيابها اللازمني تنسيه الزمن كما خبره وقاساه وحدّدته له حادثة الخيانة الزوجية. وفي اعتقادي أنّ الليلة التي تُضاف إلى الألف ماهي إلاّ إشارة إلى فتح بوابة الزمن على مصراعيها لتفضي بنا إلى اللامحدود. ولولا أنّ "كان ياما كان" تدخلنا في لا محدود زمني، لما ظلّت أداة فعّالة عبر تاريخ السرد من قديم السرد إلى رواية جويس صورة الفنّان في شبابه التي تبدأ بعبارة "كان ياما كان"، أو "يحكى في قديم الزمان". كذلك لابدّ لنا من وقفة عند ملك الزمان التي تفتتح شهرزاد بها السرد، إذ إنّ من الأهمية بمكان أن يتوهّم أو يقتنع شهريار بأنّه مسيطر على الزمن، وذلك من أجل أن يبطل مفعول توهمه أنّ الزمن هو الذي غدر به، وأنّه بعد الحادث أصبح يعتقد بأنّه مملوك للزمن، بعبارة موجزة يصبح شهريار آسراً ومأسوراً للزمن برضاه وقناعته.

يقع شهريار إذن أسيراً في زمن يتوالد في حكايات متوالدة، وينسيه هذا التوالد زمنه القاتل وذاته المقتولة ويحيي فيه ذاتاً تبرز من فكّ الارتباط بين شهريار الحقيقي وشهريار الضمني الذي يصبح من أول ليلة شهريار المتضمن في الحكايات، وهكذا ينشأ التوازي بين شهريار الضمني، وشهرزاد الضمنية مثل التوازي بين شهريار الحقيقي وشهرزاد الحقيقية. هذا هو مثلاً شهريار صاحب الأزمنة الذي يمثّل حاضراً متأزّماً مضى عليه ألف يوم ويوم: "وصار الملك شهريار كلّما يأخذ بنتاً يقتلها من ليلتها، ولم يزل على ذلك الحال مدّة ثلاث سنوات فضجّت الناس، وهربت ببناتها، ولم يبقَ في تلك المدينة بنت تقبل الزواج." أمّا شهرزاد الحقيقية، فهي التي تستحلف أبيها أن يزوّجها من الملك دون أن تكون متأكدة من أنها ستعيش، أو تكون فداء لبنات المسلمين، وسبباً لخلاصهنّ من طغيانه، وهي شهرزاد التي بكت عندما خلا بها الملك، وهي التي طلبت من الملك أن يأذن لها بإحضار أختها لتودعها، وهي التي اتّفقت مع أختها سلفاً على أن تطلب منها وهي في حضرة الملك أن تحدّثها حديثاً تقطع به سهر الليلة، وهي شهرزداد التي استأذنت الملك المهذّب –كما وصفته- بالحديث.

من هذا يتبيّن لنا أنّ شهرزاد الحقيقية هي صاحبة الخطّة التي تهدف بادئ ذي بدء إلى إفشال خطة البطش عند شهريار، وهي شهرزاد التي تتطوّع لإنقاذ بنات جنسها، وهي شهرزاد التي ترث جوّ السرد، متوسّلة استدعاء أختها كمتلقية كي يصدّق الملك أنّ أختها هي المتلقية الحقيقية، وأنها –أختها، هي المستهدفة (target) في تلقّي الحكايات وعملية سردها التي تقوم بها شهرزاد. إنّ شهرزاد الحقيقة، هي شهرزاد ما قبل البدء في عملية السرد. وفي دراسة بعنوان الرواية اليوم The Novel Today يعنون الناقد دراسته "عندما تستنفذ شهرزاد خططها، أو حبكاتها (وكلّها ترجمة كلمة plot التي تعني حبكة ومؤامرة في آن واحد) تبدأ بالسرد، فيحتار الملك ويصغي". ونقرأ هذا الفصل من الكتاب دون أن نجد ذكراً لشهرزاد، أو لشهريار، أو لألف ليلة وليلة. ومن الواضح أنّ الناقد يستخدم العنوان مجازاً يبيّن الفرق بين شهرزاد الحقيقية، ابنة الوزير، أخت دُنيازاد التي تتدبّر أمْرَ الأزمة، وبين شهرزاد الراوية، أو الضمنية التي تبدأ حياتها وحياة بنات جنسها عندما تلبّي طلب أختها في الحكي بناءً على موافقة الملك المهذّب، إذ تقول شهرزاد لأختها: "إنْ أذنَ لي هذا الملك المهذّب. فلّما سمع ذلك الكلام، وكان قلقاً فرحاً بسماع الحديث"، هذه هي الشرارة التي تشعل نار السرد بأكمله.

ومن الأهمية بمكان، أن نتذكّر هنا أنّ الذي يغيّر شهريار ليس خطّتها التي تمهّد بها السرد، بقدر ما هو السرد بذاته، إذ لا تنوي شهرزاد أن تحتال على الملك بقدر ما تريده أن يحتال على نفسه. تهدف شهرزاد أكثر ما تهدف، إلى أن يغيّر الملك ما بنفسه أولاً، حتى يتغيّر سلوكه الخارجي ويتوقّف عن البطش، وأول بادرة في نجاحها، أنها خلقت منه مصغياً حسناً اعتراه القلق والفرح معاً على أثر سماع القصص، أي أنّ شهريار أصبح على استعداد لأن يسمع غيره ومن غيره، وأن يكون متلقياً نجيباً ومشاركاً "مهذباً"، ولا بُدّ أن شهرزاد استعملت الكلمة في البداية بسخرية رائعة. وهنا تجدر الإشارة إلى صورتين شائعتين، لكنهما غير منصفتين لشهرزاد. الأولى صورة شهرزاد المحتالة التي تظهر بين الحين والآخر شعراً، أو نثراً كموتيف للغواية، أي أنّ شهرزاد قدرة هائلة من الغواية التي تشبه الخداع أحياناً. ويجتهد بعض المحدثين من الشعراء القصّاصين بالتركيز على هذه الصورة لشهرزاد، وخلق مناهض يفلت من الغواية ويقاومها، ونرى في هذه الحالة أنّ التشويه يلحق بشهريار نفسه. أمّا الصورة الثانية، فهي أقل سلبية وأكثر إيجابية، وهي الأكثر شيوعاً، إذ إنّها ترى في شهرزاد امرأة حكيمة استطاعت بحكمتها وعقلانيتها الأخلاقية أن تغيّر مليكها وكأنّ الحكايات في هذه الحالة أشبه بدرس وعظي أذعن له الملك، وفي دراسة مستنيرة يقدّمها سليمان العطّار يقول: إنّ شهرزاد مثل المرأة التي تصوّرها الحكايات تكون "قيمة العقل عندها راجحة والحكمة عميقة."(7).

من الواضح أنّ حكايات ألف ليلة وليلة تتضمّن صورة الغواية الرائعة، وصورة الحكيمة الفذّة، ولكن الصورتين أقل قيمة من الصورة الشاملة، وأهم ما في الأمر، صورة شهرزاد الراوية التي يخلق صوتها الروائي عالماً يتوالد فيه الزمن والحدث ليصبح عالم شهريار الجديد. فالحكايات هي ضمنياً حكايات شهريار، يرى فيها نفسه، وغيره يقلق ويفرح معاً، وفي جميع الحالات يشارك رغبة تلقائية، هي رغبة الراوي إذا روى، ورغبة المتلقّي إذا تلقّى، ومن هنا تنشأ الوحدة العضوية بين المتلقّي الضمني، والنصّ والتي شغلت وما زالت تشغل المهتمّين بفنّ الرواية. هذا هو أكبر إنجاز حقّقته شهرزاد. ونظراً لقيمته الفنية، فهو ما زال مدار بحث ونقاش يكتشف فيه أصحاب النقد والنظرية أبعاداً في الحداثة وما بعد الحداثة (كثيراً ما يغطّي عليها الولع التقليدي بالسرد دون تخطّي البنية السطحية للسرد).

إنّ المشكلة الرئيسية التي تواجهها شهرزاد، وهي تغامر في البحث عن الخلاص، ليست البحث عن حكايات شائقة تخرج الملك من سأمه وتحوّله عن هدفه فقط، وهي أيضاً ليست القدرة على السرد، وهي كذلك ليست البحث عن الحكمة والموعظة الحسنة تقدّمها "المرأة المعلّمة والمحاربة معاً، شهرزاد"، كما يلاحظ سليمان العطّار بل إنّ المشكلة الرئيسية، هي خلق شهريار ضمني في هذه الحكايات يصبح معها هذا الشهريار وكأنّه راويها.(8) هذا هو التكافؤ الذي تسعى إليه شهرزاد، هو تكافؤ الأدوار بين المتلقّي الضمني والراوي الضمني، وهو تكافؤ يفوق مثلاً مجرّد المساواة بين الرجل والمرأة، كما في حالة تنكّر الأميرة بُدور بزي زوجها قمر الزمان.

تواجه شهرزاد الراوية إشكالية مركّبة. فالعلاقة أصلاً بين الراوي الضمني، والمتلقّي الضمني لا تكون بريئة بطبيعة الحال. وهذه إشكالية عامّة يتميّز بها السرد عادة. وخير تقييم لهذه العلاقة تعليق بيتر بروكس في دراسة متميّزة بعنوان "الحكاية في اتجاه معاكس للرواية".

إنّ قوة السرد من النوع الذي يثير نقاشاً تأويلياً لدى متلقيه، أو تحوّلاً جذرياً في حياة بأسرها. ولا يكون السرد عملية بريئة بأي حالة من الأحوال، والحكاية التي تكون إطاراً لغيرها تسمح للراوي الحقيقي أن يمسرح نتائج السرد. وهذا بلا شكّ يعطي المتلقّي إشارة تفيد بأنّ الحكاية المسموعة يمكنها، بل وينبغي عليها أن تخلق ردّة فعل عنده، أي أنّ الأدب لا يكون إلاّ تتابعياً."(9)

ويوضّح بروكس هذا الأمر بالرجوع إلى حكايات الكاميرون المشهورة، وإلى موروث أدبي كامل يلحّ علينا بأنّ الحكي يتضمّن سرداً يمسرح الموقف، إذ تلتقي مجموعة من الناس لا تجد بدّاً من تبادل الحكايات. وهذا ما يحدث أيضاً بالنسبة لموروث البيكارو، إذ يحتّم السفرُ على الطرق النائية لقاءَ أناس جدد يكتسبون صفة الشخصيات الروائية بمجرّد أنّه يتحتّم عليه تبادل حكايات يروونها فيما بينهم.

وفي معرض التوضيح هذا، يعلّق بروكس على ألف ليلة وليلة وكأنّه يرى فيها إشكالية خاصة تفوق الإشكالية العامة، فيقول:

"وفي الختام، فإننا نكاد نضلّ الطريق في متابعة حكايات ألف ليلة وليلة ونحن نتابع مستويات السرد في حكايات تتوالد، ثم تتداخل وتتوالد ثم تتداخل وهكذا.. لتعطينا انطباعاً أنّ هنالك إمكانية لتراجع لا نهاية له، يكون السرد فيه ليس شافياً فقط [كما هي العادة في جماليات السرد عامة], بل يكون شافياً لسلطان عصابي قاتل تثيره خيانة زوجته، إذ ينتهي السرد بزواج سعيد بين السلطان وشهرزاد، وهكذا تنجو البلد برمّتها من خلل خطير أصابها. إنّ شهرزاد، تعلم جيداً أنّ السرد لا يكون بريئاً، وأنّ سرد حكاية يكون قادراً على تغيير حياة بأسرها."(10)

ويرى بروكس، أنّ ما يحتاج إلى توضيح، أو إلى استكشاف، هو ما تبقى من موروث شفهي من الثقافة الأدبية في القرن التاسع عشر في نصوص خارج نطاق الفانتاسيا وقصص الأطفال التي عرفت في دائرة الرواة. ويتساءل بروكس عمّا إذا كنّا نواجه ببقايا اندثرت في مهدها من الرواية الشفهية، أم إننا نجد تعويضاً فيما يؤكده باحثون من تصوّر للخطاب القصصي على أنّه مكان تلتقي فيه الأصوات السردية المتباينة. ويختم تعليقه على هذا الموضوع بالقول: إنّ الخيار المتبقّي هو الحديث عن نوع من الحنين إلى موقف توصيلي لا يمكن لكاتب الرواية في عصرنا أن يخبره. ويريد بروكس أن يخلص إلى القول إنّ الحميمية التي كانت تميّز السرد الشفهي لم تعد متوافرة في العصر الحاضر، تلك الحميمية التي كانت تخلق موقفاً حياً من التواصل والتبادل بين الراوي والمروي له، بين المبدع والمجهول.(11)

قضية الحميمية هذه، هي حجر الزاوية في الإشكالية الخاصة التي تميّز التلقّي في ألف ليلة وليلة عن بقية الأمثلة المشابهة، أو المتشابهة في أدب السرد الشفهي. فالعلاقة الحميمة بين الراوي والمروي عليه تنشأ من مجرّد التماس بين الراوي وجمهوره، وهي في أحيان كثيرة حميمية تبعث على الدهشة خصوصاً كحكاية الحكواتي الذي رجع إلى بيته بعد أن فرغ من حكايته، وإذا باثنين من بين الجمهور الذي سمع الحكاية يطرق باب الحكواتي ومعهما مبلغ من المال جمعه الجمهور فدية للبطل الذي أودعه الحكواتي السجن!

يكوّن التلقّي إشكالية خاصة في ألف ليلة وليلة؛ لأنّه لا يبدأ بالحميمية التي يبدأ السرد الشفهي بها سواء كان الراوي على معرفة بالجمهور المتلقّي أم كان غريباً عنه، المهم أنّ قرب الجمهور المتلقّي مكاناً وزماناً (هنا زمن السرد) هو الذي يؤسّس الحميمية بتلقائية طبيعية. ومن الواضح أنّ مهمة شهرزاد في السرد لها إشكاليتها الخاصة منذ البداية؛ لأنّ السرد بادئ ذي بدء موجّه إلى خصم يحتاج إلى مداراة ومسايسة وتمهيد، كي ينكسر حاجز الشكّ أولاً قبل بناء الثقة. وفي العادة يكون متلهفاً لسماع السرد من الراوي، ويقبل عليه بنيّة حسنة، وهو يتوقّع سلفاً أنّ في السرد الذي يتلهّف لسماعه شيئاً ما يمتّعه، أو يطربه، أو يغيّره، وما على الراوي إلاّ أن يروي ليتلقّف المستمع روايته. أمّا أن يبدأ في جوّ مشحون بالحقد والكراهية والظلم والرعب الذي حلّ بأهل البلد على يد شهريار، فهذا أمر لا يقدر عليه إلاّ من أوتي موهبة البداية مثل شهرزاد. تبدأ الليلة الأولى بقول شهرزاد: "زعموا أيها الملك السعيد وصاحب الرأي الرشيد.."، أمّا الليلة الثانية، فتبدؤها شهرزاد بالقول: "زعموا أيها الملك السعيد صاحب الرأي السديد..."، وتبدأ الليلة الخامسة "بلغني أيها الملك العزيز..."، وتتوالى البدايات هكذا زيادة طفيفة، أو نقصاناً لا يزيد ولا يُنقص من البداية كالذي نلحظه مؤطراً في عدد من الليالي التي تستهلها شهرزاد بقولها: "بلغني أيها الملك السعيد، الموقف الرشيد، صاحب الرأي السديد والفعل الجميل الحميد".

الكلمة الأولى في البداية هي بيت القصيد، إذ إنها تؤسس المسافة بين الراوي والمروي عليه، وتبعد شهرزاد الحقيقة عن شهريار الحقيقي، ممّا يؤهّلها لأن تقدّم هوية شهرزاد الراوي الضمني لتخلق بدورها شهريار المتلقّي الضمني، وهذا ما يفكّ الارتباط بين شهريار القاتل، وشهريار المتلقّي الضمني. وأول مهمّات السرد هنا بل وأصعبها هو فكّ مثل هذا الارتباط، إذ لا يمكن أن يكون للسرد تأثير في قاتل دون أن يتحول عن موقف القتل هذا. فشهريار ليس كبقية الخلق من جمهور المتلقّين الذي يستقبلون الحكي بقلب مفتوح وحميمية بريئة يَفْقِدُ المتلقّي براءته عادة تدريجياً مع سماع السرد. فشهريار القاتل لا يتمتّع بأدنى درجات البراءة. وهنا تكمن الإشكالية، فشهرزاد تروي للقاتل المقتول.

وأبرز المفارقات في أمر التواصل بين الراوي والمروي عليه في ألف ليلة وليلة هي أنّ الميّزة التي يتمتّع بها السرد في الحكاية المحكيّة نتيجة القرب المكاني والزماني، والتي من شأنها عادةً توثيق الأولى إلغاء الوضع الذي وجدت شهريار عليه، نظراً للحاجة الماسّة إلى تبديله. من هنا تبرز أهمية الكلمة الأولى في افتتاحية شهرزاد التي تدعوه بأدب جمّ أن يخرج من الزمن والحدث اللذين كبّلاه طيلة المدة، وأن يدخل مدخل صدق في زمن وحدث جديدين هما في واقع الأمر أزمنة وأحداث متنوّعة غير محدودة تتوالى في الحكايات المختلفة، تتعدّى في آفاقها أفق الزمن والحدث القاتلين حدّيهما ومحدوديتهما. وحياديّة هذه الأزمنة والأحداث يكوّن مصدر جذب أساسي يُدخل شهريار في دائرة السحر. وهكذا يؤتي الحكي ثماره، ويصبح شهريار قادراً على التمتّع بأهم ميّزة السرد وهي التأمل، وأكثر من ذلك، فإنّ حكايات شهرزاد ليست من النوع الذي هو للاستهلاك، إذ إنها تعلّق انتباه شهريار إلى ما لا نهاية، وهي تنساب في زمن اللانهاية، وتقدّم له النصّ ليكتشفه هو بنفسه، وتَمْثُل أمامه شخصيات الحكايات، وهي تنبض بالحياة ليحاكيها ويتأمّلها بوعي جديد يستبدل شبح الموت بصورة الحياة.

إشكاليّة التلقّي في ألف ليلة وليلة إذن هي أنّ السرد لا يبدأ من الصفر، ولا ببراءة المتلقّي المعهودة، بل بفكّ الارتباط بين شهريار وذاته وزمانه أولاً، يتلوه ارتباط، أو ما يعرّفه رولان بارت في حديثه عن فن الرواية الحديثة بالتعاقد بين الراوي والمروي عليه، بين الكاتب والقارئ. ويقترح وولتر بنجامين (الناقد الذي يتمنّى على تقنية الرواية الحديثة أن تعود في حميميتها إلى ما كانت تقدّمه الحكاية قديماً" وصفاً لهذا التعاقد، يتبنّاه بحماس بيتر بروكس، فيقول: "إنّ فكرة الحكي هي موهبة، وهي فعل يدلّ على السخاء ينبغي على المتلقّي أن يستجيب له بسخاء مماثل، فإمّا أن يروي قصّة أخرى (كما هي الحال في حكايات ديكاميرون وموروثها)، وإمّا أن يعلّق على القصّة المحكيّة. وفي جميع الأحوال، يكون الحكي برهاناً على أنّ هذه الموهبة قد استقبلت [بحفاوة من قِبَل المتلقّي]، وأنّ الحكي قد أحدث تغييراً."(12)

ونظراً لأنّ الارتباط بين الراوي والمروي عليه في ألف ليلة وليلة ذا إشكالية خاصّة، فإنّه من الطبيعي أن يكتفي شهريار بالاعتراف بموهبة، شهرزاد، وأن يظلّ أغلب الوقت صاغياً حتى النهاية كدليل صامت على تحوّله وتغيّره، بل واستجابة لهذه الموهبة.

هذه الإشكالية الخاصة، هي التي أمدّت في عمر ألف ليلة وليلة وجعلتها تتميّز عن سائر الحكايات الأخرى في نطاق موروث الحكاية العالمي الذي أصبح سجلاً في تاريخ الحكاية أكثر منه أنموذجاً في تقنيتها، إذ إنّ ألف ليلة وليلة تتضمّن ميّزات الحكاية التي استُثْمرت في تقنيات الرواية، وأهمّها كما أشرنا أعلاه الراوي الضمني، والمتلقّي الضمني، أو ما يشير إليه حازم شحاته في حكايات الطيور قناع الراوي ومرآة المروي عليه. وهنا يبلغ نجاح شهرزاد أقصاه عندما طلب شهريار منها أن تحدّثه حتى يسمع حكاياتها. فتروي شهرزاد وتروي وتظل تروي ونصغي ونصغي، ونظل نصغي، وفي الختام تعيش شهرزاد وتسقط الجناية، وفي الختام يحيا الراوي على مرّ الزمن ويسقط الجاني في هوّة الزمن.

الهوامش:

(1)نجيب محفوظ، "الأدب، الحرية، الثورة"، مقابلة أجراها سمير الصائغ، مواقف، العدد الأول (1968)، ص77.
(2)سمر روحي الفيصل، تجربة الرواية السورية: دراسة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1985، ص19.
(3)Tonny Bennett, “Text and History in Re-Reading English, ed., London 1982, p.223.
(4)Ibid.

(5)Hinri Bergson, “Duration” in The Modern Tradition: Backgrounds of Modern Literature, Richard Ell-man, Fieldman, eds., New York, 1965, p.728.
(6)المرجع نفسه، ص278.
(7) سليمان العطار "شهرزاد امرأة الليالي العربية فصول، شتاء 1994، ص170.
(8) يقول حازم شحاته في دراسته القيّمة عن ألف ليلة وليلة "لا تنجح الحكاية –العبرة إلاّ إذا أصبحت مرآة، أجاد الراوي صنعها لتعكس ذاته وليرى فيها المروي عليه نفسه فتصبح جسراً يلتقيان عبره، فصول، ربيع 1994، ص68. وبما نجد لزاماً علينا أن نضيف كلمة الفنية بعد ذاته لتصبح ذاته الفنية أو القارئ الضمني ويقصد بها جميعاً الراوي الضمني.
(9)Peter Brooks, “The Tale Versus The Novel” Novel, P.21, (Winter/Spring 1988) pp.290-91.
(10)المرجع نفسه، ص288.
(11) المرجع نفسه، ص290-291.
(12) المرجع نفسه، ص291.
 
أعلى