يوسف القعيد - ليالي شهرزاد ... وسهير وطه

لنبدأ بأمهاتنا حتى نستحق أن نوصف بأننا متحضرون. و«سهير» هي الأستاذة الدكتورة سهير القلماوي. و«طه» هو عميد الأدب العربي طه حسين. والليالي هي «ليالي ألف ليلة وليلة» التي أقامت الدنيا ولم تقعدها... بالشكوى المقدمة ضدها أخيرا. و«شهرزاد» هي الحكاءة التي حكت «الليالي». وأصبح مجرد ذكر اسمها يشير إلى الحكي والقص والرواية.
والأمر الذي جمع بين الثلاثة... رسالة الدكتوراه التي قدمتها سهير القلماوي وأشرف عليها طه حسين. وكانت عن: «ألف ليلة وليلة». وقد أحسنت الهيئة المصرية العامة للكتاب صنعا... عندما أصدرت أخيرا طبعة جديدة من هذه الرسالة، بعد أن نفدت من أسواقنا منذ سنوات بعيدة. كل طبعاتها.

ومن المعروف أن الطبعة الأولى منها صدرت سنة 1959 في مصر. لا أعرف هل كانوا في هيئة الكتاب يخططون لإصدارها وتصادف صدورها مع الأزمة الأخيرة؟... أم أن الأمر كان صدفة؟.
عموما، حتى لو كان صدفة... فهي صدفة جميلة. في زمن خلا من الصدف الجميلة. لقد صدرت الدراسة - التي تقع في 450 صفحة وثمنها لا يزيد على اثني عشر جنيها مصريا لا غير... أي ما يمكن أن يساوي دولارين فقط - ضمن سلسلة «أدباء القرن العشرين». وهي السلسلة التي كان قد بدأها الدكتور ناصر الأنصاري - رحمه الله رحمة واسعة - وأبقى عليها سلفه الدكتور محمد صابر عرب.

في مقدمة الكتاب قال عميد الأدب العربي عن الليالي:
«ألف ليلة وليلة. هذا الكتاب الذي خلب عقول الأجيال في الشرق والغرب قرونا طوالا، والذي نظر الشرق إليه على أنه متعة ولهو وتسلية، ونظر الغرب إليه على أنه كذلك متعة ولهو وتسلية، ولكن على أنه بعد ذلك خليق أن يكون موضوعا صالحا للبحث المنتج والدرس الخصب».

ثم قال:
«ألف ليلة وليلة كتاب من كتب الأدب يُقرأ في يسر ويجد فيه القارئ متاعا للعقل والذوق جميعا، ينتقل بين أبوابه المختلفة كما ينتقل في نزهة بين قطع الرياض، ويجد هذه اللذة الغريبة التي تأتيه من ألف ليلة وليلة، هذا الكتاب الذي يحسه قريبا منه بعيدا عنه، ومن هذا التحليل الذي يعتمد على العقل ويساير أدق مناهج البحث؛ فإذا القارئ يرضي بهذه القراءة حاجته إلى الأدب الخالص، وحاجته إلى العلم أيضا».

لن أعرض لرسالة الدكتوراه المبكرة... التي ربما لم تسبقها أي دراسة أخرى لألف ليلة وليلة، وربما كانت هي الأساس الذي خرج منها معظم الدراسات التالية التي تناولت الليالي، لكني توقفت أمام تاريخ طباعة الليالي كما ورد في ثنايا رسالة الدكتورة سهير القلماوي... وهو تاريخ عجيب يوشك أن يكون قصة موازية لقصص الليالي نفسها.

ومن المعروف أن لليالي طبعات مختلفة... تصدر تقريبا في وقت واحد... أولاها طبعة كلكتا الأولى، وهي طبعة ناقصة لا تزيد على نحو المئتي ليلة، وقد طبعها الشيخ الشيرواني تحت رعاية كلية فورت وليام سنة 1818.

أما الطبعة الثانية فهي طبعة برسلو التي قام بها هابشت سنة 1824 على أساس نسخة من تونس، وهي كاملة، ومع هذا أكملها بعده فلشر.

وثالثتهما طبعة «كلتكتا الثانية» على أساس نسخة أحضرها إلى الهند من مصر الميجر ماكان، وقام بها ماك ناتن سنة 1822، وهي أيضا كاملة.

وهناك طبعات مصرية كثيرة... أشهرها طبعة بولاق سنة 1825 معتمدة على نسخة كلكتا الثانية. وأخيرا توجد طبعة الأب الصالحاني من الآباء اليسوعيين في بيروت صدرت من سنة 1888 إلى 1890 التي اعتمدت على نسخة بولاق والتي حذف منها الكثير لأسباب أخلاقية.
إلى جانب هذه الطبعات المتعددة، عرفت مخطوطات للكتاب مشهورة، أقدمها مخطوط جالان المحفوظ في المكتبة الأهلية في باريس، الذي يختلف في تاريخ نسخه، ولكن الثابت أن جزءا منه على الأقل قرئ سنة 955هـ. كما هو مقيد به. وهو أربعة أجزاء ضاع رابعها كانت تشتمل 281 ليلة ليس غير. وهناك مخطوط الفاتيكان ومخطوط المتحف البريطاني ومخطوطات في أكثر مكاتب أوروبا المشهورة.

ولكن هذه المخطوطات كلها غير كاملة تقطع وسط القصة أحيانا، ما يدل على أنه لم يكمل نسخها وتحتفظ مكتبات أوروبا بمخطوطات أخرى كاملة أكثرها مصري حديث. ولعل أهمها هو المخطوط الذي أحضره السير مونتيج من الهند، الذي باعه للسير سكوت فباعه هذا بدوره إلى مكتبة بودليان باكسفورد.

وقد رأيت المخطوط - تؤكد سهير القلماوي - وهو في ثمانية أجزاء ضاع ثالثها ومعه كراسة صغيرة بخط يد مدون فيها ملاحظات وفهرست للأجزاء السبعة، وقد نسخه عمر الصفتي وانتهى من نسخه له سنة 1178 هجرية.

وأخبرني - تقول سهير القلماوي - الأستاذ ماكدونالد في خطاب منه أنه بدأ بإعداد طبعة على أساس مخطوط جالان باعتباره أقدم مخطوط وأوثقه، ومخطوط الفاتيكان وبعض مخطوطات أخرى. وهو لايزال يبحث عن النسخ النادرة وكان قد أتم إعداد نصف الطبعة تقريبا عندما أحس وطأة السن فسلم العمل إلى تلميذه وليام طومسون من جامعة هارفارد... ولست أدري - هل لاحظت هذا التعبير العلمي الدقيق؟

إن الدكتورة سهير تقول: لست أدري... والعامة يقولون: من قال لا أدري فقد أفتى. وقمة التواضع أن تقول: لست أدري. وتكمل - ماذا تم في أمر هذه الطبعة التي لم تخرج في أغلب الظن بعد.

بقي أن تعرف أن طه حسين قال في مقدمته إن سهير القلماوي من أجل أن تنجز هذه الرسالة سافرت إلى أوروبا بالتحديد فرنسا وإنكلترا لمقابلة الباحثين والدارسين من الأساتذة المستشرقين واختلفت إلى دروسهم واسترشدت بهم في بحثها وزارت المكتبات وجمعت لنفسها من هذا كله قدرا صالحا من العلم.

ما لم يكتبه طه حسين في مقدمته... قالته سهير القلماوي في ثنايا رسالتها، لأنها تصف بهدوء ومن دون استعراض وبأكبر قدر من البساطة رحلتها المضنية ليست إلى باريس ولندن وحدهما. ولكن إلى برلين وروما ومدن أخرى كثيرة تبحث عن مخطوطات الليالي. وتقارن هذه بتلك. وتصورها. وعندما نعرف أن كل هذا الجهد تم في النصف الأول من القرن العشرين. عندما لم يكن التصوير سهلا مثل أيامنا. سنعرف أي جهد بذلته تلميذة طه حسين من أجل هذه الرسالة. لا مقارنة على الإطلاق بين استسهال رسائل هذه الأيام. والنظر إلى الجهد الرهيب المبذول في رسائل الزمن البعيد. الذي كان كل أمر فيه يؤخذ بقدر كبير من الجد.



* alraimedia
 
أعلى