خيري عبد الجواد - الديكاميرون... ألف ليلة وليلة الإيطالية

أحسب أن القراء في العالم العربي يعترفون بفضل المترجم القدير صالح علماني علي ترجماته لروائع الأدب العالمي، وعلي الأخص، أدب أمريكا اللاتينية، مثل ترجماته لأعمال الكاتب الكولومبي الشهير جبرييل جارثيا ماركيز (نوبل 1985)، وأعمال الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، وأعمال مارجو فيرجاس أيوسا، وغيرها من الأعمال الجادة والراسخة في المشهد الروائي والقصصي العالمي، ولعل هذا المترجم القدير يعود بنا الي زمن المترجمين الأوائل الذين أثروا حياتنا الثقافية ونقلوا لنا بأمانة وفن حصاد الفكر العالمي، من بين هؤلاء : د. عبد العزيز الأهواني، أول من ترجم رائعة ثربانتس دون كيخوتة ، ود. عثمان أمين مترجم الكوميديا الالهية لدانتي، وأحمد عمر شاهين الذي ترجم عن الانجليزية روائع الأدب العالمي، كذلك د. ثروت عكاشة، ود. مصطفي ماهر الذي قدم الأدب الألماني هو والدكتور باهر الجوهري الي قراء العربية في ترجمة راقية، وترجمات دريني خشبة للالياذة والأوذيسة، كذلك ترجمات كامل يوسف حسين للأدب الياباني، وترجمات الدكتور طه حسين للمسرح اليوناني والفرنسي، والحديث عن المترجمين وما قدموه من روائع الأدب العالمي للغة العربية قد يحتاج الي وقفة خاصة ترد الاعتبار لهؤلاء الذين أبدعوا في مجال الترجمة، والذين خيبوا مقولة أن الترجمة ان هي الا خيانة للنص المترجم .

أعود الي ذلك الأثر الخالد والمسمي الديكاميرون والذي أبدعه الكاتب الايطالي جيوفاني بوكاشيو في القرن الرابع عشر، والذي يعده البعض الارهاصات الأولي للرواية كما يعرفها العالم الآن، قرأت نسخة مختصرة من هذا الكتاب في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، كانت هذه النسخة ضمن سلسلة مطبوعات كتابي والتي كان يشرف عليها حلمي مراد ، الترجمة الأولي صدرت في منتصف الخمسينيات وقام بترجمتها اسماعيل كامل، وفي مقدمته لهذه الطبعة حرص حلمي مراد على أن يعد القراء بتقديم قصص الديكاميرون كاملة علي أجزاء متفرقة من مطبوعات كتابي، وسوف يحتوي كل جزء علي عشرين قصة حتي تكتمل المائة قصة التي يضمها كتاب الديكاميرون، علي أن السلسلة لم تقدم سوي أول عشرين قصة فقط من القصص المائة، وبقي هذا الأثر الأدبي الخالد ناقصا الي أن تصدي له هذا المترجم القدير صالح علماني فقام بترجمته كاملا للمرة الأولي في اللغة العربية عن اللغة الاسبانية، وترجمة صالح علماني للديكاميرون لم تتوقف عند النقل الأمين للنص، بل إنها تعدت ذلك لتنقل روح النص أيضا، فكأننا نعيش في أجواء القرن الرابع عشر الذي كتبت فيه هذه الحكايات الرائعة والمدهشة، وتلك هي الميزة الأساسية لهذا المترجم الذي يتمتع بحساسية فنية خاصة .
تحول كتاب الديكاميرون مع مرور الوقت الي أن أصبح الف ليلة وليلة الايطالية، ليس في ايطاليا وحدها، بل وفي العالم الذي سرعان ما ترجم اليه الكتاب وقريء في كل اللغات، ولم تكن مقارنته بألف ليلة وليلة من قبيل التشابه النمطي بأعتبارهما من كتب الحكايات، بل إنها تعدت ذلك لتصبح مقارنة بين الأصل وهو الليالي العربية والشبيه أو المنتحل وهو الديكاميرون، وهو ما تعززه الدراسات المقارنة التي أثبتت أن ثمة وشائج من القربي بين هذا وذاك، وأن بوكاشيو لابد وأن يكون قد قرأ الليالي العربية قبل أن يبدع الديكاميرون .

وحياة جيوفاني بوكاشيو نفسها تحولت الي ما يشبه الاسطورة، فقد قيل أنه ولد في مدينة فلورنسا في العام 1313، ثمرة غراميات خارج الزواج بين أبيه بوكاشيو دي شيللينو وسيدة مجهولة، لكن رواية أخري تقول أنه ولد في شرتالدو، وهي قرية تبعد نحو أربعين كيلو مترا عن فلورنسا، بينما تقول رواية ثالثة أن مدينة باريس هي التي شهدت ميلاده، وتستند هذه الرواية الي أن أبا الكاتب كان وكيلا لمؤسسة مالية يملكها آل باردي، وأنه زار باريس في عامي 1312/1313 .

وتقول الرواية الاسطورية أن الأب أقام علاقة غرامية مع سيدة فرنسية، هي احدي بنات ملك فرنسا اثمرت هذا الابن العبقري والذي سمي جيوفاني بوكاشيو. قضي جيوفاني بوكاشيو صباه بين توسكاني و ايطاليا متنقلا بين شيرتالدو، مسقط رأس أبيه، وفلورنسا، حيث التلال التي دار بينها كثير من وقائع الديكاميرون، وفي نابولي التقي بحبيبته فياميتا ماريا داكينو ، الأبنة غير الشرعية لملك نابولي، فقام بينهما غرام من ذلك النوع الذي ترسله الأقدار للقلة النادرة والمختارة من البشر كي تشكل مصائرهم وتلهمهم وتدفع بهم الي المجد، فكما يقولون فان المآسي العظيمة تنتج أعمالا عظيمة، فقد كان هذا الغرام مصدر الهام لجيوفاني خلال الاثنتي عشرة سنة التي سبقت موت فياميتا في سنة 1348، اذ راحت ضحية الموت الأسود أو الطاعون الذي اجتاح أوروبا في ذلك العام وفتك بثلاثة أخماس سكان فلورنسا، وسيينا، ونابولي، واستشري في كافة ربوع أوروبا .

لم يقتصر موت الحبيبة علي الفراغ العاطفي الذي عاني منه جيوفاني فيما بعد، بل تعدي ذلك ليشمل فراغا روحيا ونفسيا كان له أكبر الأثر علي انتاجه الأدبي، فلم يعد ينتج في ميدان القصة، وانما كتب بعض الدراسات مثل كتابه عن حياة دانتي وعن أشعار هوميروس، وفيما عدا صداقته لبترارك، الشاعر الاسباني العظيم، كانت حياة جيوفاني بعد وفاة حبيبته سلسلة متصلة من المآسي، فقد عاني من الوحدة، والفقر، والخوف من الموت الذي اختطفه في 21 ديسمبر سنة 1375 .

كان بوكاشيو يعرف قدر موهبته، لذا فهو يقول عن نفسه: ..أما فيما يخصني فأقول ان الطبيعة قد مالت بي، مذ كنت في بطن أمي، الي التأملات الشعرية، وهو ما يدفعني الي التقدير بأنني ولدت من أجل الأدب وحسب . لكن حبيبته وملهمته ألهمته أيضا بعد موتها مثلما ألهمته في حياتها، فكتب رائعته الديكاميرون، ومعناها باليونانية الأيام العشرة مستوحيا الشخصية الأولي في عمله العبقري من شخصيتها، حتي أنها حاضرة باسمها الحقيقي، وفي الكتاب عشر شخصيات رئيسية، ثلاثة شبان، وسبع فتيات هم رواة الأيام العشرة، جمعهم الرعب الذي أثاره الطاعون الذي فتك بنصف سكان المدينة، فقرروا أن يفروا منه، وأن يلوذوا بالعزلة في حدائق قصر يقع علي سفح تل فييسول في محاولة لنسيان حاضرهم الرهيب المتمثل في الهول الأسود الطاعون وأن يتناوبوا رواية القصص، وهكذا أخذ كل منهم يروي قصة في كل يوم، فكانت الحصيلة عشر قصص يوميا، خلال الأيام العشرة، حدث ذلك في يوم الثلاثاء من أحد الأسابيع، حيث اجتمعت سبع فتيات هن : فياميتا، وبامبينيا، ولوريتا، وفيلومينا، ونييفيلة، واليسا، وايمليا، جمعتهن المصادفة بعد انتهاء القداس في كنيسة القديسة ماريا نوفيلا ، فاقترحت أكبرهن سنا وهي بامبينيا أن يهجرن المدينة التي روعها الطاعون، وان يلجأن الي الريف، وفيما هن يتبادلن الرأي، أقبل من الكنيسة ثلاثة شبان هم : بامفيلو، وديونيو، وفيلوستراتو، وكان بينهم قريب لأحدي الفتيات، واقترحوا الانضمام اليهن، وهكذا رحل العشرة في فجر اليوم التالي، حتي اذا ما استقروا في القصر الريفي، اقترحت بامبينيا ان ينتخب العشرة من بينهم رئيسا، أو زعيما، يتولي الأمر بينهم طيلة اليوم، علي أن يتناوب العشرة الزعامة، واحد لكل يوم، فلما اقترب المساء، جلس الجميع في البستان، وأمرت ملكة اليوم الأول المنتخبة أن يجلسوا في حلقة، واقترحت عليهم أن يروي كل منهم قصة فأخذ العشرة بالتناوب يروون القصص حتي اجتمعت في عشرة أيام مائة حكاية هي ما تكون الديكاميرون.
 
أعلى