نظيرة الكنز - التناصية وألف ليلة وليلة

عرفت الدراسات الأدبية مباحث متميزة جديرة بالاطلاع، تسعى معظمها إلى أن تفتق مجمل الأنظمة العالمية التي يبني عليها النص الإبداعي، وتحاول في الوقت نفسه أن تعيد صياغة دواله من خلال الاهتمام بمستويات الدلالة وطريقة تولّد المعاني وانبثاقها، وقد نتجت عن هذه الحركية المعرفية المنهجية توجهات عدّة في مقاربة النصوص الأدبية.

أولت الاتجاهات والمقاربات النقدية الحديثة اهتماماً خاصاً بعدد من المفهومات والمصطلحات، ويحتل مصطلح التناص (L inter textualité) موقعاً متميزاً داخل هذا الإطار، إذ أثار جدلاً خصباً بين النقاد والمنظرين فهو يتحرك طليقاً ضمن اختصاصات كثيرة "الأسلوبية والسيمائية والتفكيكية". ويجمع أغلب الدارسين على أن هذا المصطلح استعمل في بدايات توظيفية مع "جوليا كريستيفا" J.Kréstiva و"ميخائيل باختين" M.Bakhtin ويتعلّق في معناه العام بالصلات التي تربط نصاً بآخر مجمل التفاعلات التي تحدث بين النصوص.

وتتجلى نصية النص من خلال فاعلية التناص، إذ تبرز من خلالها قدرة الكاتب على التفاعل مع نصوص أخرى ومعانقتها، وعلى إنتاج نص جديد وينبغي أن نشير في هذا السياق إلى أن المبدع قبل أن يكون كاتباً فهو قارئ "وقدرة الكاتب على التفاعل مع نصوص غيره من الكتّاب لا تتأتى إلا بـ"امتلاء" خلفيته النصية بما تراكم قبله من تجارب نصية، وقدرته على تحويل تلك الخلفية إلى تجربة جديدة قابلة لأن تسهم في التراكم النصي القابل للتحويل والاستمرار بشكل دائم"(1).

فهل يوجد نص حر، بل كل النصوص تتناسل وتتفرع بصورة لا متناهية إذ يلقي السابق بظلاله على اللاحق.

يستند النص القصصي كغيره من النصوص إلى قواعد نصية خلفية سابقة، ويحاول أن يستعير كل النماذج كي يستوعب المضامين الحضارية الحديثة إذ تسعى الكتابة القصصية الجديدة إلى إعادة بناء الوجود الإنساني وفقاً لرؤى وفلسفة خاصة تخترق الفضاء وتختزل الزمن من خلال خلق قيم جمالية تتفاعل مع الموروث الحضاري ضمن علاقات تناصية تختصر اللغة والفكر والوجود وتظل آثار السابق ورواسبه في ثنايا النص مشعّة في خفوت.

لا يعني التناص مع التراث الإبداعي استحضاراً آلياً لهذه النصوص الأدبية وحقنها في النص الحاضر بل تكمن الغاية الجوهرية في القبض على الجوهر ومحاورته وترهينه وتقديمه في لبوس جديد ينم عن علاقات التواصل بين الماضي "التراث الإبداعي" والتي يمكن أن نرسم من خلالها رؤية مستقبلية.

ـ ما هي وظيفة المراجع النصية التراثية في هذه النصوص القصصية؟
ـ فيما تكمن جماليات توظيف هذه العتبات النصية الأدبية؟
ـ ما هي صلة الواقع الحضاري بالماضي الإبداعي؟

نحاول أن تجيب عن هذه الأسئلة من خلال الكشف عن العلاقات التناصية بين "ألف ليلة وليلة" والنص القصصي "حكايا شهريار" وسنركز على نقطتين جوهريتين.

أ ـ نكشف في الأولى عن مختلف العلاقات التناصية التي يقيمها نص حكايا شهريار مع ألف ليلة وليلة "الثوابت والتغيرات".
ب ـ نسعى في الثانية إلى رفع اللثام عن جماليات الحكي وإمكاناته الدلالية على مستوى بناء القيم اجتماعياً وإيديولوجياً.

1 ـ ألف ليلة وليلة وحكايا شهريار.

أ ـ ألف ليلة وليلة:

يعدّ كتاب (ألف ليلة وليلة) من أبرز الكتب القصصية الشعبية التي لقيت رواجاً عالمياً وأثّرت تأثيرات متنوعة في الآداب العالمية "مسرحاً وشعراً وقصة ورواية"، وقد ألهم هذا السفر الأدباء والفنانين بمادته الحكائية الغزيرة التي حوت غرائب الأخبار وعجائب الأمصار ولقد لخّص "أندريه جيد" Andre Jide الموقف قائلاً: "إن أمهات الكتب العالمية ثلاثة: الكتاب المقدس وأشعار هوميروس وكتاب ألف ليلة وليلة".

تحوّل هذا النص التراثي على امتداد العصور إلى نص ثقافي شامل وعالمي تولّدت عنه نصوص عديدة في الثقافة العربية والأجنبية، وتحوّلت شهرزاد مبدعة الليالي إلى أسطورة أدبية ألهبت مخيلة الأدباء إذ غامرت بنفسها وواجهت قهر السلطان بسلاح الكلمة. وقدّمت نفسها فداءً لبنات جنسها متحدية الموت ومؤجلة قرار إعدامها عن طريق الحكاية "إن شهرزاد لم تكن طوال الألف ليلة وليلة امرأة واحدة بل كانت ألف امرأة وامرأة في كل قصة كانت تنزع من شخصية شهريار بعضاً من تحدّيه لبني جنسها وتضع مكانه بعض من تحديها لبني جنسه(2).

تعلو حكاية "شهرزاد" والملك "شهريار" في الليالي وتكون الحكاية الإطار cadre nonte التي تحوي كل الحكايات وتؤسس الليالي وتربطها ببعضها ويكون الفجر الحافز الفاصل بين كل حكاية وحكاية "أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح"، وتكون شهرزاد الرواية المؤطرة التي تحكي وتنسج من وحي خيالها محاولة ترميم وإعادة بناء العالم الذكري وتلخص هذه الليالي مجتمعة صراعاً خصباً بين رغبتين:

أ ـ رغبة في القتل/ الموت: مثلها شهريار بعد مشاهدة حادث الخيانة.

ب ـ برغبة في الحياة/ الاستمرار: مثلتها شهرزاد فكانت قرباناً ونذرت نفسها للدفاع عن الوجود بالحكاية.

لقد تحوّل شهريار بعد حكاياتها من قاتل إلى سامع متشوّق عارف ومن موجود بالقوة إلى موجود بالفعل، واستطاعت هذه الشخصية أن تعيد بناء المدينة الشهريارية وأن تسترجع للأنثى موقعاً آخر يتجاوز الخطيئة ويذكرنا في جانب آخر بالمرأة القربان في الطقوس القديمة، وقد غدت شهرزاد شخصية أسطورية أدبية عالمية ألهمت الأدباء والفنانين في كل مكان وزمان وأتاحت لهم فرصة الهروب إلى عوالم ممتعة خيالية من الكآبة والجمود.

وإذا عدنا إلى نص "ألف ليلة وليلة نجد أنفسنا في مواجهة قصتين، الأولى هي القصة الإطار أما الثانية فتتمثل في الحكايات التي ترويها شهرزاد وما بين القصتين ينسى الملك تجربة الخيانة/ القتل ويبدأ تجربة جديدة مع الوفاء/ الحياة إذ يصبح لشهرزاد أولاد ثلاثة تبقى أسماؤهم مجهولة "إنهم الأبناء الخارجون من جحيم ذلك الصراع الذي استمر ألف ليلة وليلة، فكل واحد منهم يحمل صفات الأبوين، وصفات التحدي المتكافئ بين جنسي البشر"(3).

تنتمي قصة "حكايا شهريار" إلى المجموعة القصصية "أحلام الفجر الكاذب" وهو عنوان انتقاه القاص الجزائري "مصطفى بوغازي" ليسم به مجموعته القصصية الصادرة عن دار الفارابي للنشر، الجزائر، بتاريخ 1994 وقد اخترنا منها قصة "حكايا شهريار" التي نشرت قبل هذا في صحيفة النهار في صائفة 1993.

يأخذ القاص مصطفى بوغازي القصة الإطار ويجعلها مداراً لحكيه إذ يركز على لحظة الانتهاء "ماذا بعد ألف ليلة وليلة؟" ويحاول أن يتوقف عند نقطتين جوهريتين:

أ ـ وجود الأبناء الثلاثة وأوسطهم يتحول إلى شهريار.

ب ـ المكافأة التي يعلنها شهريار لشهرزاد "تولي الحكيم ليلة بعد انقضاء الألف ليلة وتحقيق الأماني".

وانطلاقاً من هذين العنصرين يقيم النص القصصي تفاعلاته المختلفة مع نص ألف ليلة وليلة إذ يُبقي القاص على الشخصيات الأساسية ولكن تبدأ هذه الشخصيات تلقائياً في صنع قدرها ويمكن أن نبين أهم الاختلافات الموجودة بين النص الرحم "ألف ليلة وليلة" والنص الابن "حكايا شهريار":

1 ـ إذ كانت شهرزاد هي الراوية في ألف ليلة وليلة فإنها في هذه القصة تبدأ بالرواية ولكن سرعان ما تسلم هذه الراية إلى الابن "زاد المعاد" أو شهريار ليصبح الراوي فيجد القارئ نفسه أمام أول تباين يجسده العنوان "من شهرزاد /الرواية أو حكايا شهرزاد إلى شهريار/ الراوي أو حكايا شهريار.

2 ـ يعدّ عنصر الرحلة قاسماً مشتركاً بين النصين ولكن الرحلة في نص حكايا شهريار تأخذ بُعداً آخر إذ تبدأ بالمعرفة وتنتهي بتجربة الحكاية من أجل الحياة.

3 ـ إن عنصر الحكي في ألف ليلة وليلة يبدأ من لحظة تحدّي /مواجهة الموت: الحياة ولكننا في نص حكايا شهريار نجد أنفسنا إزاء حكيين الأول من أجل المعرفة والثاني من أجل الحياة.

4 ـ يُبقي القاص على شخصيتين هما "شهرزاد وشهريار" ومن خلالهما تنمو الحكاية لتجسد لنا حميماً بين الأجيال:

"1"

ويمكن أن نبين ذلك من خلال هذا الجدول التوضيحي:

الشخصية:
النص الرحم
"ألف ليلة وليلة":
النص الابن
"حكايا شهريار":

شهريار:
الملك، القاتل، المستمتع، العارف، التائب.
الطفل، المستمتع، الرحالة، العارف، الراوي، الملك.

شهرزاد:
المتحدية، الراوية، الذكية، الأم، المغيرة.
الملكة، القوية، القاتلة، المستمتعة، التائبة.

تبدو العلاقة بين النصين متداخلة، ولكن يبقى السؤال الجوهري كيف يتحول النص الرحم في ثنايا الابن أو بالأحرى ما هي المورثات النصية التي تجدها في حكايا شهريار؟ وما مدى خصوصية وتميز هذا النص القصصي؟ وهذا ما سنبينه من خلال هذا العنصر "بناء القصة".

2 ـ بناء القصة:

نتوقف في هذا الجزء عند مجمل العلاقات التناصية بين نص حكايا شهريار وألف ليلة وليلة، وسنركز على البناء العام للقصة من خلال "العنوان والاستهلال والأجزاء وتراتب الأحداث" لنصل في الأخير إلى إبراز خصوصية النص اللاحق وتميزه عن النص السابق.

أ ـ العنوان: يختلف عنوان القصة عن النص الرحم، ولكن مع ذلك تربطه به علاقات تداخل إذ يتضمن شخصية فاعلة في الليالي "شهريار" ويسند إليها وظيفة جوهرية "الحكي" ويزعزع هذا العنوان منذ لحظة تهجيه ذاكرة وأفق توقع المتلقي إذ طالما تعود دائماً بشهرزاد الرواية وإذا به أمام شهريار الراوي، إنه انتقال استفزازي من سلطة أنثى إلى سلطة ذكر.

ب ـ قبل البدء: هو استهلال متميز ومسافة موصلة إذ النص يختصر لنا انتقالاً من النص الرحم إلى النص الفرعي ويمكن أن نعتبر قبل البدء جملة فاتحة تجمع بين النصين إذ ينطلق فيها القاص من سؤال جوهري ولكن ماذا بعد ألف ليلة وليلة؟ إن بعد هذه اللحظة نقطة تحول في الجنس البشري على المستوى الحضاري والاجتماعي والسياسي، إذ تحول الجنس القوي/ الذكر إلى جنس وديع يبحث عن خلاصه وتحولت الأنثى في المقابل إلى ماردة قاتلة "هذا شهريار الرجل الوديع يبحث عن خلاصه بالحكايا فهل تصنع لـه هذه الأخيرة قصوراً من الأحلام الجميلة؟"(4).

ج ـ أول الحكي: وداعاً أيها الحزن/ القصة الإطار:

يبدأ القص من مشاهدة تأطيرية تستند إلى النص الأصلي فأول الحكي هو حكي شهرزاد للملك شهريار، ويبدو من خلال هذا العنوان الفرعي أن هناك حكياً آخر غير هذا الحكي أما الجزء الثاني وداعاً أيها الحزن فإنها إشارة إلى انتهاء عهد السفك وبداية عهد الفرح والتواصل من خلال الإنجاب، لقد تحولت شهرزاد إلى أسطورة وامرأة فذة تسمى بها الفتيان تبركاً بها فهذا شهريار يعلن صراحة لشهرزاد"... أما وقد بلغ عدد الفتيات المسميات باسمك "ألفا" فلتكوني على رأسهم جميعاً مثلما كانت الليلة الواحدة بعد الألف على رأس ألف ليلة ولنجعل لك ليلة نسميها ليلة الملكة "شهرزاد" نقيمها كلما انقضى من الزمان ألف من الليالي ونجعلها للفرح..."(5).

يتضح من خلال هذا الإعلان استمرار الفعل الحياتي وانقضاء عهد القتل، كما أن هذه الراوية تصبح ملكة بعد انقضاء كل ألف ليلة تحقق في هذه الليلة أماني أبنائها ومن هذه النقطة بالذات يبدأ النص في الاختلاف وتحقيق إنتاجيته.

د ـ "ذرية شهريار ـ عجوز توهب للمنفي ـ حضور المرأة العجوز":

يركز القاص في هذين الجزأين على قيمة أساسية هي استمرار فعل الحكي، إذ يصبح حكياً

ثنائياً، الأول موجّه للأب "شهريار" والحكي الثاني موجّه إلى الابن الأوسط "زاد المعاد" بما تحمله لفظة الوسطية من معاني، فهذه شهرزاد تتحدث إلى وصيفتها ـ "يا زمردة إن هذا الولد أوسط إخوانه إنه أحب إلي منهم وسأتولى رعايته بنفسي، فهو قد اعتاد ألا ينام إلا على حكاية أسردها عليه ثم يغرق في نوم عميق وعلى فمه ترتسم ابتسامة مالها مثيل... فاعلمي أنه سيكون لهذا الولد شأن عظيم"(6)، فقد كان هذا الابن مستمتعاً من الطراز الأول يتلذذ كل ليلة بطرائف الأخبار، ونشير في هذا المقام إلى أن القاص يركز على قصة العجوز الشريرة مع الطفل ليربط بين هذا الجزء والجزء الموالي "عجوز توهب للمنفى" إذ يفتح القاص للقارئ تجربة جديدة لشهرزاد مع عجوز رمتها بكل أنواع التهم، "إنها سيطرت على شهريار وملكت قلبه بأفاعيل السحر وأنها مشعوذة"، لقد حضرت هذه العجوز عندما اعتلت شهرزاد الحكم كي تحصل على العفو: "... وكان آخر الوافدين على شهرزاد عجوز شمطاء، وخلفها ابنة في السادسة من عمرها شعرها منسدل على كتفيها وأثوابها رثة ومنظرها يثير الشفقة والعطف..."(7)، فيكون قرار الملكة العفو عنها واختفاؤها عن المملكة.

هـ ـ رحلة البحث عن الكنز/ على أعقاب المجهول: "توظيف عنصر الرحلة".

ما يميز نص حكايا شهريار استراتيجية التسمية إذ يسمي أبناء شهرزاد الثلاثة: ضوء المكان، زاد المعاد، بدر الزمان، بينما يتجاهل النص الرحم ذلك، أضف إلى ذلك أن شهرزاد تنفرد بالحكم والقرارات في ليلتها الواحدة بعد الألف وهاهي مجبرة على الانصياع لأماني أبنائها الثلاثة:

ـ ينفرد ضوء المكان وبدر الزمان بالحكم.
ـ يختار أحب الأبناء لشهرزاد "زاد المعاد" الرحلة.

ويعد عنصر الرحلة قاسماً مشتركاً بين النصين وتقترب صورة الابن من صورة السندباد برحلاته المختلفة في قصص ألف ليلة وليلة، لقد سببت الرحلة الألم لشهرزاد وشهريار فحزنا كثيراً لغياب أحب الأبناء، ولقي الزوجان مصيراً مأساوياً بعد طول غياب الابن، وبعد وفاة الملك والملكة انفرد الابن الأكبر والأصغر بالحكم وعاشت المملكة جواً من اللهو والمجون والفساد، وبعد عودة زاد المعاد تنكر الأخوان ولم يجد ما يرث من أبويه سوى اسم شهريار: "لم يبق لي غير اسم والدي سأرثه، وليكن بعد الآن اسمي "شهريار" وقد بقي ذكر والدتي يتردد في رأسي عن طريق حكاياتها التي كانت ترويها لي وقد اكتسبت من رحلاتي العديد من التجارب التي ستفيدني..."(8)، ويبدأ رحلة جديدة في أعقاب مجهول يحط به عند جزيرة غريبة ويبدو أن عنصر الرحلة لـه الوظيفة نفسها التي نجدها في ألف ليلة وليلة. (المعرفة/ المغامرة: اكتشاف المجهول/ التحدي).

و ـ هول الرحلة/ عذاب الحكايات: "ثنائية الرحلة/ الحكاية"

ينتهي شهريار بعد رحلته إلى جزيرة تحكمها امرأة ماردة تقتل كل رجل ليلة زفافه بها، إن هذه المرأة هي تلك الطفلة التي اختفت مع العجوز الشمطاء، وقد امتلأت غيظاً وحقداً ضد هذا الجنس، وهاهو شهريار يقبل التحدي ويقرر أن يتزوج هذه المرأة حفاظاً على بني جنسه "أنا قبلت التحدي وسأتزوجها، وبعدها إما أن أموت وأنقذ الرجال جميعاً من براثن هاته الأفعى الشرسة"(9).

يحول القاص استراتيجية القص من المرأة الرواية إلى الرجل، يحول المرأة إلى أفعى شرسة في تبادل للأدوار يمكن أن نوضحه في الشكل التالي:

"2"

إنها تجربة حكي مميزة تجعل لهذا النص خصوصياته وتطرح من جديد علاقة جوهرية (ذكر/ أنثى) وهاهو شهريار يعود بعد كل حكاية سالماً، وكأنه يتواصل من خلال أمه ويحمل في ذاته مورثات التحدي المتكافئ ويركز في كل القصص التي يرويها لهذه الماردة على عنصر جوهري "علاقة الذكر بالأنثى/ الرجل بالمرأة" محاولاً أن يؤسس تكاملاً بين عنصرين مختلفين.

ينبغي أن نشير في السياق إلى اختلاف في زمن الحكاية، حيث كانت شهرزاد/ الأم تحكي ليلاً فيكون الفجر حاجزاً أما في حكايا شهريار فإنه يبدأ الحكاية صباحاً ليكون الليل حاجزاً وكل حكي يمتلك مشروعيته زمنياً، ويؤسس لاختلاف بين النصين وسنركز على هذه النقطة لاحقاً.

ز ـ عودة شهريار: الجملة الخاتمة.

ينتهي شهريار بعد تجربة الحكي إلى ترويض هذه الملكة الشرسة وتعرض عليه الزواج ويعود إلى مملكته عودة المنتصر فتعلن الأفراح والليالي الملاح، وما بين أول الحكي وآخر الحكي مسافة للحركة والمغامرة والتغيير "إن العلاقة المفترضة هنا بين الحكي والموت تخفي علاقة سرية أخرى بين الحكي والحياة فالفرق ليس قائماً في الحكاية نفسها بل في سيرورة ولا نهاية الحكي كعملية تلفظ لا تفتأ تتجدد"(10)، فالحكاية فعل حاضر دائماً ومختزن للخبرة الإنسانية وهي تكرار للجانب الثبت ومحاولة إعادة إنتاجه "آخر الحكي... قال شهريار: قد بحثت عنك من سنتين وقالت شهرزاد: والآن ما أنت تجد أيها الرجل الحزين خبئ همّك ووهمك... ثم فجّر فرحك الدفين"(11).

يتبيّن من خلال ما سبق أن القصة موصولة بنص ألف ليلة وليلة علاقات تناصية تكشف عن غنى هذا النص في الوقت نفسه امتلاء خلفية القاص النية وقدرته على التحويل والتحوير وهذا ما حقق إنتاجية النص وجماليته.

3 ـ جماليات الحكي المزدوج:

يعد الحكي قاسماً مشتركاً بين النصين وقد تحققت جمالياته ووظيفته الجوهرية المتمثلة في دفع الموت وإدامة الحياة ومن ثم تبرز فعاليات الحكاية واستمراريتها، وإن اختلفت مدارات الحكي في النصين إلا أنه لا فرق بين مبدأ الحكي في الليالي وفي هذه القصة، وهنا تبرز خاصية أساسية تتمثل في المشابهة والاختلاف في الآن نفسه.

يتشابه الحكي في النصين من حيث وظيفته ودلالاته وعناصره فيقدم لنا صورة التحدي المتكافئ بين الرجل/ المرأة بعد أن كان أحد الطرفين مهدداً بالفناء على يد الطرف الآخر سواء في الليالي أو في حكايا شهريار "وتستمر الحكايات صراعاً بين تحديين طرفاه الرجل والمرأة ومادته الجنس أو الكسب أو المنح أو الاستقلال"(12)، وكلاهما يقدّم للطرف الآخر معادلاً موضوعياً لجميع فجائعه وهزائمه ويحاول أن يرسم لـه طريق الخلاص من براثن الشر.

يكمن الاختلاف بين النصين في كون النص الأول تحكم نظمه ونسج خيوط حكاياته رواية واحدة هي "شهرزاد" أما إذا انتقلنا إلى النص الثاني حكايا شهريار فإننا نجد حكياً مزدوجاً فأول الحكي يرتبط بناظم واحد هو شهرزاد أما آخر الحكي فإن الناظم أو ناسج الحكايات يصبح شهريار ويمكن أن نوضح ذلك كما يلي:

"3"

يتجلى الاختلاف بين النصين إذ أن شهرزاد تختار الليل بما يحمله من أمارات السحر والأحلام كي تحكي لشهريار ويكون الفجر الحاجز الذي ينهي فعل الحكي، أما إذا انتقلنا إلى الزمن الذي اختاره شهريار فنجد أنه الصبح، فلنلمح هنا أن النهاية هي بداية في حكي شهريار ليكون الليل بعد ذلك بالنسبة إلى شهرزاد مجالاً تتذكر فيه وتعيد بناء الحكاية.

"4"

إن النساء يتشابهن في الظلام ولكنهن يختلفن عند انبثاق كل صباح، وإذا كان الليل كزمن بالنسبة إلى الرجل يحمل أمارات السحر والإغواء والضعف فإنه بالنسبة إلى المرأة فضاء للقوة والتفوق، ومن هنا تكمن استراتيجية شهريار في اختيار الصباح زمناً للحكاية بدل الليل، إن البعد الزمني يختلف الإحساس به بين الذكر والأنثى، فإذا كان قضاء الليل /السحر/ الحلم كان بالنسبة إليه فضاءً مميزاً مكّنه في الأخير من تجاوز كل تناقضاته فإن شهريار يختار الصبح /الإشراق/ الأمل كي تستعيد هذه المرأة صور الاستمرار والتجدد ويمكن أن نشير هنا كذلك إلى اختلاف مكان الحكي وما يطرحه من دلالات، فشهرزاد تختار مكاناً ثابتاً قاراً هو القصر، من أحد حجراته يمتد صوتها ناسجاً خيوط عهد جديد أما شهريار فإنه يحكي من مكان غير ثابت عائم "الجزيرة" ومن ثم فاختيار زمن الحكي يمتلك مشروعيته.

تتصاعد الثنائية الفناء بمواجهة الاستمرار والموت بمواجهة الحياة لتبين لنا صراعاً متكافئاً بين عنصرين على امتداد التاريخ البشري ولاشك أن الموقف الأول الصادر عن الأنثى والمتمثل في الإغراء والدفع وما نتج عن خروج من عالم علوي إلى آخر سفلي كان أرضية خصبة هيّأت لهذا العنصر لأن يجد كل مبررات وجوده، وشهرزاد/ الأنثى هنا تتراوح بين قيمتين متناقضتين فهي التي تؤجل الفناء لكنها كذلك هي التي تمارس فعل الفناء وشهريار الذي يهدد الوجود يتحوّل إلى شهريار مدافع عن الوجود بالحكاية، إنها سلسلة متوالية لولبية: "الموت ـ الحكاية ـ المعرفة ـ الفناء ـ الحكاية ـ الحياة"، ويمكن أن توضح جماليات الحكي ازدواجية بين النصين من خلال هذا الشكل:

تطرح العلاقة الازدواجية "ذكر/أنثى" جملة من الإشكالات لعل أبرزها: العقل /العاطفة والمرأة/ الحكم، ويبدو من خلال استراتيجية الحكي أن تحكيم العقل مكّن شهرزاد في أول الحكي من كبح جماح ذاك المارد الذي كان يسكن شهريار كما تمكّن شهريار الابن في آخر الحكي من ترويض الأفعى الشرسة "شهرزاد"،وقد حاول كلا الطرفين أن يستعير من الطرف الآخر بعضاً من الخصوصيات التي تميزه "حاول الذكر أن يحيي الجانب اللين فيه (الرجل الوديع) كما حاولت الأنثى أن تستعير الجانب القاسي (الأفعى الشرسة).

كما يحرّك النص القصصي جانباً آخر هو المرأة الحاكمة، إذ تنفرد شهرزاد بالحكم ليلة واحدة بعد انقضاء ألف ليلة وليلة وهذه الليلة الوحيدة تحدث فيها تغيرات كثيرة، فقد نتجت عنها "رحلة الابن وموت الملك والملكة وضياع الأبناء وفساد المملكة"، كما أن شهرزاد تحكم الجزيرة العربية ويكون مصير كل رجل قادم الموت.

الخاتمة:

حقق هذا النص إشعاعه الرمزي من خلال اتكائه على نص ثري، قد استطاع القاص "مصطفى بوغازي" أن يطوع نص ألف ليلة وليلة وينتج من خلاله مادة حكائية متميزة، وقد تمكّن النص بفضل تضافر الأشكال التي استعارها من خلق مناخات وسطى اجتدبت إليها تجربة الإنسان سابقها ولاحقها، وقد استطاع القاص بفضل امتلاء خلفيته النصية من إنتاج نص جديد هو "حكايا شهريار" وقد انبنى هذا النص على:

مشابهة للنص الأصلي من حيث مادة الحكي والعنصر العجائبي ووظيفة الحكي وشخوصه.

تحويل النص السابق إلى نص جديد وتطويعه من خلال تحول جذري في وظائف الشخصيات (شهرزاد/ شهريار) ومختلف الأدوار التي تؤدي (الرواية/ الاستماع) ومن هنا تكمن تناصية هذا النص وقدرته على تطويع النص الأصلي وإحداث المفارقة وإرباك المتلقي.

استخدم القاص في نصه كل أساليب التوازي والتقاطع بغية الإحاطة بجملة من القضايا والقيم التي ترتبط بالإنسان في كل زمان ومكان:

ـ أخلاقية وتتمثل في صراع الخير والشر.
ـ سياسية وتتمثل في إشكالية ("المرأة/الحكم" و"العقل/العاطفة").
ـ فكرية تجسدها العلاقة ذكر/أنثى.
ـ جمالية تتمثل في نقل الحكي من قطبية أنثوية إلى أخرى ذكرية.

اختيار شهرزاد/الأنثى كبؤرة للحكي هو إحياء للطرف الصامت في التاريخ الإنساني وإعادة الاعتبار لهذا العنصر وتحليل مجمل العوامل التي أدت إلى قهره وطمسه ولاشك أننا نعيش تطورات جديدة وحركات متعددة تحاول أن توجه هذا العنصر وفقاً لمتطلبات العصر كما أن اختيار الأنثى هو استراتيجية جمالية لما تمتلكه من مواصفات تمكن الأديب من أن يستخدمها كقناع يمرر من خلالها أفكاره ومن هنا كان الاهتمام بشهرزاد الأنثى/ الأسطورة بما تحويه هذه الشخصية من دلالات وإيحاءات.

ومجمل القول لا تزال القصة القصيرة من أكثر الأجناس الأدبية استجابة للتغيير من خلال تطويع أشكال التراث والممارسات والطقوس في تشكيلات جديدة تعبر عن تنوع تجاربها، وقد استجاب القاص "مصطفى بوغازي" لهذا التراث الحي "ألف ليلة وليلة" الذي وجد تربته الخصبة في كل مكان وفتح آفاقاً للإبداع القصصي والتخيّل ومن ثم الدراسة والبحث وهو نافذة نحاول من خلالها أن نقف على الكائن وما يحتمل أن يكون.

الهوامش:

ـ سعيد يقطين: الرواية والتراث السردي "من أجل وعي جديد بالتراث" المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1992، ص10-11.
2 ـ ياسين النصير: المساحة المختفية قراءات في الحكاية الشعبية المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1995، ص141.
3 ـ ياسين النصير: المساحة المختفية، ص148-149.
4 ـ مصطفى بوغازي: حكايا شهريار "المجموعة القصصية"أحلام الفجر الكاذب، دار الفارابي للنشر، الجزائر، 1994، ص78.
5 ـ حكايا شهريار: ص80-81.
6 ـ حكايا شهريار: ص82.
7 ـ حكايا شهريار: ص85.
8 ـ حكايا شهريار: ص89.
9 ـ حكايا شهريار: ص92.
10 ـ فريدة الزاهي، الحكاية والمتخيّل، أفريقيا الشرق، 1991، ص35-36.
11 ـ حكايا شهريار، ص102.
12 ـ ياسين النصير: المساحة المتخفية، ص123.



* د. نظيرة الكنز
التناصية وألف ليلة وليلة
 
أعلى