هبة الله الغلاييني - شهرزاد في الفكر الغربي.. الأنـا والآخر في مواجهة

يعّد كتاب ألف ليلة وليلة من أبرز الكتب القصصية الشعبية التي لقيت رواجاً عالمياً، وأثرتّ تأثيرات متنوعة في الآداب العالمية" مسرحاً وشعراً. وقصة ورواية". وقد ألهم هذا السفر الأدباء والفنانين بمادته الحكائية الغزيرة التي حوت غرائب الأخبار وعجائب الأمصار، ولقد لخّص "اند ريه جيد" الموقف قائلاً: "إن أمهات الكتب العالمية ثلاث: الكتاب المقدس وأشعار هو ميروس وكتاب ألف ليلة وليلة".

تحوّل هذا النص التراثي على امتداد العصور إلى نصّ ثقافي شامل وعالمي تولّدت عنه نصوص عديدة في الثقافة العربية والأجنبية. وقدّمت الليالي العربية الشرق من منظور ثري بالخيال والإبداع، فكانت العفاريت والسحرة والإباحية مفاتيح أساسية لمعرفة الشرق في الذهن الغربي.

احتضن العالم الغربي الليالي العربيّة في مرحلة تاريخية مميّزة، وكانت عملية التلقي خاضعة لمقتضيات الثقافة ولراهنية التصورات والاحتياجات الاجتماعية والسياسية. وقد تسللّت الأميرة الشرقية شهرزاد إلى البلاط الغربي واقتحمت قصور باريس وإنكلترا لترسم تحوّلاً جديداً.

لقد حملت شهرزاد ألف ليلة وليلة الكثير من أحلامها وحركاتها وشهوتها المكبوتة وغير المكبوتة التي تُشكّل في مجموعها تمرّداً على السلطة والنظام والقانون بغية التخلص منها، وركبت المخاطر لتتحرّر ولم يكن ذلك ممكناً لولا جذور الرفض التي في أعماقها.

شهرزاد وألف ليلة وليلة

تحوّلت شهرزاد مبدعة الليالي إلى أسطورة أدبية ألهمت مخيلة الأدباء، إذ غامرت بنفسها وواجهت قهر السلطان بسلاح الكلمة، وقدّمت نفسها فداءً لبنات جنسها متحدّية الموت ومؤجّلة قرار إعدامها عن طريق الحكاية وشهرزاد لم تكن طوال الألف ليلة وليلة امرأة واحدة بل كانت ألف امرأة وامرأة فهي في كل قصة كانت تقلع من شخصية شهريار بعضاً من تحدّيه لبنات جنسها وتضع مكانه بعض تحدّيها لبني جنسه.

تعلو حكاية "شهرزاد والملك" شهريار في الليالي وتكوّن الحكاية الإطار (Contecadre) الذي يحوي كل الحكايات. ويؤسّس الليالي وتربطها بعضها ببعض ويكون الفجر الحاجز الفاصل بين كل حكاية وحكاية"وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح ". وتكوّن شهرزاد الرواية المؤطرة التي تحكي وتنسج خيالها محاولة ترميم وإعادة بناء العالم الذكري، وتلخّص هذه الليالي مجتمعة صراعاً خصباً بين رغبتين:

أ – رغبة في القتل / الموت: مثّلها شهريار بعد مشاهدته حادث الخيانة.

ب – رغبة في الحياة / الاستمرار: مثلتها شهرزاد فكانت قرباناً ونذرت نفسها للدفاع عن الوجود بالحكاية.

لقد تحوّل شهريار بعد حكايتها من قاتل نهم إلى سامع متشوق عارف، ومن مستمع موجود بالقوة إلى موجود بالفعل، واستطاعت هذه الشخصية أن تعيد بناء المدينة الشهريارية وأن تسترجع للأنثى موقعاً آخر يتجاوز الخطيئة، ويذكّرنا من جانب آخر بالمرأة القربان في الطقوس القديمة. وغدت شهرزاد شخصية أسطورية عالمية، وأصبح كل ما يُنسج حولها من حوادث وحكايات ينبوعاً يفجّر الخيال في الآداب العالمية، فنقل العديد من الأدباء أفكارهم على طريقتها الحكائية وخيالها الخصب. وتساءل الكثير منهم عن مصيرها بعد انتهاء الليالي، حيث حاول كل أديب أن يعيد تشكيل هذه الشخصية الأسطورية بما يتلاءم ومتطلبات المجتمع وروح العصر، ناهيك عن القناعات الذاتية. وظهرت تبعاً لذلك أعمال أدبيّة في مختلف الأجناس الأدبيّة، كما ألهمت الأدباء والفنانين في كل مكان وزمان، وأتاحت لهم فرصة الهروب إلى عوالم ممتعة خالية من الكآبة والجمود.

إن الشروع في قراءة ألف ليلة وليلة يعني اقتحام عالم لا يعترف بالحدود أو بالاختلافات الثقافية، من المحيط الأطلسي حتى حدود الصين، حيث يتكلم الفرس العربية مثلاً ويحكمون شعوباً غريبة عنهم وتتكون لفظة شهرزاد من كلمتين فارسيتين "تشهر" و "زاد" وهما تعنيان "العريقة الأصل ". كان شهريار زوج شهرزاد فارسياً هو الآخر، اسمه يتكون من لفظتي "شهر" و " يار" اللتين تفيدان "صاحب المملكة ". إلا أن شهرزاد لا تتوجّه إلى زوجها باللغة الفارسية، وإنما بلغة أجنبية عنها هي العربيّة. كما أن شهريار يحكم شعباً غريباً عنه لأنه كان ملكاً على جزر الهند والصين.

وتنطلق حكايات"ألف ليلة وليلة"من حرب طاحنة بين الجنسين بالفعل، إنها مأساة مليئة بالكراهية والدم، تعرف نهايتها بفضل عبقرية شهرزاد الجريئة، وبراعتها في فن التواصل.

صدرت النسخة العربية الأولى في كالكوتا سنة 1814 م، من طرف ناشر هندي مسلم يدعى الشيخ الشيرواني، وهو أستاذ للعربية في كوليج دي فور وليام، أما النسخة الثانية فهي لبريسلو، وقد صدرت في ألمانيا سنة 1824 من طرف"ماكسميليان جايشت ". بعد ذلك بعشر سنوات، تسلّم العرب المشعل أخيراً بتسويقهم لنسخة مصرية طُبعت في بولاق بالقاهرة سنة 1834.

شهرزاد تزور الغرب

كانت أول رحلة لشهرزاد نحو الغرب برفقة فرنسي يدعى"أنطوان كالاند"الذي كان مغرماً باقتناء الآثار الفنية. لقد أتيحت له فرصة السفر إلى الشرق بصفته كاتباً خاصاً للسفارة الفرنسية، وكان أول من ترجم وطبع كتاب"ألف ليلة وليلة ". كان في الثامنة والخمسين من عمره حين أتاح لشهرزاد الفارسية سنة 1704 أن تتحدث بالفرنسية. صادفت الترجمة نجاحاً كبيراً وتابع"أنطوان كالاند"عمله الذي أولع به حتى الهوس، وقد تم نشر اثني عشر مجلداً من ترجماته، اثنان منها ظهرا بعد وفاته سنة 1715 م.

نجحت شهرزاد خلال فترة وجيزة جداً في تحقيق ما فشلت فيه الجيوش خلال الحروب الصليبية. لقد غزت العالم المسيحي معتمدة في ذلك على القوة الوحيدة التي تملكها، أي قوة الكلمات، فانقاد لجاذبيتها الزّهاد الكاثوليكيون والبروتسانتيون والإغريق الأرثوذكسيون تباعاً .."نُشرت نسخة كالاند في إنجلترا. وألمانيا وإيطاليا وهولندا والدانمارك وروسيا وبلجيكا ... ". لا شك أن الرقابة التي فرضها كالاند على المشاهد المثيرة ووصف الجاذبية والجمال وأنواع العلاقات الجنسية، قد ساهمت في شهرة العمل الذي"بات السلاطين والوزراء ونساء العرب والهند يتحدثون فيه كما لو كانوا في فرساي أو مارلي. (وهي قصور ملوك فرنسا آنذاك).

كان تأثير حكايات ألف ليلة وليلة على النفوس المسيحية قويّاً، إلى حدّ ظهرت معه ترجمات متلاحقة أو"بأسماء مستعارة ".

جُرّدت شهرزاد من ذكائها حين غادرت الشرق، وعبرت الحدود إلى الغرب، وما إن وطئت قدماها أرضه حتى جرّدتها الجمارك الأوربية من جواز سفرها، أي من كلّ ما يشكّل هويتها متمثلاً بالأساس في ذكائها. والواقع أن الغربيين لم يأبهوا إلاّ بمشاهد الغرام والمغامرة في ألف ليلة وليلة الذي انحصر هو الآخر في الزينة ولغة الجسد بشكل باعث على الاستغراب، حيث أصبح رقصاً لا يتجاوز حركات هزّ الأرداف، وكمثل عن ذلك نجد بأن لفظة"السمر"العربية التي تحيل على التبادل العميق والاعترافات المهموسة خلال الليل غائبة عن النصوص المترجمة تماماً.

لقد انصرف اهتمام الغربيين خلال أكثر من قرن إلى الشخصيات الذكورّية على الأخص، كسندباد وعلاء الدين وعلي بابا. وكان على شهرزاد أن تنتظر سنة 1845 أي حوالي قرن ونصف لكي ينعتها"إدجار آلان بو"بسيدة العجائب في قصته"الألف ليلة وليلتين لشهرزاد ". كان على الحاكية أن تقطع المحيط الأطلسي وتقصد أمريكا لتلتقي في نهاية المطاف برجل كإدجار آلان بو، يعترف لها بالذكاء الخارق إلى حد نعتها بـ"الأميرة السياسية ". حتى ذلك الحين أي بين سنوات 1704 و1845، ظلّت شهرزاد سجينة إلى حد اليأس في حدائق فرساي وهَوَس قصور فرنسا بأشكال الزينة المبالغ فيها حسب الموضة .لقد كان سفرها برفقة أنطوان كالاند الذي كان مقّرباً من الارستقراطية حاسماً في السمعة التي اكتسبتها

كانت مدام "بومبادور" من ضمن أشدّ المعجبات بالحكايات، ولكنها لسوء الحظ كانت تهتم بحلّي الحريم الثمينة أكثر من اهتمامها بالدفاع عن القضية النسائية. في سنة 1745، وبعد أن أسكنها لويس السادس عشر رسميّاً في فرساي، زينّت جدران غرفتها بثلاث"سلطانات"من إبداع رسامها المفضّل"كارل فان لو ".

كانت السلطانات مرتديات أفخر الثياب وذوات تسريحات رائعة، تغمرهن الحلي والأقمشة الفضفاضة الزاهية. لقد ربطت هذه الصور نساء الحريم إلى الأبد بالتهور والإسراف والسطحية. قبيل إعلان الثورة سنة 1778، ظهرت الملكة ماري أنطوانيت نفسها وهي مرتدية زي"السلطانات".. إنه مشهد سيحد إلى الأبد من طموح شهرزاد في أوربا إلى تحقيق مسار تكسَب فيه المصداقية بصفتها معارضة عنيدة للاستبداد. لقد جعل قفطان ماري أنطوانيت شهرزاد أسيرة البلاط الفرنسي، وحال دون اشتراكها مع جماهير الشارع في ثورتها ضد الملكية ومن أجل حقوق الإنسان (1789 ). مسكينة شهرزاد التي أصبحت محاصرة في فرساي !

المغامرة والبذخ، وأيضاً الحسّية في أكثر معانيها بدائية ... كانت الكلمات الجنسية الصريحة التي تتردّد في ألف ليلة وليلة، تثير انتباه الأوربيين المحاصرين بين شرك النفاق المبالغ فيه لدى رجال الدين، والعقلانية الباردة لدى الفلاسفة كديكارت.

كانت الحكايات تزيل الستار عن شرق مدهش وعن جنس تكتشفه بشجاعة فتاة مجبرة ليلة بعد أخرى على الترفيه عن زوج جريح وخطير إلى حدّ الإجرام. لقد اكتُشفت الحاكية قبل قرون من اختراع الهاتف الوردي، بأن الوسيلة الأكثر فعالية لإثارة رجل هي الكلمة الذكية. نجد هذا الدرس واضحاً على الأخص في حكاية"الحمّال والصبايا الثلاث ". التي حكتها في الليلة الثامنة والعشرين من زواجها. علينا أن لا نخطئ، ذلك أن الرسالة التي يتضمنها الحكي تظل سياسية، إذ إنها تبرز استحالة سيطرة الرجل على المرأة بواسطة الاستبداد، وتؤكد على أن الحوار هو الطريق الوحيد لكي يؤسس معها علاقة سوّية. وحين تختار شهرزاد الانزلاق نحو مشاهد الإثارة، فإنها لا تتجرّد من صفتها كمفكّرة وفيلسوفة تساعد الملك على تهذيب ذاته وكبح غرائز العنف فيه.

تصف الحكاية مغامرات رجل من الشعب، شاب طيب يحصل على عيشه من عرق جبينه، يجد نفسه منقاداً لامرأة غنية:"بلغني أيّها الملك السعيد أن إنساناً من مدينة بغداد وكان عازباً وصَنعتُهُ حماّلاً، فهو في بعض الأيام واقفاً في سوقه متّكياً على قفصه إذ وقفت عليه امرأة ... وقالت له بكلام ليّن وعذوبة منطق: يا حمّال خذ قفصك والحقني .. أخذ القفص وأسرع وقال يا نهار السعادة يا نهار التوفيق، وتبعها. فمشت قدّامه إلى أن وقفت على دار وأخذت منه مروقة زيتونية حطتّها في القفص وقالت يا حمّال خذ قفصك واتبعني. وقال الحمّال طيب، يا يوم السّعادة، يا نهار القبول، يا نهار الأفراح. فشال القفص وتبعها فوقفت على دكان الفاكهاني واشترت منه "تفاح وسفرجل عثماني وخوخ خلاني وتفاح مسكي" .. وجعلت الجميع في قفص الحمّال وتبعها. فوقفت على الجزّار وقالت له اقطع لي عشرة أرطال لحم ضاني .. وأعطاهم إيّاه فحطّوه في القفص مع قليل من الفحم، وقالت يا حمّال خذ قفصك واتبعني ... ".

يمكن القول بأنّ ابتهاج الشاب السابق لأوانه لا يهيئه بشكل جيد لمواجهة المفاجآت التي تنتظره .. لقد أمرته المرأة بأن يحمل مشترياتها إلى البيت الفخم الذي تقيم فيه مع أختين لها توازيانها في الجمال، فامتثل لأمرها. حين أنهى الحمّال مهمته كانت السيدة بالغة الكرم معه، ولكنه استثار دهشتها حين رفض الانصراف.

قالت لها أختها بصبر نافذ"" زيديه ديناراً "، حينها أدلى الحمّال بما يدور في خلده: أن النساء الشابات والجميلات في حاجة إلى رجل .."والله يا سيدتاه ما استقليته، وأجرتي ما تساوي درهمين، وإنما شغل سّري بحالكم وكيف أنتم وحدكم وما عندكم بشراً يشرحكم، وقد علمتم أن المائدة ما تقعد إلا على أربعة وأنتم فما لكم من رابع، ولا يطيب جمع الرجال إلا بالنسّا ولا يطيب جمع النسّا إلا بالرجال ."

ما الذي يمكن أن يحّول رجلاً فقيراً من عامّة الشعب إلى عشيق جذابّ وربما زوج إذا ما نجح في مهمته ؟ ذلك هو المشكل الصعب الذي كان على الحمّال إيجاد حلّ سريع له. ومن ثمّ أوضح للأخوات بأن ذكاءه ورقتّه سيجعلان منه عشيقاً استثنائياً:"... وقال وحياتكم إني امرؤ لبيب عاقل أديب، قرأت العلوم وخرقت الفهوم، قريت ودريت وأسندت وأرديت، أُظهر الجميل وأكتمُ القبيح ولا يبدو مني إلاّ كل مليح ".

يمكن لهذا البعد السياسي الذي تكتسبه حكايات ألف ليلة وليلة بصفتها إعلاناً حقيقياً عن تحكم النساء في مصيرهن، أن يشرح السبب الذي أدّى بالمتطرفين في مصر إلى إحراق النسخ العربية الأصلية من الكتاب عدة مرات خلال الثمانينات، وهي النسخ الشعبية المتوفرة في أزقّة المدن العربية حيث يمكن اقتناؤها بثمن لا يتعّدى ستين درهماً للجزأين. إننا لا ندري إذا ما كانت النسخة التي مارس عليها المتطرّفون الرقابة وسوقوها قد نالت إقبالاً، ولكن الأكيد في الأمر أن لا أحد في العالم العربي يعتبر وصف شهرزاد للجسد بمثابة أدب فاحش.

بتعبير آخر، فإن الغرب الذي كان مهووساً خلال القرن الثامن عشر بالرغبة في الحرية، ومضطرباً بفعل النضال من أجل حقوق الإنسان، قد ألغى الرسالة السياسية لحكايات ألف ليلة وليلة في النسخة التي اعتمدها، وكذا الحسّ العقلي الذي تتوفر عليه الحاكية.. نفس الشيء حدث بعد قرنين من ترجمة كالارد، إذ إن شهرزاد خلال عودتها الصاخبة إلى المسرح الباريسي، ستؤخذ رهينة من جديد لدى فنانين روسيين هذه المرة هما"ديا خليف"و" نجنسكي ".

خلال بداية القرن العشرين، في أوربا التي تهزّها أنواع من الثورات التقدمية، وقع اختيار ديا خليف ونجنسكي على بطلة ألف ليلة وليلة للاحتفاء بالجسد كمصدر للذة الجنسية. لقد تكّرر حينها نفس التشويه الذي حدث خلال عصر فرساي. قام هذان المبدعان الطليعيان بما لم تجسر شهرزاد على إتيانه، إذ إنهما أحالا الحاكية الخطيرة على الصمت وسلبوها العقل والذكاء.

لقد غادر"سرج ديا خليف"مسقط رأسه روسيا قاصداً باريس سنة 1910 م لتقديم عروضه في فن الباليه. أثارت شخصية شهرزاد التي قدّمها والتي كانت ترتدي أزياء من تصميم"ليون باكست"شغفاً متجدداً عبر القارة الأوربية بموضة يفترض بأنها تستلهم أزياء الحريم. ولذلك فإن السراويل الفضفاضة الشهيرة التي ابتدعها صانع الأزياء الكبير"بواري"لن تنسى. يا له من حظ تعيس صادفته الرؤية المسكينة! من المؤكد أنها كانت ترتدي سراويل جميلة، ولكنها كانت مجردّة من العقل. كان بإمكانها أن ترقص بطبيعة الحال، ولكّن نجنسكي كان يّوجه حركاتها.

ما لم يخطر ببال نجنسكي هو أنه كان يخون رسالة شهرزاد حين يلعب على وتر التخنث ويدعو المشاهدين إلى التركيز على المشتّرك بين النساء والرجال. يحاول التخنث أن يصالح الجنسين بتذكيرهما بما يشتركان فيه وما يقرب بينهما، في حين أن الوسيلة الوحيدة لإقامة الحوار لدى شهرزاد هي التأكيد على الخلاف. الأدهى من ذلك أن عروض الباليه الروسية كانت حسب"كايلين ستودلار" تخلط بين الأجناس ... في حين أن العروض المقدمة خلال تلك الفترة كانت تتميز غالب الأحيان بقلب السلطة الجنسية، حيث كانت المرأة تبدو مسيطرة وراغبة. والرجل مؤنث ومرغوب فيه ". يشكّل هذا القلب للأدوار إلغاءً بكل ما في الكلمة من معنى لرسالة شهرزاد السياسية، لأن إرعاب الرجل عن طريق تصوير العشيقة كمصّاصة دماء لا يشجع مطلقاً على الحوار بين الجنسين.

إضافة إلى ارتباط ألف ليلة وليلة بالرقصات المتغنجة، ارتبطت صورة المرأة الشرقية بمواد التجميل. والواقع أن الجمال والتزين يشغلان مجالاً واسعاً في هذه الحكايا، حيث نجد الرجال والنساء يقضون وقتاً كبيراً في الاغتسال والتعطر والاعتناء بذاتهم قصد الإغراء. ويبدو أن هذا الموضوع قد حقّق في الغرب نجاحاً أكثر من التخريب السياسي. هكذا دخل الكحل والحنّاء إلى مستودع مواد التجميل في البلاد الغنية كمثل على الاستعمار المعكوس."إن مكانة الحريم تقاس أيضاً بالشعبية المستمرة التي تحظى بها وصفات الصحة والجمال التي يُعتقد بأنها مستمدة منه ".

لقد اغتنى"سيزار بروتو"صانع العطور في أحد أعمال بلزاك عن طريق المادة التجميلية التي أطلق عليها عجينة السلطانات (1924 ). كما أن الحنّاء والكحول والغسول مواد لا زالت تستعمل إلى يومنا. ويشكّل غسل الجسد، بصفته متعة وطقساً حسّياً ونرجسياً، خاصيّة ثقافية تخلق هوة حقيقية بين الإسلام والعالم المسيحي.

إن الاسترخاء في الحمّام خلال الساعات وتدليك الجسد بالغسول .. كل ذلك لا علاقة له بالصرامة السائدة في الساونا الاسكندنافية.

أدانت المسيحية منذ بدايتها الحمّام واعتبرته موضعاً لاقتراف الذنوب والدعارة، لقد تساءل"سبريان"أسقف قرطاجة في القرن الحادي عشر:

" وماذا عن أولئك الذين لا يخشون الاختلاط في الحمّام، بحيث أنهم يعرضون أجساداً خلقت للعفة والتواضع على النظرات الشبقة ؟ ثم ينتهي بعدها إلى أن"هذا الاغتسال لا يطهّر لكنه يلطّخ ..."والواقع أن النساء والرجال في عهد"سبريان"كانوا يرتادون الحمامّات معاً، بحيث"تحولّت هذه الأخيرة شيئاً فشيئاً إلى مواخير منظّمة".

إن هذه العلاقة بين الحمّام والاختلاط الجنسي غائبة تماماً عن الثقافة الشرقيّة، ذلك أن الفصل بين الجنسين في الحمّام قاعدة مطلقة على الدوام، الشيء الذي يبدو طبيعياً، لأن الهدف هو التركيز على تنظيف الجسد كوسيلة للمتعة.

تُقدّم مشاهد الحمّام غالب الأحيان في ألف ليلة وليلة على أنها طقوس تهييئية لأفعال انتقال، كما هو الشأن بالنسبة لرجل يدخل مدينة أحبته أو لامرأة تستعد لدخول قصر جديد، كل هؤلاء يشرعون بالاستحمام. وبما أن هذه الطقوس غائبة في العالم المسيحي، فإن انبهار الفنانين بما اعتبروه نزوة غرائبية لا يبعث البتة على الدهشة، والواقع أن الحروب الصليبية هي التي جعلت المسيحيين يكتشفون الجانب الحضاري للحمام الذي يُمارس في الثقافة الإسلامية.

مما سبق:

تعبّر رحلة شهرزاد إلى الغرب عن مواجهة حقيقية بين حضارتين:

شرقيّة وغربيّة، وفي بداية الرحلة يبدو أن الانبهار كان شديداً بالنموذج الشرقي لكن سرعان ما عادت هذه المرأة مكسورة الجناح. ومع ذلك يبقى اختيار شهرزاد / الأنثى كموضوع للقاء بين الأنا والآخر إحياءً للطرف الصامت في التاريخ الإنساني وإعادة الاعتبار لهذا العنصر وتحليل مجمل العوامل التي أدت إلى قهره.. ولا شك أننا نعيش تطورات جديدة وحركات متعددة تحاول أن توجّه هذا العنصر وفقاً لمتطلبات العصر. كما أن اختيار الأنثى هو استراتيجية جمالية لما تملكه من مواصفات تمكّن الأديب من أن يستخدمها كقناع يمرّر خلالها أفكاره، ومن هنا كان الاهتمام بشهرزاد الأنثى / الأسطورة لما تتضمنه هذه الشخصية من دلالات.



المراجع:

1 – المرأة بين المثلوجيا والحداثة / خديجة صبّار
2 – مقاربة الآخر / سعد البازغي
3 – المساحة المختفية. قراءة في الحكاية الشعبية ياسين النصير
4 – شهرزاد وتطور الرواية الفرنسية من الكلاسيكية إلى الرمزية.
5 – ألف ليلة وليلة، تحقيق وتقديم محسن مهدي.
6 – شهرزاد في الفكر الغربي الحديث مصطفى عبد الغني.
7 – الرسائل، ابن حزم – المجلد الثاني.
8 – مجلة الآداب العالمية – عدد تشرين الثاني 2005.
9 – الألف ليلة وليلتين لشهرزاد أدجار آلان بو.

تسللّت الأميرة الشرقية شهرزاد إلى البلاط الغربي واقتحمت قصور باريس وإنكلترا لترسم تحوّلاً جديداً

إن الشروع في قراءة ألف ليلة وليلة يعني اقتحام عالم لا يعترف بالحدود أو بالاختلافات الثقافية.. من المحيط الأطلسي حتى حدود الصين

كان على شهرزاد أن تنتظر حوالي قرن ونصف لكي ينعتها"إدجار آلان بو"بسيدة العجائب في قصته"الألف ليلة وليلتين لشهرزاد

وماذا عن أولئك الذين لا يخشون الاختلاط في الحمّام.. بحيث أنهم يعرضون أجساداً خلقت للعفة والتواضع على النظرات الشبقة ؟

إن الغرب الذي كان مهووساً خلال القرن الثامن عشر بالرغبة في الحرية.. ومضطرباً بفعل النضال من أجل حقوق الإنسان.. ألغى الرسالة السياسية لحكايات ألف ليلة وليلة
 
أعلى