فاروق شوشة - حكاية من كتاب ( ألف ليلة وليلة ).. حكاية خالد بن عبد الله القسري مع الشاب السارق

ومما يُحكى أن خالد بن عبدالله القسري كان أمير البصرة. فجاء إليه جماعة متعلقون بشاب ذي جمالٍ باهر, وأدب ظاهر, وعقل وافر. وهو حسن الصورة, طيب الرائحة, وعليه سكينة ووقار. فقدّموه إلى خالد فسألهم عن قصته, فقالوا هذا لص أصبناه البارحة في منزلنا. فنظر إليه خالد فأعجبه حُسْن هيئته ونظافته. فقال: خلّواعنه. ثم دنا منه, وسأله عن قصته, فقال: إن القوم صادقون فيما قالوه والأمر على ماذكروا. فقال له خالد: ما حملك على ذلك وأنت في هيئة جميلة وصورة حسنة? قال: حملني على ذلك الطمع في الدنيا وقضاء الله سبحانه وتعالى.

فقال له خالد: ثكلتك أمُّك! أما كان لك في جمال وجهك وكمال عقلك وحسن أدبك زاجر يزجرك عن السرقة.

قال: دع عنك هذا أيها الأمير, وامْضِ إلى ما أمر الله تعالى به فذلك بما كسبتْ يداي, وما الله بِظَلاَّم للعبيد.

فسكت خالد ساعة يفكر في أمر الفتى, ثم أدناه منه وقال له: إن اعترافك على رءوس الأشهاد قد رابني وأنا ما أظنك سارقاً, ولعلّ لك قصة غير السرقة فأخبرنيبها.

قال: أيها الأمير لا يقع في نفسك شيء سوى ما اعترفتُ به عندك وليس ليقصة أشرحها إلا أني دخلت دار هؤلاء فسرقت ما أمكنني, فأدركوني, وأخذوه مني وحملوني إليك.

فأمر خالد بحبسه, وأمر منادياً ينادي بالبصرة: ألا من أحبّ أن ينظر إلى عقوبة فلانٍ اللص وقطع يده فليحضر من الغداة إلى المحلّ الفلاني. فلما استقر الفتى في الحبس, ووضعوا في رجليه الحديد تنفّس الصُّعداء وأفاض العبرات. وأنشد هذهالأبيات:
هددني خالد بقطع يدي = إن لم أَبُحْ عنده بقصّتها
فقلت: هيهات أن أبوح بما = تضمّن القلبُ من محبتها!
قطْعُ يدي بالذي اعترفتُ به = أهونُ للقلب من فضيحتها

فسمع ذلك الموكّلون به, فأتوا خالداً وأخبروه بما حصل منه. فلما جنّالليل أمر بإحضاره عنده, فلما حضر استنطقه فرآه عاقلاً أديباً فطنا ظريفا ًلبيباً.

فأمر له بطعام, فأكل وتحدث معه ساعة, ثم قال له خالد: قد علمتُ أن لك قصة غير السرقة, فإذا كان الصباح وحضر الناس وحضر القاضي وسألك عن السرقة فأنكرها, واذكر ما يدرأ عنك حدّ القطع. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادرءوا الحدود بالشبهات. ثم أمر به إلى السجن (وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح )

) وفي ليلة اثنتين وأربعين وثلاثمائة) قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن خالداً بعد أن تحدث مع الشاب أمر به إلى السجن فمكث فيه ليلته, فلما أصبح الصباح حضر الناس ينظرون قطع يد الشاب, ولم يبْق أحد في البصرة. ثم استدعي بالقضاة وأمر بإحضار الفتى, فأقبل يحجل في قيوده ولم يره أحد من الناس إلا بكى عليه, وارتفعت أصوات النساء بالنحيب, فأمر القاضي بإسكات النساء.

ثم قال: إن هؤلاء القوم يزعمون أنك دخلت دارهم وسرقت مالهم فلعلّك سرقت دون النّصاب ? قال: بل سرقت نصاباً كاملاً. قال: لعلّك شريك القوم في شيء منه? قال: بل هو جميعه لهم لا حقّ لي فيه. فعضب خالد, وقام إليه بنفسه وضربه على وجهه بالسّوط وقال متمثلاً بهذا البيت:
يريد المرء أن يعطى مناه = ويأبى الله إلا ما يريد

ثم دعا بالجزار ليقطع يده, فحضر وأخرج السكين ومدّ يده ووضع عليها السكّين, فبادرت جارية من وسط النساء عليها أطمار وسخة فصرخت ورمت نفسها عليه, ثم أسفرت عن وجه كأنه القمر, وارتفع في الناس ضجة عظيمة, وكاد أن يقع بسبب ذلك فتنة طائرةُ الشرر. ثم نادت تلك الجارية بأعلى صوتها: ناشدتُك الله أيها الأميرَ لا تُعجل بالقطع حتى تقرأ هذه الرقعة , ثم دفعتإليه رقعة ففتحها خالد وقرأها فإذا مكتوب فيها هذه الأبيات:

أخالدُ هذا مستهامٌ متيّم = رمتْه لحاظي عن قسّي الحمالق
فأصماه سهم اللحْظ مني لأنه = حليف جوى من دائه غير فائق
أقرّ بما لم يقترفهُ كأنه = رأى ذاك خيراً من هتيكة عاشقِ
فمهلا عن الصبّ الكئيبِ, فإنه = كريم السّجايا في الورى غيرُ سارقِ

فلما قرأ خالد الأبيات تنحّى, وانفردعن الناس وأحضر المرأة, ثم سألها عن القصة فأخبرته بأن هذا الفتى عاشق لها, وهي عاشقة له. وإنما أراد زيارتها فتوجّه إلى دار أهلها ورمى حجراً في الدار ليُعلمها بمجيئه فسمع أبوها وإخوتها صوت الحجر فصعدوا إليه. فلما أحسّ بهم جمع قماش البيت كلّه, وأراهم أنه سارق ستْرا على معشوقته, فلما رأوه على هذه الحال أخذوه, وقالوا: هذا سارق, وأتوا به إليك فاعترف بالسرقة وأصرّ على ذلك حتى لا يفضحني, وقد ارتكب هذه الأمور مِنْ رمْي نفسه بالسرقة لفرط مروءته, وكرم نفسه. فقال خالد: إنه لخليق بأن يُسعف بمراده.

ثم استدعى الفتى إليه فقبّله بين عينيه, وأمر بإحضار أبي الجارية, وقال له: يا شيخ, إنا كنا عزمنا على إنفاذ الحُكم في هذا الفتى بالقطع. ولكنّ الله عز وجل قد حفظه من ذلك. وقد أمرتُ له بعشرة آلاف درهم لبذله يده حفظاً لعرضك وعرض ابنتك وصيانتكما من العار.

وقد أمرتُ لابنتك بعشرة آلاف درهم حيث أخبرتني بحقيقة الأمر. وأناأسألك أن تأذن لي في تزويجها منه, فقال الشيخ: أيها الأمير, قد أذنتُ لك فيذلك!

فحمد اللهَ خالدٌ وأثنى عليه, وخطب خُطبة حسنة (وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح).

***

آثرت ألا يسبق هذه السطور - من كتاب ألف ليلة وليلة - شيء. فهي شاهد عدْل على ما للكتاب من وجهٍ أدبي وخُلقي يرتبط بالشرف والمروءة والحفاظ على العرض والتصون لعله يُصحّح ما لدى كثير من الناس من سبْق حكْمٍ علىالكتاب بأنه منافٍ للأخلاق, بعيد عن القيم والأصول.

ثم هي عمل قصصي مكتمل, يمسك بأنفاس قارئة من السطر الأول حتى السطر الأخير, وهو يلهث وراء متابعة ما سيئول إليهِ الأمر, وكيف ستكون الخاتمة. بعد أن انعقدت العقدة, وتقطعت الأنفاس, وأُغلقت أبواب الأمل في وجه تعاطف عارم من الجميع مع الشاب الذي آثر قطع يده على فضح محبوبته.

ثم هناك اللغة السهلة الممتنعة التي كتبت بها الحكاية, لغة هي التعبير الحقيقي عن مفهوم البلاغة كما عرّفه القدماء: (التي إذا قرأهاالجاهل ظن أنه يحسن مثلها)! لكن مثلها هو الأمر الشديد الصعوبة والندرة. فمبدع هذه اللوحة من لوحات ألف ليلة وليلة يدرك ما يصنع, ويعرف لكل كلمة موضعْها من السياق, ويعي حركة النص في اتجاه التصاعد بالحدث والموقف سطراً بعد سطر, وفقرة بعد فقرة. وهو يمسك بالخيوط كلّها بين أصابعه, يبسط ويقبض, ويرخي ويشدّ, في إطار فني محكم من الصياغة والسّرد والبناء.

إن جمال العربية على صفحات (ألف ليلة وليلة) يتوهج بهذه الاستشهادات والاقتباسات الشعرية التي أصبحت جزءاً من درامية النص وبنائه, فهي ليست مجرد زينة خارجية يسعد بها محبّو الشعر - من خلال السياق الحكائي لشهرزاد - وليست مدسوسة في الكلام بقصْد الوعظ أو الإرشاد أو الإشارة إلى مَجْلى الحكمة والهداية. إنها جزء أصيل من سياق العمل الفني الذي اكتسى لغته الجميلة البديعة, فجاء على هذاالنّسق اللافت من الصدق والإحكام والعذوبة.

أما الكتاب نفسه (ألف ليلة وليلة) فأشهر من أن يُعرّف, وربما يكون فيما أوردته الموسوعة العربية الميسرة عنه ما يضيف بعض الظلال والخطوط إلى الصورة المرسومة له في عقول الناس ووجدانهم. تقول الموسوعة: (مجموعة منوعة من القصص الشعبي العربي بلغة بين الفصحى والعامية (هل لاحظت أيها القارئ أن النّص الذي بين يديك مكتوب بلغة بين الفصحى والعامية?) يتخللها شعر مصنوع أكثره مكسور ركيك فينحو 1420 مقطوعة (هل ما تضمنه النص الذي بين يديك من شعر مصنوع وأكثره مكسوروركيك?) نسخها المعروفة مرتبة على هذا النحو: كلكتا الأولى, ثم بولاق, ثم كلكتاالثانية, ثم برسلاو, وأخيراً بولاق الثانية.

وكلها حديثة لا ترجع إلى أقدم من أول القرن التاسع عشرمما جعل البحث في أصولها عسيراً للغاية, وقد شغل المستشرقون ببحث هذا الأصل والعثورعلى نص قديم يذكرها مثل نص ابن النديم في الفهرست الذي يُعدّ مفتاحاً للبحث. ذكرابن النديم أنها مترجمة عن أصول بهلوي اسمه (الهزار إفسان) أو (الهزار إفسانه) أي الألف خرافة. ولما كان كتاب (الهزار إفسان) غير موجود فإن البحث عن أصل الليالي يزداد غموضاً.

ومنذ ترجمها - بتصرف كبير - الكاتب الفرنسي (أنطوان جالان) ذاعت في أوربا وتُرجمت عن (جالان) مراراً طوال القرن الثامن عشر.

وفي آخر القرن التاسع عشر ترجمت عن الأصــل وما زالت إلى اليوم تصدر لها ترجمات مصورة فاخرة. وقُلَدت الليالي بصور كثيرة واستنفدت في تأليف القصص وبخاصة للأطفال وكذلك المسرحيات الحديثة وألهمت رسامين وموسيقيين.

وقداستقر الرأي - بالنسبة لأصلها - على أنها لم تخرج بصورتها الحالية وإنما أُلّفت على مراحل وأضيف إليها من مجموعات القصص المدوّنة على مرّ العصور الشيء الكثير. وإن الجزء المترجم عن الهزار إفسان البهلوية أقلّ الأجزاء شأناً وأصغرها حجما, ومن القصص ما له أصول هندية قديمة معروفة, ومنها ما هو مأخوذ من أخبار العرب وقصصهم الحديثة نسبياً. وتمثل القصص بيئات شتى خيالية وواقعية. وأكثر البيئات الواقعية بروزاً مصر ثم العراق وسوريا. وقد أظهرت الدراسة اختلاف أساليب القص وطرق المعالجة باختلاف الموضوع لاصطباغه بالمنبع الذي عنه أُخذ. وما زالت الليالي عند الغرب تدلّ على كثير من خيال الشرق وسحره, وما زالت عند العرب كتاباً من كتب العامة).

***

ولا أدلّ على أن نظرتنا إلى مثل هذه الصفحات من تراثناالعربي - بكل ما تحفل به من فن قصصي, وأخبار عن العادات والقيم والتقاليد, وتجسيد لشخصيات المجتمع من الطبقات والمستويات المختلفة, وتصوير لمجالي الحياة والفنون والترف واللهو وضروب الحكم والسياسة, فضلاً عن المخاتلات والمجون وحكايات السوقة واللصوص - نظرتنا قد تغيّرت, وأصبحت محكومة بهاجس أخلاقي خانق, من أن هذا النص الأدبي القصصي الجميل من بين نصوص عدة في كتاب (ألف ليلة وليلة) قد اختارته مجموعة من كبار أدباء العصر هم: طه حسين وأحمد أمين وأحمد الإسكندري وعلي الجارم وعبدالعزيز البشْري وأحمد ضيف ليكون ضمن كتاب (المنتخب من أدب العرب) المقرر على السنتين الرابعة والخامسة الثانويتين في مســـتهل ثلاثينيات القرن الماضي.

وهأنذا أتابع هذه الصفوة من الكبار - وهم مَنْ هم - فأقدّم هذا النّص لقراء (العربي) بعد أكثر من سبعين عاماً على اختياره ليكون موضوعاً للدرس الأدبي في المدرسة, وليقرأ الطلاب من خلاله تراثهم الأدبي, ويقفواعلى كثير مما فيه من جمال العربية وإبداع الرواة والقصاصين.
تُرى, ما الذي يقرؤه أبناؤنا الطلاب في مدارسهم الآن? ومن الذي يختار لهم ما يقرأون?

فـاروق شوشة


* عن : مجلة العربي العدد نوفمبر 516
 
أعلى