أحمد حسن الزيات - ألف ليلة وليلة تاريخ حياتها.. المحاضرة الأولى

يخطو الدهر دائباً في وناءٍ وكبرياء وصمت، فيعفو الأثر. ويقري الحجر. ويبري الحديد، وتنال يده العابثة كل شيء في حياة المرء بالتغيير والنقص، إلا شيئاً واحداً يلوذ منه بسواد القلب فيستقر في قراره، ويكمن كون السر في دخيلته وإضماره، أريد به ذكريات الصبي، وإحلام الحداثة، فهي باقية والجسم يتخونه البلي، ثابتة والعيش تزعزعه الاحداث ناضرة والمني يصوحها اليأس، مشرقة والنفس يغشاها من الهم ظلام وسحب فمن منكم ياسادة لايذكر أول بيت أبصر فيه الوجود، وأول ملعب عرف فيه الرفيق، وأول مكتب رأي في المعلم، واول موعد لاقي فيه الحبيب؟؟ ومن منكم لايذكر ساعات السمر اللذيذة الهادئة، في غرفة اليوم الوثيرة الدافئة، حيث كان أطفال الأسرة يتجمعون حول الجدة الحنون. أو الاًم الرؤم. أو الظئر الحانية، فينضون في سكون وشوق إلي ماتقصه عليهم من روائع الأسمار. وبدائع الاقاصيص، وهم من طلاوة الحديث وجاذبية الحادث وبشاشة المحدث في حال لايصف الشعور بها غير الشاعر، ثم لايلبث هذا الرحيق العجيب ان يخدر الأعصاب الطفلية الرقيقة، فتغفو تحت جناح الكري، وتسمع بقية الحديث الشهي في الحلم!
هذه الاقاصيص الشائقة التي كانت لعقولنا الصغيرة سحراً، ولعواطفنا المشبوبة سكراً، ولقلوبنا الغضة فتنة، هي نوع من الأحلام والأماني تراءت في ليل الحياة الطويل، ثم تجمعت في ذاكرة الزمن القديم، وتنقلت من عهد إلي عهد، ومن مهد إلي مهد، ومن بلد إلي بلد، تحمل في طواياها نفحات الحكمة المشرقية العالية، وعطور الأزمن البعيدة.
فوجودها أثر لوجود الإنسان، لانها ظاهرة طبيعية من ظواهره: كالغناء والشعر والرقص فلاتعرف لها أولية. ولاتحدد في الغالب لظهورها علة. ولكن علماء الأساطير يزعمون انها نشأت في الهند، وهاجرت منها إلي بلاد الفرس، ثم رحلت الي بلاد العرب، ثم استقر بها النوي في أقطار العرب، وفي كل مرحلة من هذه المراحل كانت تصطبغ بصبغة البيئة، وتتأثر بخصائص الجنس، وتتسم بسمات العقيدة.
وأما أبطالها الذين وجدوا علي الرغم من قانون الوجود، ونازعوا ابطال التاريخ ثوب الخلود، فقد كان لبعضهم ولاشك حظ في الحياة، وشهرة بملازمة الأسفار وملابسة الغير، فتحدث الناس أولاً بما فعلوا ثم سرجوا حول اسمائهم وأنبائهم الاكاذيب، والأعاجيب حتي أصبحوا أعلاماً علي شخصيات متميزة في البطولة والحرب والحب والحيلة والكرم: كدعد وليلي في الشعر وإبي نواس وجحا في التنادر.
أما اكثر الابطال فمن خلق الخيال، ابتدعهم رموزاً للمثل الاعلي، أو القدر العابث أو الجلد العاثر، او السلطان الجائر، أو الهوي المتسلط، أو الأمل الآسي، أو الحظ السعيد.
وعلي ذكر الطفولة ومناغيات الأمومة، أراكم ولاريب تركتموني أتكلم وعدتم بالذاكرة الي تلك العهود الحبيبة تتخيلون سحرها، وتستعيدون ذكرها، وتصيخون الي ذلك الصوت الحنون، ينبعث خافتاً من أعماق الماضي القريب أو البعيد، مردداً أسماء أولئك الأبطال الذين طالما كتأبتم لاكتئابهم، وتألمتم لمصابهم، وشاركتموهم بالعطف في نعماء الحب، وبأساء الحرب، ولأواء الخطب: من أمثال الحسن البصري، ونور الدين المصري، والشاطر محمد، والشاطر حسن، إلي آخر ماسجلته الذاكرة..
أنا كذلك ياسادتي ذكرت حين كتبت هذه السطور- هاتيك القبور التي ضمت هواي. ورفقة صباي، ونوعاً من الحنان والأخلاص لم أذق له طعماً منذ غاض في هوة البلي منبعه... ثم ذكرت شيئاً آخر: ذكرت مجلي من مجالي الأنس في القاهرة كا جمعة القلوب، وألفة النفوس ومستجم الخواطر، فعصفت به روح المدنية الحديثة، ذلك منظر المحدث أو القصاص أو المسامر أو الشاعر في مقهي الحي وهو في حلته الشرقية المفوفة الضافية، فوق صفته الخشبية البالية العالية، وقد تجمع بين يديه، ومن يمينه وعن شماله، أوزاع العامة، وشيوخ المحلة يستجمون من كلال العمل اليومي، برشف القهوة العربية، وتدخين النرجيلة العجمية، وتبادل العواطف الاخوية، ثم الإصغاء المشترك إلي (ابي درويش) وهو يقص بصوته العريض المتئد، وجرسه الهاديء المتزن- حروب (عنترة) أو وقائع (ابي زيد) أو مخاطر (ابن زي يزن) فينقلهم بقوة تمثيله أو بحسن ترتيله، علي جناح الخيال إلي عصور هؤلاء الابطال، فيشهدهم مجد البطولة وسلطان الحب وفتك السحر وبطش المردة، ثم يري الخبيث أن فورة الحماسة، والشوق قد طغت في النفوس لوقوع البطل في أسر أو شدة، فيسكت ليجمع النقوط من السمار والنظار. فلايجد هؤلاء مندوحة عن تعجيله ليعجل هو الي إطلاق البطل من إساره، وإنقاذ الجمهور من شدة قلقه ومرارة انتظاره..
وفي ليلة من هذه الليالي الساهرة تجدون هذه القهوة ذات الضوء الشاحب، والصمت الحالم، والمنظر الكئيب -قد خفقت فوقها الرايات وأشرقت في جوها الثريات، وتلألأت في سمائها المصابيح، وأخذت زخرفها بالسامرين، وقد جلسوا متقابلين في الدكك العالية يطوف عليهم غلمان باكواب من ذوب ا لسكر المعطر بماء الورد، وصاحبنا ا لمحدث قد خرج إلي القوم يتهادي في عمته المكورة وجبته المعصفرة وقفطانه الأنيق الاصفر. وقد تدلت من حزامه الحريري ذلاذل تنوس علي بطنه المنتفخ الضخم. فإذا استوي علي عرشه المنجد
توهج البخور من جانب وتضوعت العطور من جانب ثم خشعت الاصوات ورنت إليه العيون وأنشأ يحدث.
فإذا بدا لاحد ان يسأل بعض الجالسين عن سبب هذا المهرجان عجب اولاً من انه لايعرفه، ثم أجابه بلهجة الفخور المزهو: هذه ليلة زفاف عبلة إلي عنترة... فإذا كانت القصة قصة بني هلال- وجدتم هذا الهوي الجميع قد استحال إلي عصبية شنيعة. ورأيتم إخوان الأمس قد أصبحوا أعداء اليوم: فطائفة تتعصب لبني هلال. وطائفة تتعصب لبني زناتة. وهؤلاء يريدون الشاعر علي ان يقص واقعة. واولئك يسألونه ان يقص أخري، والشاعر لايجيب إلا من يجزل له العطاء.. فإذ رجحت كفة وشالت كفة أخذ يروي من ذاكرته وغيبه - علي هوي الفئة الغالبة ما لم يسجله تاريخ. ولم يدونه كتاب. فيزور الغرائب، ويختلف الوقائع، يقمش مما خزنه في حافظته - من مختلف الأسمار ورقائق الأشعار ليحوك منها للبطل حلة تهز العجب في قلوب أشياعه، وتلهب الغيرة في صدور خصومة، فإما نفحة أخري تميل به إلي الجهة الثانية، وإما معركة بين الحزبين تكون هي القاضية.
هذا الرجل الذي صورته لكم هذه الصورة المتقاربة، هذا الرجل الذي ينام النهار ويجلس الليل يحدث أربع ساعات متعاقبة، هذا الرجل الفكة اللبق الحافظ الواعظ -هو الاثر التاريخي والنموذج الحقيقي، لذلك القصاص البارع الذي خلف لنا كتابنا العالمي، الخالد (الف ليلة وليلة).
يرجع تاريخ هذا القصاص ياسادة إلي صدر الإسلام، والفضل في وجوده كان ايضاً للقرآن الكريم. فقد اشتمل كما تعلمون علي مجملات من أخبار القرون الخالية والنذر الأولي، وكان أعلم القوم يومئذ بتفصيلها من أسلم من أهل الكتاب كتميم الناري ووهب بن منبه. وكعب الاحبار وعبدالله بن سلام: فكان هؤلاء ومن أخذ عنهم يجلسون الي الناس في المساجد، يفصلون، ما في كتاب الله من قصص الانبياء، ويسرفون في تهويل هذه الأنباء، ابتغاء للعبرة، والتماسا للموعظة، ووافق هذا الضرب من الوعظ هوي النفوس فإزداد إقبال الناس عليه، وكثر إفك القصاص فيه، حتي طردهم امير المؤمنين علي من المساجد، ماخلا الحسن البصري.
ولكن دهاة السياسة رأوا سلطان هذا الفن علي العقول وقوة أثره في توجيه الميول -فاتخذوه لساناً للدعاية وسبيلاً وألح الوباء، وبغي الحاكم- وعلي الحالين كان السامر او المسامر عنصرين من عناصر الحياة ينضران بهجة العيش في الرخاء، ويسريان كربة النفس في الشدة.
وكان أول من تولي القصص الرسمي في مصر سليمان بن عنتر التجيبي سنة ٨٣ تولاه مع القضاء ثم أفرد به، ثم تعاقبت القصاص من بعده في مصر علي اختلاف بينهم في القدرة والغرض ، فكانوا أصداء للعقيدة، وأبواقاً للسياسة، تسمع منهم في كل عهد لهجة، ولكل دولة سند وحجة. وترون ذلك أقوي ظهورا في عهد الفاطميين. فقد كان مقتل الأمام (علي) ومأساة الأمام (الحسين) موضوع المنابر والسوامر في شهري رمضان والمحرم.
وقيل ان ريبة حدثت في قصر (العزيز بالله) فتناقلتها الأفواه ورددتها الاندية فطلب الي شيخ القصاص يومئذ. (يوسف بن إسماعيل ان يلهي الناس عنها بما هو أروع منها فوضع قصة عنترة ونشرها تباعاً في اثنين وسبعين جزءاً سمرت بها مجالس القاهرة منذ ذلك الحين إلي اليوم وهي الياذة العرب لاينازعها هذا الشرف إلي الآن عمل فني آخر.
>>>
وفي القرن الرابع للهجرة كانت فورة هذا الفن ونهضته في بغداد والقاهرة. ففي عهدي (المقتدر بالله العباسي) و(العزيز بالله الفاطمي) كان القصاص الحكوميون والشعبيون يحتشدون لوضع الاخبار، ويتنافسون في جمع الأسمار، من الوراقين، والرحالين العامة.
ولكن القصص في العراق كان من عمل الكتاب، يصورون فيه أنبل عواطف الناس، وأجمل مواقف الحياة، ويلقونه زهوراً وعطوراً في مجالس الخلفاء، وسوامر الملوك، فكانت بلاغة المحدث وجلالة السامع ونبالة الموضوع تطبع القصة بطابع الجمال والاعتدال والقصر، وتنزع بها الي السليقة الغربية المجبولة علي الايجاز والقصد في الشعر والخطب والرسائل والقصص.
فما جمعه ووضعه الجهشياري( و(ابن دلان) و(ابن العطار) في القرن الرابع من الأقاصيص في الحب الطروب، والترف المسرف، وماوضعه من قبل هؤلاء (سهل بن هرون) و(علي بن داود) و(أبان ابن عبدالحميد) من الاسمار في الامثال الرمزية والحكمة العالية والسياسة الرشيدة، وماصنعه من قبل هؤلاء (عيسي بن دأب) و(هشام الكلبي) و(الهيثم بن عدي) من الأخبار في الهوي العذري والسخاء العربي في الإسلام والجاهلية- كل اولئك موسوم بسمة العقلية العربية الخالصة من حذف الفضول وترك الاستطراد وقلة المبالغة.
اما القصص في مصر فكان غالباً من عمل القصاصيين والمسامرين، يلفقونه من الكتب، ويتلقفونه من الافواه، ويحدثون به الدهماء في المجالس العامة. ورزق هؤلاء القصاص علي قدر ماعندهم من القصص.
فإذا ما انقطع أحدهم عن الحديث لنضوب معينه انقطعت به أسباب العيش، فهم لذلك مضطرون الي تطويل الموضوع بالاستطراد، وبسط الحادث بالتزيد، وجذب القلوب بالإغراب والمبالغة.
ومن ثم اتخذ الادب القصصي في مصر شكلا لاعهد للادب العربي به. ذلك هو شكل القصة بالمعني الذي تفهمه من كلمة رومان Roman في إصطلاح الفرنك، فإن المعروف الشائع من قبل - إنما كان المثل fable و(الأقصوصة) conle والحكاية nouvelle وهذه الانواع قد تولد بعضها من بعض علي نحو مايري الاستاذ (برونتير) الناقد الفرنسي في تطبيق مذهب (دارون) علي الأنواع الأدبية، فالأقصوصة نشأت من المثل، والحكاية نشوؤها من الأقصوصة، والقصة نشأت من الحكاية، باتساع الخيال، وفعل المبالغة، وحكم الزمن. ولكن القصة العربية قد تأخر نشوؤها الي القرن الرابع حتي ظهرت بمصر، لان عملها يقتضي التطويل والتحليل والعلم بطبائع الناس وأوصاف الشعوب، والعرب في عهود كانوا أبعد سابقة طبيعتهم ومعيشتهم عن هذه الأمور، ثم كانوا في عصور التحضر والاستقرار يؤثرون الخاصة بأدبهم فيضطرون في حضرة الملوك ان يراعوا أدب الحديث فلا يغرقون في الحادث حتي بجانب العقل، ولايسهبون في السمر حتي يجاوز المجلس، ولايسفون في القول حتي يصادم الخلق، أما القصاص المصري فقد تهيأت له الأسباب اللازمة لخلق القصة: كان سمير الأوزاع والعامة فلم يتقيد معهم بقوانين الخلق، ولابقضايا المنطق، ولابوقائع التاريخ، فهو يصطنع اللهجة الصريحة، ويستعمل الألفاظ القبيحة، ويبالغ في الخلط والتلفيق، قصداً الي الاغراب والتشويق، ويعتمد غالباً في المفاجآت القوية، ويستطرد كثيرا الي الحوادث العرضية، ثم يصادم الوقائع ويشوه الحقائق، لانه يجهلها، والجمهور الذي يسمعه لايعلمها، فاستطاع بذلك ان يزور أغرب الحوادث ، ويجمع شتي الاحاديث، ويترك لنا هذه المجموعة القصصية التي كانت ولاتزال للخاصة مبعث لذة ، وللعامة مصدر ثقافة.
كان القصاص المصري يعتمد في مادته علي مايصدر عن بغداد من الأقاصيص الموضوعة والمنقولة، والروايات القديمة الصحيحة والمدخولة، ثم يضيف الي ذلك ماتنوقل في مصر وما تجمع من الأخبار من التجار والرحالين والبحارين، فقد كان هؤلاء بعد عودتهم من البلدان، النازحة يدونون ماراوا من الاعاجيب، كما فعل اليعقوبي وابن فضلان ويززك بن شهر يار مثلا، إذ يحدثون بها الناس كأن يقولوا لهم ماحكاء ابن خرداذية من ان في بعض الأمم رجالاً عراض الوجوه، سود الجلود، لاتزيد قامة أطولهم علي أربعة أشبار، وفي جلودهم نقط حمر وصفر وبيض، وإن فيهم من له أجنحة يطير بها، ومن رأسه كرأس الكلب، وجسمه كجسم الثور أو الأسد، وماجاء في كتاب (المستطرف) من أن في (البلغار) من طوله اكثر من ثلاثين ذراعاً يأخذ الفارس تحت إبطه، كما تأخذ الطفل الصغير، ويكسر ساقه بيده كما تقطع حزمة البقل. وما رأي الرحالون بالطبع هذه الأشياء، وانما راوا صورها علي الآثار التي خلفها البابليون والفراعنة والرومان والفرس فظنوها حقيقة.
كان القصاص يتناول هذه الاخلاط فيؤلف منها قصة كثيرة الفصول والفضول، تذور حوادثها علي بطل واحد، ولكنها تعرض من قبيل الاستطراد الي حوادث شتي، لايصلها بحياة البطل الا صلة واهية.
انظروا مثلا كيف صنع قصة (عنترة) : بناها علي حادثة أصلية صحيحة: هي (حرب داحس والغبراء) التي شبت لظاها بين عبس وذبيان قبيل الإسلام ثم دارت رحاها علي قطب من أقطايها وهو (عنترة بن شداد) العبسي، فذكر نشأته في حادثة خرافية جذابة، ثم وصف رجولته وبطولته وفصاحته وحبه وكرمه، وما اتصل بذلك من عادات البدو، كالضيافة والحماسة الاجارة والشعر والغزو والسلب والثأر، ولكن حروب عبس وذبيان مهما هول فيها وطول لاتشغل بال السامعين طويلا، ولاتدر علي من المال كثيراً ، فهو يوقع الخصومة بين عنترة وبين فرسان العرب فيقابلهم ويقاتلهم ويسمهم جميعاً بالنكول والعجز. والقصاص في أثناء ذلك ينقلنا في السهول والاودية، ويقلبنا بين المضارب والاخبية، حتي جلا لنا من الحياة الجاهلية صورة صفقة لاتتمثل في خواطركم من طريق التاريخ المقتضب المفكك الا بعد جهد. ثم يري مع ذلك ان الشوق شديد، وان الأمد الذي يريده بعيد، فيخرج البطل من الجزيرة العربية ويقيم به الي مصر بلد القصاص فيقود عنترة بها حروباً، ويهلك شعوباً، ويبتني حصوناً لاتزال العامة تعرفها الي اليوم باسمه، ثم يذهب الي القسطنطينية ويزوجه من امرأة رومية. حتي اذا ظفرت المنون اخيراً بالشجاعة الخارقة عاد ابنه من (بيزنطة) الي الحجاز فطالب بعرش ابيه وحارب معاديه ومغتصبيه، والميتة التي اختارها القصاص لعنترة تدل علي قدرة فنية عجيبة، وكان (لامرتين) لاينفك بها معجبا، ومنها طروبا، فقد ذكر أن (الاسد الرهيص) احد خصوم (عنتره) المقهورين الموتورين رماه غيلة بسهم مريش مسموم، فلما أحس البطل فعل الموت في جسمه الوثيق خشي علي قومه من بعده شر الهزيمة وعار الفشل ، فوقف حيال العدو الثائر ممتطيا جواده، متكئاً علي رمحه، وأمر جيشه بالتقهقر والنجاة. فارتد الجيش وبقي هو واقفاً يعالج سكرات الموت، والعدو متحفز للهجوم، ولكنه لايجرؤ عليه خوفا من عنترة حتي فاضت روحه علي صهوة جواده، وكان الجيش المتقهقر قد بلغ مأمنه، فلما طال وقوفه، وجاوز الحد سكونه ارتاب الجيش المهاجم، فدبر الحيلة لكشف الامر فأرسلوا الي جواده حجراً تهيجه، فلم يكد يراها الفرس حتي وثب وثبة خر لها فارسه علي الارض صريعاً.
والغالب فما أظن ان القصاص الماهر قد اخذ هذا الختام البارع من مصرع (سليمان بن داود) امام عماله المسخرين من الجن، وقد أجملته البالغة المعجزة في هذه الأية الكريمة (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم علي موته الا دابة الارض تأكل منسأته. فلما خر تبينت الجن ان لو كانوا يعلمون الغيب مالبثوا في العذاب المهين).
ظهرت هذه القصة الحماسية الجميلة في عصر كان وادي النيل فيه منيع الحوزة، باهر الجلالة ، صافي المورد، لايكدره والغ ولا واغل:
فكان استقلاله لهم العزة، وعروبته توحي الشهامة. فلما هبت الاعصاير العوج بالبربرية الجامحة ، فأطفأت منائز بغداد ، وزعزعت عرش الخلافة وعبثت العجمة الجاهلة بتراث العرب: من علم وادب، وخلق ودين، وعدت ذئاب الغرب باسم الصليب علي الشام ومصر، تنج الهلال الآفل، وتنهش المجد الطريد - رأينا القصة المصرية تصور هذه الحياة الحزينة تصويراً عجيباً. ورأينا القصاص قد اتسع خياله، مقدر ما ضاق علمه، ويخلق بلاداً لم توجد، ويتصور حوادث لم تقع ، ويعتمد في العمل علي الجن والسحر والخوارق.
فبين القرنين السادس والثامن من الهجرة -ظهرت في مصر سلسلة من القصص الطويلة الجذابة غفلا من اسماء مؤلفيها: لان القصاص المحترفون إنما كتبوها لانفسهم فيما أرجح، ثم توارثوها خلفاً عن سلف حتي بلغت عهد المطبعة، فنشرت علي شكلها، دون اسم ولا وسم ولاتعريف.
واشهر قصص هذا الدور سيف بن ذي يزن ، والاميرة ذات الهمة، وفيروز شاه، فإما انها كتبت في هذه العهود فذلك واضح لادني نظر من أسمها وأسلوبها وماتدور علي من عادات واعتقادات وصور، وأما انها كتبت بمصر فذلك ثابت من أما كن وقائعها، واسماء اشخاصها، فأبطالها جميعاً عاشوا بمصر، حتي الذين لم يروها أقدوموهم إليها..
فالمهلهل بن ربيعة كان الوجه البحري ميدان حروبة، وسيف بن زي يزن هو الذي اجري النيل من جبال القمر بكتابه السحري الذي دفنه في جزيرة الروضة بالقاهرة، وهو الذي خطط مدن مصر، فالجيزة اسم من اسماء زوجاته، وسبك الثلاث ودمنهور الوحش قائدان من قواده، والنيل تفرع الي فرعي رشيد ودمياط: لان الملك (صيفاً) وهو قادم به من السودان وقف يقاتل الكفار الذين اعترضوه في رأس الدلتا فوقف النيل بوقوفه، ولكن الماء وراءه قد عب عبابه وطفحت أواذبه فاندفق شطر منه الي الشمال. واتجه الملك بالشطر الآخر الي اليمين.
ومدينة (سمنود) اصلها سماء نود لان الحكيم (نودا) صاحبها قد عقد عليها سماء بالسحر توقعا لغارات الملك سيف وهو ذاهب بالنيل الي مصبه.. ثم دفنه المؤلف أخيراً فوق جبل المقطم، وقال ان قبره هو الذي يعرف الآن بالجيوشي.
ولقد كان للحروب الصليبية أثر طاهر في نسج هذه القصص في هذا الدور فإن العواطف الدينية والحماسة القومية التي ألهبتها في قلوب المسلمين، هذه الغازات قد حملت القصاص علي ان يتملق هذه العواطف ويغذبها بما يلفق من الاشعار والاخبار في فضائل الجهاد والاستشهاد والصدق والصبر.
فسيف بن زي يزن كان حنيفاً مسلماً يقتحم المعاقل والأرصاد علي الوثنية في معالم الارض ومحاملها، وهو يقول »لا إله إلا الله إبراهيم خليل الله«. وكذلك سائر الأبطال في سائر القصص، إلا انهم كانوا بعد الإسلام لا قبله.

وبين القرنين الثامن والعاشر للهجرة كان حكم المماليك بفساده، وحكم الاتراك باستبداده، قد أتيا علي مابقي من اركان الاجتماع، وحللا اواصر الاخلاق والطباع، ومني الناس بإلحاح الأوباء، وشراهة الجباة والرؤساء، واستشعرت نفوسهم ذل الحرمان والقهر، فأخلدوا إلي التصوف او الي المجون، وعالجوا همومهم بالحشيش والافيون، وحارب بعضهم بعضا بالشطارة والحيلة، وتقاتلوا علي حطام الحياة بالخديعة والغيلة، وحال نظام الفتوة في مصر الي مناسر من اللصوص والعيارين، يقطعون متون السبل، ويعبثون بالأمن والناس من ضعف السلطان يخضعون لهؤلاء ويجلونهم إجلال الزعماء ويتناقلون حوادثهم وأحاديثهم بالإعجاب والمبالغة فظهر حيئنذ ذلك القصص الوضيع الذي يمثل هذه الحالة بحقارتها وسفالتها، ويصور تلك البيئة بخرافاتها وجمالتها، كالقصص الذي يدور علي (علي الزيبق) و(أحمد الدنف) و(حسن شومان)و (ودليلة ا لمحتالة) او (دالة المحتالة) كما يسميها (المسعودي).. وأصبح أسلوب القصاص في هذا الدور دائراً بين الجهالة والقحة. فهو يستعمل في قصصه لغة مبتذلة وتراكيب فاحشة وجملاً محفوظة ووقائع واحدة يرددها في كل قصة. ويكررها في كل مناسبة. وكانت شهوة السهر والسمر قد بلغت مداها في ذلك الحين لتغلب البطالة علي أهل القاهرة واعتماد الناس في جمع الثروة علي الحيلة والشعوذة والسحر والقدر. فتكدسوا في السوامر حول القصاص وقد تجمع لهؤلاء من خلال القرون ذخيرة وفيرة من الأساطير والأسمار.
فصبوا يدونونها كما دونت تلك السير من قبل. فكان مما دون في تلك الحقبة الغريبة كتابنا وموضوع محاضرتنا (الف ليلة وليلة).
(الف ليلة وليلة) ياسادة كتاب شعبي تمثلت فيه طوائف الشعب وطبقاته، وتراءت من خلاله ميوله ونزعاته، وتكلمت فيه اساليبه ولهجاته، فهو كالشعب وكل شيء للشعب، قد لقي من جفوة الخاصة وترفع العلية أذي طويلاً، أغفله الادب فلم يتحدث عنه، واحتقره الأدباء فلم يبحثوا فيه، وراه (محمد بن ا سحق المعروف بانن النديم) فقال انه غث بارد، لانه نظر اليه نظرة الي الأدب الارستقرارطي الذي يصور ترف الخيال وجمال الصناعة. فلما حقق العصر الحديث تغلب الديمقراطية وسيادة الشعوب، واستتبع ذلك عناية أصحاب المذهب الإبداعي (الرومانتيكيين) في الغرب بحياة السوقة والدهماء عنايتهم بحياة الملوك والنبلاء وهب رواد الاستعمار وعشاق الآثار ينقبون عن »فولكلورد« الشرق أخذ أدباؤنا بحكم التقليد والعدوي- يعطفون علي أدب السواد، فدونوا اللغة العامية وجمعوا الأغاني الشعبية، ونظراً بعض النظر في فن القصص، وسمعوا في .
رجفه من الدهش -الي قول الاوروبيين: ان في أدبنا الموروث كنز دفين- من هذا النوع له في أدبهم اثر قوي وشأن نابه. ولكنهم لم يخلدوا بدياً الي هذا القول بثقة. واستكثروا علي هذا الكتاب الخرافي السوقي ان يذكر في الكتب ويوضع في المكاتب وينبه الناس إلي فضله، ويهنأ العرب بانتاجه حتي رأينا بعيوننا انه نقل منذ أوائل القرن الثامن عشر الي كل لغة. وحل الموقع الاول من كل أدب، وظفر بإعجاب النوابغ من كل أمة. حتي قال (فولتير) انه لم يزاول فن القصص إلا بعد ان قرأ ألف ليلة وليلة اربع عشرة من مرة، وتمني القصصي الفرنسي (استندال) ان يمحو الله من ذاكرته (ألف ليلة وليلة) حتي يعيد قراءته فيستعيد لذته.
ثم رأينا أن أقلام المستشرقين أخذت تتجادل منذ أوائل القرن التاسع عشر في أصله، وتكشف عن مناحي جماله وفضله، وان دوائر المعارف الكبري سجلته في حقولها، وخصته بالطريف الممتع من فصولها. وان الاستاذ (فكتور شوفان) أفراد له في كتابه (تاريخ المؤلفات العربية) جزءًين سرد فيهما مخطوطاته ومطبوعاته وترجماته، وجزءين آخرين خلص فيهما طائفة كبيرة من حكاياته، وان الكتاب الروائيين قد استغلوه للسينما والمسرح فاستخرجوا للأول رواية (لص بغداد) وللثاني (قسمت) او (القضاء والقدر)، وان رجال التربية والتعليم في فرنسا والمانيا وانكلترا- قد اقبسوا منه ادباً للإطفال فاختصروه وصوروه، ولقيت انا منذ عامين في القاهرة مستشرقا اسبانياً وآخر أمريكياً قدر أرسلت الأول جامعته. والثاني جمعيته، لينقبا في مدن الشرق عن مخطوطات (الف ليلة وليلة).
حينئذ أخذت خاصتنا تقرؤه وتسمعه، ومطابعنا الراقية تصححه وتطبعه وأدباؤنا المترفعون يشيرون إليه في تاريخ الأدب. ولكنهم الي اليوم لم يدرسوه دراسة علمية تكشف عن لبابه، وتستقطر النطف العذاب من عيابه، وهو علي الرغم من جميع مافيه، قد سجل علي توالي القرون أطوار اجتماعنا، وصور بالألوان الزاهية مختلف أختلافا وطباعنا، ونشر في الشرق والغرب أنوار حضارتنا وازدهار ثقافتنا وجمال تقليدنا، وأتم نقص التاريخ الدي تجاهل الشعب، والادب الذي احتقر العامة. فكان منه للتعاقد الاجتماعي والمؤرخ الفليسوف والأديب الباحث والكاتب القصصي - منهل ثر الينابيع، صافي المورد. وهو - فضلا عن ذلك- كان للشعب العربي في زمن انحلاله، وضياع استقلاله، وصعوبة اتصاله- قبس يبعث الحرارة في النفوس الخامدة، وذكري تلوع القلوب أسي علي المجد الذاهب، وصلة ثقافية تجمع المنازع المتفرقة علي الوحدة.
يكاد يكون (الف ليلة وليلة) علماً ثانياً علي بغداد، بل ربما كان ادل عليها اليوم في نظر الشعوب الحديثة من شأنها الرفيع في الحضرة، ومكانها البارز في التاريخ: ذلك لان آثارها المادية قد ألح عليها طغيان الدهر وفيضان النهر حتي محواها. اما هي في هذا لكتاب فلا يزال سناها باهياً لم يحجب، وصداها داوياً لم ينقطع، فهو للحضارة العربية في (بغداد).
متحف زاخر بالأعاجيب، دونه ماللحضارة الفرعونية في مصر من معابد ومقابر وكنوز، لانه يسير في البلاد وهي ثابتة، ويتحدث الي جميع الشعوب وهي صامتة، حتي أصبح لفظ (بغداد) في جميع اللغات مرادفا للعمران الزاهر، والترف العجيب- واسم الرشيد رمزا للعدل الشامل والزمن الخصيب. ذكر احد كتاب الانجليز فترة من الزمن الرخي فقال: كان ذلك في العصر الذهبي اذ كان يحكم الخليفة العادل هارون الرشيد.
ذلك بعض فضل الكتاب علي (بغداد). وقد ذكرت من قبل انه لم يؤلف علي هذه الصورة فيها ولم يؤلفه احد من بنيها، وانما جمع في مجالس القصص في القاهرة، ودون علي هذا الشكل في القاهرة وطبع أول طبعة كاملة في مطبعة الحكومة بالقاهرة. ثم كان حظ القاهرة من كتاب (الف ليلة وليلة) ان صورها للناس مثابة للاحتيال والشطارة والشعوذة والجهل بينما يصور (بغداد) مهبطا للفضل، وموطنا للنبل، ومعدنا للكرم وعشا للحب، ومظهرا للترف حتي كان من جراء ذلك ان أهل (بغداد) لايزالون يقولون (عياق مصر وحيال ممصر) ونحن مازلنا نقول في القاهرة: تبغدد فلان اذا اظهر البغددة. وفي كلمة مشتقة من (بغداد) تدل علي السرف والترف والبطر والنبل.
وسبب اختلاف حظ البلدين من الكتاب ان القصاص المصري اذا تحدث في مصر- وهو منها وفيها- تحدث عما يري، وعبر عما يسمع وقد علمنا في أي عهد من عهود الضعف والانحلال ظهر هذا الكتاب بمصر. اما اذا تكلم عن بغداد فإنما يتأثر بعوامل أربعة: يتأثر بما وضع من الأقاصيص الجميلة في بغداد- ويتأثر بما ملأ الآذان وشغل الأذهان عن عظمة بغداد وأبهة الخلافة- ويتأثر بما ركب الله في طباع الناس من تقديس الماضي، وتعظيم البعيد- ويتأثر بجهله أحداث التاريخ وتطور الأمم، فيأبي وهو في القرن العاشر من الهجرة أن يعترف بموت (الرشيد)، ومصرع (بغداد) ونكبة المجد الأثيل.
أما بعد فإني أحاول الآن ياسادتي أن أكشف عن حقيقة (ألف ليلة وليلة) بمقدار ما تهيأت لي المراجع في (بغداد)، بعد ان توافرت علي قراءته ودراسته في مختلف الطبعات، ووقفت علي ما نشر عنه من الابحاث في بعض اللغات. وما أريد بالطبع أن أدفع السأم في نفوسكم بذكر مالا يحتمله المقام من التحليل المفصل، وانما اجتزيء بذكر مالا يسع الرجل المثقف جهله من امر هذا الكتاب.
وهنا يدركنا المساء كما يدرك شهرزاد الصباح، فنرجيء البقية الي الأسبوع المقبل اذا تفضلتم بالسماح.

.../...





* اخبار الادب المصرية
dar.akhbarelyom
 
أعلى