محمد عبد الرحمن يونس - الحمـَّامات فى ألف ليلة وليلة

د. محمد عبد الرحمن يونس
الحمـَّامات فى ألف ليلة وليلة

يعتبر الحمّام من أهم الفضاءات المعمارية فى المدينة العربية الإسلامية، كونه يؤدى دورًا وظيفيا فى خدمة المسلم، من حيث نظافته وطهارته، تمهيدًا لأداء واجب دينى مهم يأخذ طابع القداسة، وهو فرض الصلاة الذى فُرض على كل مسلم ومسلمة فى المدينة الإسلامية. وقد كثرت الحمّامات "فى المدينة الإسلامية كثرة واضحة، ونظمت سلطات المدينة إنشاءها وما يتصل بذلك من تزويدها بمصادر الماء وقنوات الصرف"(1).

ويمكن عد الحمَّام مظهرًا حضاريا من مظاهر الحياة فى المدينة الإسلامية، فالقرآن الكريم والسنة النبوية يحضّان على ضرورة النظافة الشخصية، والاهتمام بالوضوء والاستحمام واستعمال السواك، وتقرر السنة النبوية أن على المسلم أن يستحم مرة على الأقل فى الأسبوع، وبخاصة فى يوم الجمعة. وقد أوصى الرسول الكريم محمد | المسلمين بالاستحمام فى مناسبات معينة: بعد الجنابة والجماع وفى يوم الجمعة، وعند الحجامة، وبعد غسل الميت. ونظرًا لأهمية الحمّامات، فقد حث رجال السلطة فى المدينة الإسلامية على بنائها. وكان بعض الحمّامات فى المدينة الإسلامية لا يبنى إلا بإذن من والى المدينة، ففى مدينة البصرة كان يتعين على من يبنى حمّامًا أن يأخذ إذنًا رسمياً من الوالى، حتى يستطيع البناء(2).

وقد ارتأى المعمار الإسلامى أن تبنى الحمّامات مجاورة للمساجد، فعلى سبيل المثال: كانت أكثر حمّامات مدينة البصرة العراقية قائمة بجوار مساجدها. وعلى مستوى التشكيل المعمارى الهندسى، فقد عمد المعمار الإسلامى إلى إضفاء طابع الأبهة والفخامة على الحمّامات، إذ أُنشئت "لهذه المرافق واجهات ضخمة وزخارف فخمة، واستخدمت فيها أحدث أساليب الإنشاء وأدق الحيل الفنية المعروفة"(3). إلا أنه من الملاحظ أن الأساليب المعمارية فى إنشاء الحمّامات الإسلامية ليست إسلامية صرفًا، فهذه الحمّامات مثلها مثل المنشآت العمرانية الإسلامية الأخرى، كالقصور والمنازل الكثيرة وقباب المساجد، متأثرة بالأساليب المعمارية للحضارات التى سبقت الحضارة الإسلامية، وتزامنت معها فى آن. فالحمّام الإسلامى وإن كان مؤسسة اجتماعية صحية إسلامية بالدرجة الأولى، إلا أنه "من حيث البناء والتقليد متأثر بالحمّام الرومانى السابق له".

ولقد حرص المعماريون الإسلاميون على أن تكون الحمّامات فضاء جماليا تستريح إليه نفس من يدخله، إذ جعلوها كثيرة الأضواء، ومرتفعة السقوف، عذبة المياه، طيبة الرائحة. لأن أبخرة الحمّامات رديئة وكثيرة.

ومن مهمة هذه السقوف المرتفعة أن تعين على تخفيف حر أبخرتها. وقد ذكر أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير (ت614هـ/1217م)، فى رحلته المعروفة برحلة ابن جبير، أن حمّامات بغداد كانت "مطلية بالقار مسطحة به، فيخيل للناظر أنه رخام أسود صقيل، وحمّامات هذه الجهات أكثرها على هذه الصفة لكثرة القار عندهم، لأن شأنه عجيب، يجلب من عين بين البصرة والكوفة".

وعلى مستوى التخطيط المعمارى الداخلى للحمّامات فى المدينة الإسلامية، فقد كان الحمّام، وبشكل عام، يتألف من ثلاث حجرات: باردة ودافئة وساخنة. فالباردة تطل على الفناء الخارجى، والدافئة تتوسط بين الباردة والساخنة، وماؤها أقل حرارة من الساخنة، أما الساخنة فهى التى يتم الاستحمام بها، وتعلوها قبة قليلة الارتفاع مثقوبة بعدة ثقوب، يكسوها زجاج ملون، من مهمته أن يضفى على الحجرة جوّاً جمالياَ مشعّاً، لأن أشعة الشمس تنفذ منه، وتشع فى الحجرة عاكسة ألوان الزجاج المختلفة. وكان الماء الساخن يجرى من القدور الساخنة إلى أحواض المياه الموجودة فى الحجرة. وتحتوى الحجرة الدافئة فى بعض الحمّامات على حوضين مائيين، أما الساخنة ففيها أربعة أحواض وجرن، ومغطس مفروش بالرخام.

لقد كانت الحمّامات فى المدينة الإسلامية خاصة وعامة، وكانت الخاصة مقصورة على أفراد السلطة الأثرياء جدّاً، إذ من غير المعقول أن يخرج هؤلاء إلى حمّامات العامة كلما احتاجوا إلى الاستحمام، نظرًا لمكانتهم السلطوية العالية. وقد اعتاد خاصة الناس، من أفراد السلطة السياسية، وبعض التجار الأثرياء جدّاً، على بناء هذه الحمّامات داخل قصورهم. أما العامة فإنهم لم يألفوا الاستحمام فى منازلهم على الرغم من كبر بعضها.
ويذكر الفقيه ابن الحاج الفاسى (أبو عبد الله محمد العبدرى، 737هـ/1336م) أن "الواحد يشترى الدار أو يبنيها بنحو الألف. ولا يعمل بها موضعًا للوضوء أو للغسل".

وتشير الدراسات إلى أن سلطات المدن الإسلامية أشادت الحمّامات العامة، نظرًا لوظيفتها الدينية من جهة، ونظرًا لاستحالة أن يحتوى كل بيت من البيوت العامة على حمام خاص به، لأن الكثير من هذه المدن كانت تقع فى مناطق أقرب إلى الجفاف الجغرافى ولقد درت هذه الحمّامات العامة على مالكيها أرباحًا كثيرة، نظرًا لكثرة مرتاديها. وها هو أحد أصحاب الحمّامات فى مدينة البصرة يصرح بمقدار دخله من حمامه قائلاً: "إنى أغتل من حمامى هذا فى كل يوم ألف درهم وطعامًا كثيرًا". وقد كثرت الحمّامات العامة فى المدينة الإسلامية، وعُرف عن بعض هذه الحمّامات أنها كانت طائفية. فعلى سبيل المثال شهد العصر الفاطمى (297 ـ 567هـ/909 ـ 1171م) حمّامات خاصة بالمسلمين وأخرى بالطائفة اليهودية، وثالثة خاصة بالنصارى.

وتشير الإحصائيات فى الأدبيات التاريخية إلى أن المدينة الإسلامية كانت غاصة بالحمّامات العامة، وتثبت أرقامًا لا يستغرب أن يكون فيها كثير من المبالغة. فيذكر ابن خلدون(4) (ت808هـ/1406م) نقلاً عن الخطيب البغدادى (ت463هـ/1071م)، أن الحمّامات العامة بلغ عددها فى مدينة بغداد، وتحديدًا فى عهد المأمون ابن هارون الرشيد، خمسة وستين ألف حمام. ويذكر أحمد بن يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح اليعقوبى (ت283هـ/897م)، أن الجانب الشرقى فى بغداد وحده، كان به فى القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادى، خمسة آلاف حمام. وجاء فى تاريخ بغداد للحافظ أبى بكر أحمد بن على الخطيب البغدادى أنه كان بمدينة بغداد فى القرن الرابع الهجرى عشرة آلاف حمام. ويذكر تقى الدين أحمد بن على المقريزى أن أقل عدد للحمّامات فى بغداد كان فى أيام الخليفة العباسى الناصر لدين الله (575 ـ 622هـ/1179 ـ 1225م)، إذ بلغ نحو الألفى حمام. وقد حدد على بن الحسن بن عساكر (ت 570هـ/1175م) فى أيامه ـ فى القرن السادس الهجرى ـ عدد حمّامات دمشق بسبعة وخمسين حمّامًا. ويذكر جمال الدين بن حسن بن عبد الهادى المعروف بابن المبرد (ت 909هـ/1503م)، أن عدد حمّامات دمشق وأحيائها التى كانت قائمة فى عهده تقدر بحدود المائتى حمام، وقد روى المقريزى عن ابن عبد الظاهر أن حمّامات مصر (الفسطاط، والعسكر، وأطلال القطائع) قد بلغت فى سنة 685هـ/1286م نحو ثمانين حمامًا، فى حين أنها بلغت فى عهده (أى عهد المقريزى، ت845هـ/1441م) ألفًا ومائة وسبعين حمامًا.

إن هذه الأرقام مؤشر واضح على أهمية الحمّامات العامة فى المدينة العربية الإسلامية، باعتبارها تؤدى خدمات كثيرة لعدد كثير من أفراد المدينة الإسلامية الفقراء الذين لا يستطيعون بناء حمّامات خاصة فى دورهم.

هذا وقد سجلت بعض الأدبيات الإسلامية ما قيل فى الحمّامات من أوصاف وأشعار، ونقتطف منها ما يأتي: "قيل للفضل الرقاشى صف الحمّام. فقال: نعم البيت الحمّام، يذهب القشاف، ويعقب النظافة، ويهضم الطعام، ويجلب المنام، وينفى الغضب، ويقضى الأرب". ووصف أحدهم حمامًا خاصًا يمتلكه أحد أولاد الوزراء بمدينة بغداد، قائلاً: "فطاف بى (أى سائس الحمّام) وأبصرت مياهه وشبابيكه وأنابيبه المتخذ بعضها من فضة مطلية بالذهب وغير مطلية وبعضها على هيئة طائر إذا خرج منها الماء صوّت بأصوات طيبة، ومنها أحواض رخام بديعة الصنعة والمياه تخرج من سائر الأنابيب إلى الأحواض ومن الأحواض إلى بركة حسنة الإتقان، ثم منها إلى البستان، ثم أرانى نحو عشر خلوات، كل خلوة "منها" صنعتها أحسن من صنعة أختها".

بعد هذا المدخل ننتقل إلى أهم المقاطع السردية فى حكايات ألف ليلة وليلة التى ذكرت الحمّام، وسجّلت بعضًا من أخباره، وأخبار جواريه الحسان، والشخوص الداخلين إليه.

يبدو الحمّام فى ألف ليلة وليلة جنة مصغرة، وفضاء مليئًا بالمتعة، ولذا كان قبلة لشخوص ألف ليلة وليلة: الملوك والوزراء والأمراء الأثرياء والتجار وكبار القوم. وهو فضاء مهم يكاد يضاهى فضاء القصر، بل يفوقه فى بعض الأحيان. ولأنه فضاء من فضاءات المتعة فإنه يجب أن يكون على درجة عالية من الزخرفة الجمالية. وهذه هى حال حمام التاجر الثرى (أبو محمد الكسلان). إذ يذكر الراوى أن ضيوف أبى محمد الكسلان دخلوا حمامه، "فرأوا حيطانه ورخامه من الغرائب وهو مزركش بالذهب والفضة وماؤه ممزوج بماء الورد". ولأن حمّامات المدينة الإسلامية عبر تاريخها كانت مزركشة، ومزينة بالصور، فقد امتنع بعض المسلمين المتشددين، فى بداية الأمر "عن دخول الحمّامات التى قامت فى مداخلها التماثيل وزينت جدرانها بالصور التى تنم عن الكبرياء والجبروت".

إن الحمّام فى ألف ليلة وليلة فضاء للانتعاش الجسدى، والترويح عن النفس، وهو أكثر الفضاءات التصاقًا بالحياة اليومية "وخاصة بأوجه المتعة فيها. إذ يتوقف عدد غير قليل من الحكايات عند الحمّام (العام) الذى يؤكد رواة الحكايات وشخصياتها أنه "زينة المدينة" وشرط أساسى من شروط اكتمالها". وتتعدد وظائفه فى ألف ليلة وليلة، ولعل أهم وظائفه هى وظيفته التزيينية التجميلية للشخوص: الإناث والذكور، تمهيدًا لليلة الطقس الجنسى الأولى، وبخاصة عند النساء. فالعروس قبل أن تُزف إلى رجلها يجب أن تدخل الحمّام. وها هى السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد، عندما تزف إحدى جواريها إلى عشيقها، تأمر بدخول هذه الجارية الحمّام ـ لا يذكر الراوى اسمًا لهذه الجارية ـ قبل أن يدخل عليها الزوج العشيق. يقول الراوي(5): "فأرسلت السيدة زبيدة إلى القاضى والشهود وكتبوا كتابى عليها "على الجارية"، وبعد ذلك عملوا الحلويات والأطعمة الفاخرة ومكثوا على هذه الحال عشرة أيام أخرى، وبعد العشرين يومًا أدخلوا الجارية إلى الحمّام لأجل الدخول بها".

وللحمام قدرة سحرية على جعل المرأة المستحمة فيه جميلة مشعة، ومثيرة جنسيا. ومن هنا نفهم لماذا كان رجال السلطة فى ألف ليلة وليلة يلجئون إلى إدخال الجارية الحمّام وتزيينها، قبل الصعود بها إلى قصر السلطان، وإهدائها له تقربًا منه، وكسبًا لمودته، واتقاء لشره. يقول أحد النخاسين إلى أحد وزراء ألف ليلة وليلة: "خلها "أى الجارية" عندك فى القصر عشرة أيام حتى تستريح فيزداد جمالها. ثم أدخلها الحمّام وغسلها غسيلاً جيدًا وألبسها أحسن الثياب واطلع بها إلى السلطان فيكون لك فى ذلك الحظ الأوفر، فتأمل الوزير كلام النخاس فوجده صوابًا".

لقد كان دخول الجوارى الحمّام واجبًا مفروضًا عليهن، وذلك قبل أن يدخلن مقاصير ملوك ألف ليلة وليلة وأمرائها، ليشعلن طقوس الجنس والمسرات تقديسًا وولاء لهؤلاء الملوك والأمراء. وها هو أحد ملوك ألف ليلة وليلة يأمر خدمه وجواريه "أن يقوموا بخدمتها "أى خدمة الجارية المُحتال عليها والمجلوبة إلى قصره" ويدخلوها الحمّام ويجهزوا لها الحَلْى والحلل(...)، ثم ألبسوها حللاً من ملابس الملوك ووضعوا فى عنقها عقدًا من الجوهر، وساروا بها إلى الحمّام، وخدموها ثم أخرجوها من الحمّام كأنها بدر التمام. ولما وصلت إلى الملك سلمت عليه وقبلت الأرض بين يديه، فحصل للملك بها سرور عظيم". وها هو أحد تجار الرقيق، وبعد أن يشترى نزهة الزمان يدخلها الحمّام، ويحضر لها إحدى البلانات لكى تقوم بتجميلها، أملاً فى أن يبيعها بسعر باهظ إلى أحد الملوك أو الأثرياء. يقول الراوى عن هذا النخاس: "ثم أدخلها الحمّام "أى أدخل نزهة الزمان" وأتى لها ببلانة، وقال لها: إذا فرغت من غسل رأسها فألبسيها ثيابها(...) فلما فرغت البلانة من تنظيفها ألبستها ثيابها(...) ثم أمرها التاجر أن تتزين بأحسن الزينة. ومشت ومشى التاجر قدامها، فلما عاينها الناس بهتوا فى حسنها، وقالوا تبارك الله أحسن الخالقين، هنيئًا لمن كانت هذه عنده".

وعبر تاريخها الطويل شهدت الحمّامات فى المدن الإسلامية تطورًا حولها إلى مراكز تجميل متخصصة، فبعد أن تخلع المرأة ملابسها فى المقصورة الملحقة بالحمّام، تمضى إلى غرفة البخار، ثم تأتى بعدها المدلكة أو البلانة لتنظيفها وتدليكها. إذ تقوم هذه البلانة بإزالة الشعر عن مختلف الأعضاء، مستعملة بذلك مرهمًا فعالاً مكونًا من الزرنيخ الأصفر والشمع، وأحيانًا تكتفى بالسكر المنعقد بالليمون. فالمرأة فى المدن العربية الإسلامية ـ ومنها بطبيعة الحال كثير من مدن ألف ليلة وليلة ـ كان عليها أن تتعرى أمام البلانة، لكى تدلكها وتزيل عنها الشعر. ومن هنا ليس غريبًا أن يندفع بعض الفقهاء فى المدينة الإسلامية، للنفور من الحمّام، واعتباره بؤرة للفساد. فجلال الدين عبد الرحمن السيوطى (ت911هـ/1505م) قال إنه مكروه للنساء. أما الفقيه ابن الحاج فقد نصح معاصريه من العلماء بعدم السماح لنسائهم بدخول الحمّام "لما اشتمل عليه هذا الزمان من المفاسد والعوائد الرديئة". ويروى عن رسول الله | أنه قال(6): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخلن الحمّام إلا بمئزر. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخلن حليلته الحمّام. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يشرب عليها الخمر، أو يدار عليها الخمر". أما الشاعر الفضل الرقاشى، بعد أن كان قد مدح الحمّام، كما أشير إلى ذلك سابقًا، عاد وعدّه هاتكًا للأسرار، وحارقًا كالنار، حين ذمه قائلاً: "بئس البيت الحمّام، يهتك الأستار، ويؤلّف الأقذار، ويحرق كالنار".

إذا كان العرف الاجتماعى فى المدينة الإسلامية ألف دخول النساء الحمّام قبل أن يدخل أزواجهن عليهن، فإنه ألف أيضًا أن يدخل الرجال الحمّام ليستحموا ويتزينوا استعدادًا لطقوس الجنس. وفى حكايات ألف ليلة وليلة كانت المرأة السلطوية تطلب من خدمها أن يأخذوا عشيقها إلى الحمّام قبل دخوله عليها، ليتهيأ على أكمل وجه جمالى، استعدادًا لأن تشعل له بخور جسدها ومجامره. فزمرد الجارية، وبعد أن تتوجها المصادفات السحرية ملكة على إحدى المدن، وبعد أن تلتقى بعشيقها على شار بعد سنوات طويلة، تأمر بأن يدخلوه الحمّام، ويزينوه، ويلبسوه أفخر الملابس. يقول الراوي: "ثم أمرت الحاجب أن يمضى به إلى الحمّام ويلبسه بدلة حسنة من ثياب الملوك ويركبه فرسًا(...) ويمضى به بعد ذلك إلى القصر".

وقد لعب المفهوم الإسلامى دورًا أساسيا فى ضرورة التهيئة التى تقرب بين المحبين، فعلى الزوجة المطيعة والمخلصة، فى المفهوم الإسلامى، أن تُرضى طموح زوجها الجنسى، وأن تهيئ له نفسها وجسدها أحسن تهيئة، وكان على الرجل أيضًا أن يستعد لمثل هذه التهيئة أحسن استعداد وبتهيئة مماثلة، حتى يجد لديها قبولاً واستعدادًا نفسيا وفيزيولوجيا، وبالتالى يجعلها تحبه وتقتنع به بعلاً ولا تخونه فى فراشه. يقول أحد الفقهاء: "... نعم إن التهيئة، مما يزيد فى عفة النساء، ولقد ترك النساء العفة بترك أزواجهن التهيئة. ثم قال: أيسرّك أن تراها على ما تراك عليه إذا كنت على غير تهيئة؟ قلت لا، قال: فهو ذلك، ثم قال من أخلاق الأنبياء (عليهم السلام): التنظيف والتطيب وحلق الشعر وكثرة الطروقة" وسُئِل رسول الله | ما زينة المرأة للأعمى فقال(7): "الطيب والخضاب فإنه من طيب النسمة".

وتشير حكاية "الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان" إلى أن حمّامات ألف ليلة وليلة ـ مثلها مثل حمّامات المدينة الإسلامية فى أوج ازدهارها ـ كانت فضاء تجميليا بالنسبة للرجال أيضًا. إذ يتم بها تجميل الرجال وتنظيفهم وإزالة الشعر عن أجسادهم. وهى بهذا تؤدى للرجال الوظيفة التى تؤديها النساء. فالوقاد فى الحكاية يأخذ الأمير ضوء المكان ـ الذى كان تائهًا وغريبًا فى مدينة القدس ـ إلى الحمّام ليزيل عنه هيئته الرثة، وينظفه. يقول الراوي: "فمضى إلى السوق "أى الوقاد" وأتى له بمكارى وأركبه حمارًا(...) ثم دخل معه الحمّام وأجلسه فى داخله ومضى إلى السوق واشترى له سدرًا ودُقاقًا، وقال لضوء المكان يا سيدى بسم الله أغسل لك جسدك. وأخذ الوقاد يحك لضوء المكان رجليه وشرع يغسل له جسده بالسدر والدقاق، وإذا ببلان قد أرسله معلم الحمّام إلى ضوء المكان فوجد الوقاد يحك رجليه(...) فشرع البلان يحلق رأس ضوء المكان، ثم اغتسل هو والوقاد".

إذا كان من مهمة البلان فى الحمّامات الإسلامية، فى ألف ليلة وليلة، تنظيف المستحم وإزالة الشعر عن جسمه، فإن على المستحم أن يكون شبه عارٍ أو عاريا أمام هذا البلان، حتى يستطيع أن يؤدى وظيفته. ومن هنا فقد عاب الفقيه ابن الحاج على رجال عصره "كشف عاناتهم للبلان فى الحمّام لإزالة الشعر منها". ويبدو أنه كان لكل حمام فى المدينة الإسلامية مدلك خبير فى تدليك عضلات الجسم. ومع زيادة إقبال الرجال على الحمّامات أُلحق بها "حلاق أو حجام، خبير فى حلاقة الشعر، بواسطة أمواس مصقولة لامعة مضمخة بالطيب، وكان يبذل قصارى جهده للعناية باللحى فعليه غسلها وتقليمها وصبغها وتطييبها".

لقد لعب الحمّام فى ليالى ألف ليلة وليلة دورًا محرضًا ومثيرًا لشهوة الرجال والنساء، فهو فضاء حامل لأسباب الإثارة، ففيه الماء الساخن المنعش، وفيه روائح العطور، وفيه المدلكون الذين يبعثون النشاط والحيوية فى الجسم. وتشير الليالى إلى أن النساء الخارجات من الحمّام كن يظهرن ألقات شهيات مثيرات جنسيا للرجال الهائجين الذين لا يستطيعون ضبط شهواتهم المتفجرة، فيندفعون طائعين وراء إغواء أجساد هاته النساء. ففى حكاية "على نور الدين وأنيس الجليس"، تخرج جارية الوزير الفضل بن خاقان من الحمّام متألقة، وقد "لبست الثياب الفاخرة فتزايد حسنها وجمالها". وعندما تسمع صوت ابن سيدها على نور الدين الذى حذروها منه تخرج من مقصورتها لتشاهده، وعندما يشاهد جمالها الأخاذ يهتاج ويندفع معانقًا لها. يقول الراوي: "ثم إنها نهضت على قدميها وهى بأثر الحمّام وتقدمت جهة باب المقصورة ونظرت إلى على نور الدين فإذا هو صبى كالبدر فى تمامه(...)، وإذا به تقدم من الباب، وفتحه ودخل على الجارية، وقال: أنت التى اشتراك لى أبى، فقالت له: نعم. فعند ذلك تقدم الصبى إليها وكان فى حالة سكر وأخذ رجليها وجعلها فى وسطه وهى شبكت يدها فى عنقه واستقبلته بتقبيل وشهيق وغنج، ومص لسانها ومصت لسانه، فأزال بكارتها".

وإذا كان الراوى يقرن حالة الاغتصاب بفعل السكر، فإنه يمكن القول: إن أهم دوافع الاغتصاب، فى بنيته العميقة، عائدة إلى شكل الجارية المثير جنسيا بعد خروجها من الحمّام، وقد زادها الحمّام بهاء وألقًا. وتتكرر حالة اغتصاب الجارية المثيرة الخارجة من الحمّام فى حكاية "غانم بن أيوب وقوت القلوب". إذ يشاهد العبد بخيت ابنة سيده الصبية الجميلة ـ لا يذكر الراوى اسمًا لها ـ وقد خرجت معطرة من الحمّام، وكأنها القمر فى ليلة أربعة عشر، ـ بتعبير راوى الحكاية ـ فينفلت وحش جوعه الجنسى، وينقضّ عليها، ويغتصبها.

وليس غريبًا أن يصف الراوى وجه الصبية الخارجة من الحمّام، بأنه كالقمر فى ليلة أربعة عشر، هذا إذا عرفنا مدى مهارة مزينة الحمّام، وخبرتها العميقة فى فن تجميل وجوه زبونات الحمّام، بعد انتهائهن من الاستحمام. فقد شهدت حمّامات المدينة الإسلامية مزينات ماهرات فى تجميل وجوه النساء، إذ كان وجه المرأة المستحمة يدلك بعناية، ثم يزال الشعر المتناثر عليه، ثم تبدأ التزيين بتبييض الأسنان بقشر البيض أو مسحوق الكربون، ثم تقوم المرأة بمضغ قشر الجوز أو الثامول لاحتوائه على رائحة طيبة ولقدرته على شد الشفاه والحنك بفعل طبيعته القابضة، وقدرته على أن يضفى على اللثة لونًا قرمزياً لطيفًا. ثم تنثر المزينة على وجه المرأة مسحوق الأرز الممزوج ببياض البيض، ثم تقوم بنزعه، وبعد ذلك تضع مسحوقًا قرمزياً لإضفاء لون زهرى على الوجنتين، ثم تزجّج المزينة حاجبى المرأة بمسحوق من البخور والقار والزرنيخ الأصفر.

وأخيرًا يأتى دور العينين، إذ تُكحلان بالكحل الأصفهانى. وبعد هذه العملية التجميلية المعقدة تضفى المزينة آخر اللمسات الجمالية على وجه المرأة، بأن تستخدم مسحوقًا معطرًا، وتشكل به نقاطًا جميلة، أو رسومًا خاصة على الجفون أو على جانب الأنف، وأحيانًا فى وسطه، وعادة ما ينثر على الوجنتين. وللقارئ أن يتساءل بعد عملية تجميلية كهذه، أو مقاربة لها، كيف سيستطيع رجال مدن ألف ليلة وليلة الإسلامية وغير الإسلامية المهتاجون دائمًا، أن يضبطوا هيجاناتهم الغريزية؟

ولا يهتاج رجال ألف ليلة وليلة حين رؤيتهم للجوارى المثيرات الخارجات من الحمّام فحسب، بل يهتاجون وهم فى فضاء الحمّام الداخلى، وبعد أن يستحموا، وبعد أن تكون النساء الجميلات قد غادرن هذا الفضاء، نظرًا لانتهاء دورهن فى الاستحمام. ففى حكاية "الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان"، يدخل أحد الحشاشين إلى حمام نظيف، ويستحم بالماء الساخن، ثم يخرج إلى الحوض البارد، وبعد أن يكون جسده قد انتعش بأجواء الحمّام، يأخذ قطعة حشيش، وينام مستمتعًا بنظافة جسده. عندها يبدأ نشاط عقله الجامح، وتخيلاته صوب الثراء وامتلاك الجوارى. ويغفو على وقع هذا النشاط، مستحضرًا العبيد وخدم الحمّام، والمماليك، والثياب الجميلة وفوط الحرير، والبلان وهو يدلكه، والناس من حوله يخاطبونه مخاطبة الوزراء: "يا مولانا الصاحب"، ثم يخرجونه ويضعونه على فراش عظيم لا يصلح إلا للملوك، ويأتى إليه الغلمان ويكبسونه. وبفعل جو الحمّام السحرى المنعش رأى فى منامه صبية "فباسها، ووضعها بين فخذيه، وجلس منها مجلس الرجل من المرأة".

إن الحمّام فى تخطيطه البنائى يثير فى أذهان الداخلين إليه، رجالاً ونساءً، مزيدًا من التخيلات والأحلام اللذيذة، وبمجرد الدخول إليه "ينساب المرء فى رواقه المتجه إلى أسفل حيث توقظ الغرف الدافئة عالمًا كاملاً من الأحلام، فالاندفاع فى أروقته لهو الاندفاع نحو السخونة المتزايدة، ومن ثم الانعزال التدريجى عن العالم الخارجى بمساعدة انتشار البخار الساخن والبارد". ومن شأن البخار الساخن أن ينشط الدورة الدموية عند المستحم، وبالتالى ينشط الجانبين النفسى والفيزيولوجى عنده، فيجد نفسه مثارًا، ومهتاجًا، ومندفعًا لتفريغ طاقاته النشطة، عندها تندفع أحلامه ورغباته صوب المرأة المُشتهاة، سواء أكانت هذه المرأة واقعية أم تخيلية.

وإذا كان من طبيعة فضاء الحمّام الداخلى أنه عامل مساعد على تهييج النشاط الجنسى وإثارته عند الرجل والمرأة على حد سواء، فإن رجال المدينة العربية الإسلامية، وبخاصة رجال السلطة، عمدوا إلى إضفاء محفزات جديدة على هذا الفضاء، ليزداد قدرة على تعزيز النشاط الجنسى لدى الداخلين إليه. وتتجلى هذه المحفزات فى الصور العارية التى شُوهدت فى حمّامات رجال السلطة، ملوك وأمراء ووزراء، فقد "انتقل التصوير إلى الحمّامات فصوّروا داخلها وخارجها وكانت هذه الصور ترمى إلى إثارة الغرائز الجنسية".

وتذكر المصادر أن بعض خلوات حمّامات الطبقة الحاكمة فى المدينة الإسلامية كانت مليئة بالمثيرات الجنسية، من صور النساء والرجال العراة المنقوشة بإتقان جمالى على أرضية الخلوة. وينقل المقّرى التلمسانى وصفًا لإحدى هذه الخلوات الموجودة فى حمام أحد أولاد الوزراء بمدينة بغداد العباسية، كان قد وصفه سائس هذا الحمّام:
"ورأيت من العجائب فى هذه الخلوة أن حيطانها الأربعة مصقولة صقالاً لا فرق بينه وبين صقال المرآة، يرى الإنسان سائر بشرته فى أى حائط شاء منها، ورأيت أرضًا مصورة بفصوص حمر وصفر وخضر ومذهبة وكلها متخذة من بلور مصبوغ بعضه أصفر وبعضه أحمر(...) وتلك الصورة فى غاية الحسن والجمال، على هيئات مختلفة فى اللون وغيره، وهى بين فاعل ومفعول به، إذا نظر المرء إليها تحركت شهوته. وقال لى الخادم السائس: هذا صُنِع على هذه الصنعة لمخدومى، حتى إنه إذا نظر ما يفعل هؤلاء بعضهم من بعض من المجامعة والتقبيل ووضع أيدى بعضهم على أعجاز بعض تتحرك شهوته سريعًا، فيبادر إلى مجامعة من يحبه(...) وهذه الخلوة دون سائر الخلوات التى دخلت إليها "وهي" مخصوصة بهذا الفعل، إذا أراد "سيدي" الاجتماع فى الحمّام بمن يهواه من الجوارى الحسان والصور الجميلة والنساء الفائقات الحسن لم يجتمع به إلا فى هذه الخلوة، من أجل أن يرى كل محاسن الصور الجميلة مصورة على الحائط ومجسمة بين يديه، ويرى كل منهما صاحبه على هذه الصفة".

إن للحمام وظيفة إعلامية مهمة بالنسبة للنساء الجميلات الداخلات إليه، وللغرباء الذين يقصدونه، لأنه فضاء مُباح لاستعراض جمال المرأة أمام زميلاتها، والتباهى عليهن بهذا الجمال، فعندما كانت تدخل المرأة المتفوقة جماليا كان يشيع خبر جمالها فى أنحاء المدينة، فيعشقها الناس، وتُحاك الحكايات حولها، وترغب النساء المهمات فى المدينة فى مشاهدتها. وهذا ما حدث مع منار السنا زوجة الصائغ حسن البصرى التى تفوق نساء بغداد جمالاً، باعتبارها ابنة ملك جزائر واق الواق. فما إن تدخل هذه السيدة الحمّام، وتنزع ثيابها، حتى تتأملها نسوة الحمّام، وسرعان ما ينقلن أخبارها إلى بيوت بغداد. يقول الراوي: "وقامت وهيأت حوائج الحمّام التى يحتاجان إليها، وأخذتها "أى أم زوجها حسن البصري" وراحت إلى الحمّام فلما دخلت قلعت ثيابها فصارت النساء جميعًا ينظرن إليها ويسبحن الله عز وجل، ويتأملن فيما خلق من الصورة البهية، وصارت كل من جاءت من النساء على الحمّام تدخل وتتفرج عليها، وشاع فى البلد ذكرها وازدحمت النساء عليها وصار الحمّام لا ينشق من كثرة النساء اللواتى فيه".

ووفقًا لمنطق التجسس الذى يتحكم فى معظم العلاقات الإنسانية، فى مدن ألف ليلة وليلة بكل فضاءاتها، يصل خبر جمال منار السنا إلى قصر الخليفة هارون الرشيد بوساطة تحفة العوادة، جارية السيدة زبيدة. فما كان من السيدة زبيدة إلا أن أرسلت فى طلب هذه المرأة التحفة الجميلة. تصف الجارية تحفة العوادة منار السنا لسيدتها زبيدة قائلة: "يا سيدتى رأيت أعجوبة ما رأيت مثلها فى الرجال ولا فى النساء، وهى التى شغلتنى وأدهشت عقلى وحيرتنى حتى أننى ما غسلت رأسى! فقالت: ما هى يا تحفة؟ فقالت يا سيدتى رأيت جارية فى الحمّام(...) ما رأى أحد مثلها، لا قبلها ولا بعدها، وليس مثل صورتها فى الدنيا بأسرها". وعندما تحضر منار السنا إلى قصر الخليفة هارون الرشيد، لا تستطيع السيدة زبيدة، أمام هذه المرأة الجميلة، ضبط دهشتها وإعجابها الشديدين، فتقوم وتضم المرأة إلى صدرها تقديرًا لجمالها الأخاذ. مع ملاحظة أن نساء الخليفة والسلطة فى ألف ليلة وليلة قلّما يتنازلن عن مكانتهن السلطوية، ويحتضن المرأة القادمة إلى قصورهن، سواء أكانت جارية، أم وصيفة. غريبة، أم ضيفة عالية الشأن.

ويبدو أن السلطة السياسية فى مدن ألف ليلة وليلة كانت تبث الجواسيس فى الحمّامات، لينقلوا لها ما يجرى داخلها، وليبحثوا لها عن الأشخاص المطلوبين، من خلال علامات فارقة على أجسادهم. ففى حكاية "حاسب كريم الدين وملكة الحيات"(8)، يصاب الملك كرزدان بمرض الجذام الخطير، ويعجز أطباء المملكة جميعهم عن شفائه، فيستدعى المنجمين لاكتشاف سر مرضه. ويؤكد هؤلاء، من خلال كتب التنجيم، أن شفاءه يكون على يد شخص يدعى حاسب كريم الدين، ولا يمكن العثور عليه إلا فى فضاء الحمّام، وبعد أن يتعرى، لأن بطنه سوداء كما يؤكد المُنجمون. عندها يبث وزير الملك جواسيسه فى حمّامات المدينة جميعها ليكتشفوا الشخص المطلوب وهو فى حالة استحمام، ثم يأخذوه إلى قصر الملك. يقول الراوي: "واجتمع عمال الحمّام وكل من كان فيه على حاسب كريم الدين وتكاثروا عليه، ونزعوا عنه الثياب "محبة واحتفاء به" وأدخلوه الحمّام، فبمجرد ما دخل الحمّام وقعد بجانب الحائط وسكب على رأسه من الماء، أقبل عليه عشرون رجلاً وقالوا له: قم أيها الرجل من عندك، فأنت غريم السلطان".

وعلى مستوى البنية الحكائية فى ألف ليلة وليلة، فإن الحمّام يلعب دورًا وظائفيا ليكون أداة مساعدة على تنمية الوحدات السردية، ومن ثم ارتحالها إلى مدن أخرى تمهيدًا لبناء أحداث حكائية جديدة، كما فى حكاية "حسن الصائغ البصري"، فدخول منار السنا الحمّام فى هذه الحكاية كان سببًا لنمو الوحدات السردية، وانتقالها إلى قصر الخلافة ببغداد. وكان فيما بعد سببًا لانتقال منار السنا إلى بلادها جزائر واق الواق. ثم أدى هذا الدخول إلى ارتحال زوجها حسن البصرى إلى واق الواق للبحث عن زوجته، وبالتالى أدى هذا الارتحال إلى تشكيل وحدات حكائية جديدة، وأحداث تخيلية مفعمة بالسحر والغرابة، وحروب الجان والسحرة فيما بينهم، فى واق الواق، ومن هنا يمكن القول: إن على كل حكاية من حكايات الأدب الشعبى "أن تخلق جديدًا فى داخلها بالذات، لكى تستطيع شخصياتها أن تعيش"، فالدخول إلى الحمّام فى الحكاية السابقة، هو الذى شكل الوظائف الجديدة التى تقوم بها الفضاءات المكانية الجديدة فى واق الواق، وهو الذى شكل الأبطال الثانويين الجدد الذين ساعدوا حسنًا البصرى، وقدموا له كل الوسائل المساعدة للوصول إلى هذه الفضاءات، لأن الحكاية بكل فضاءاتها المكانية "لم تُصنع قط إلا من الوظائف. فكل شيء فيها يحمل دلالته على مستويات مختلفة".

ويكون الحمّام فى بعض حكايات ألف ليلة وليلة فضاءً صحياً يدخله الشخوص، احتفاءً بالشفاء من الأمراض الطويلة والمزمنة. فقد تعارفت المدن الإسلامية فى ألف ليلة وليلة، على أن تحتفى بشفاء أبنائها المرضى، من الملوك والأمراء والتجار، وبقية أفراد الطبقات الاجتماعية الأخرى، وذلك بأخذهم إلى الحمّام تعبيرًا عن فرحتها بشفائهم، وتفاؤلاً بهذا الشفاء. ففى حكاية "هارون الرشيد مع الصياد"، يقول أحد أبطال الحكاية لهارون الرشيد عن زوجته: "فلما مرضت مرضًا شديدًا فأحضرت لها الأطباء حتى حصلت لها العافية، فأردت أن أدخلها الحمّام".

إن للحمام فى ألف ليلة وليلة قدرة على تبديد الهموم والأحزان، فهو فضاء تدخله الشخوص ـ فى بعض الأحيان ـ لتنسى مصائبها، وتستعيد توازنها النفسى مع ذاتها، والاجتماعى مع مجتمعها وإلى الحمّام تدخل المرأة كئيبة ورثة، وتخرج منه مشرقة، وقد "ظهرت عليها آثار النعمة". وها هى قوت القلوب تُدخِل عشيقها غانم بن أيوب، وأمه، وأخته فتنة، أحد حمّامات بغداد. وعندما يخرجون يبدون وقد تبددت أحزانهم، و"رُدّت إليهم أرواحهم".

وفى حكايات ألف ليلة وليلة تقترح العجائز على العشّاق المفجوعين فى حبّهم، وتطلعاتهم الجنسية، بعد أن فقدوا عشيقاتهم، أن يستعيدوا توازنهم العاطفى بالذهاب إلى الحمّام. وها هى إحدى عجائز الليالى تطلب من على شار أن يدخل الحمّام، ويقوى عزيمته بعد أن خطف الشطار جاريته زمرد التى أرقته طويلاً، نظرًا لمحبته الشديدة لها. وهنا يصبح الحمّام محفزًا سحريا لهؤلاء الداخلين فيه، وقادرًا على إضفاء البهجة عليهم، ومدّهم بالقوة، والعزيمة الجديدة، التى تدفعهم للانتصار على فجائعهم.

ويصبح دخول الحمّام فى بعض الأحيان إيذانًا بانتهاء فترة العزاء والحزن على الأهل والأحباء الذين أخذهم هازم اللذات ومفرق الجماعات، بمفردات رواة ألف ليلة وليلة. ففى حكاية "تودّد الجارية"، يحزن أبو الحسن على وفاة والده التاجر البغدادى الثرى حزنًا شديدًا ـ لا يذكر الراوى اسمًا له ـ فيقيم العزاء فى بيته أيامًا وليالى طويلة، فيدخل عليه أصحابه ويأخذونه إلى الحمّام، ويقدمون له الطعام والشراب والجوارى الجميلات، وبذلك ينهى طقس الأحزان ليبدأ طقس المسرّات والملذّات.

ويتزامن دخول الحمّام فى بعض حكايات ألف ليلة وليلة مع طقوس الاحتفاء بلقاء الأحبة والأصدقاء والأقرباء الذين باعدتهم الشخصيات الشريرة. ففى حكاية "سيف الملوك وبديعة الجمال"، يلتقى ساعد ابن الوزير فارس مع صديقه الحميم سيف الملوك ابن الملك عاصم بعد غياب طويل، واحتفاءً برجوع فارس يأخذونه إلى الحمّام، ويلبسونه الثياب الفاخرة.

وفى الحمّام يسترخى التجار المنكوبون، بعد أن تكون الرياح الهوجاء قد مزّقت أشرعة مراكبهم، وأغرقت بضائعهم، فهو بالنسبة إليهم فضاء للأمل والرجاء ونسيان المصائب والخسائر المالية، وإعادة المسرّات. فالسندباد البحرى فى السفرة السابعة تقذفه الأنواء إلى مدينة عظيمة بعد أن تحطمت سفينته، فينتشله سكانها، ويأخذه شيخها إلى الحمّام. يقول السندباد: "فسقطت بينهم وأنا مثل الميت من شدة الجوع والسهر والخوف، فتلقانى من بين هؤلاء الجماعة رجل كبير السن وهو شيخ عظيم، ورحب بى ورمى على ثيابًا كثيرة جميلة، فسترت بها عورتى. ثم أخذنى وسار بى وأدخلنى الحمّام وجاء بالأشربة المنعشة والروائح الزكية".

إن الحمّام فضاء جمالى حرٌ لأنه يمنح الحرية لبعض النساء، فهو يسهم فى خروج المرأة من فضاء دار زوجها، ومن رتابته، ومن علاقاته المحكومة بمجموعة من القيم والضوابط العائلية، إلى فضاء الأسواق بحركتها التجارية، وصخبها الاجتماعى، وانفتاحها على شرائح اجتماعية عديدة، لأنه كان على النساء المتجهات إلى الحمّام فى المدينة الإسلامية، أن يدخلن الأسواق حتى يصلن إلى الحمّامات، لأن هذه الحمّامات كانت تقع وسط هذه الأسواق، وبجوار المساجد. وهناك فى الحمّام تتحرر المرأة من عبء الضوابط والأعراف السائدة فى منزل زوجها، إذ يسترخى جسدها وسط هالات من البخار، وتفرد روحُها أحلامها العريضة صوب كل ما لذ وطاب. ومن هنا فقد وعى بعض رجال ألف ليلة وليلة خطورة الخروج من المنزل إلى الحمّام، فحذروا نساءهم، ومنعوهن من الذهاب إليه، كما فى حكاية "حسن الصائغ البصري"، إذ يمنع حسن البصرى زوجته منار السنا من الخروج من منزلها والذهاب إلى الحمّام، ويوصى والدته بأن لا تسمح لها بذلك.

وعمومًا يبقى الحمّام فضاءً أساسيا وحضاريا مهمًا فى مدن ألف ليلة وليلة. ونظرًا لأهميته، فإنه يجب أن تتوافر فيه عدة شروط. وها هى تودّد الجارية تحدد بعضًا منها عندما يسألها الطبيب الممتحن، وبحضرة الخليفة هارون الرشيد: "فأى الحمّامات أحسن؟". فتجيبه: "ما عذُب ماؤه واتسع فضاؤه وطاب هواؤه. بحيث تكون أهويته أربعة خريفى وشتوى وربيعى وصيفي". وحتى تتأكد فاعليته العلاجية صحياً يجب ألا "يدخله شبعان". على حد تعبير تودّد الجارية. وهذا الرأى يتفق مع رأى بعض الفقهاء الإسلاميين الذين يؤكدون أن "دخول الحمّام على الشبع" يعدّ "من المهلكات". ويبدو أن على المستحم أن يكون دقيقًا فى مراعاة شروط دخول الحمّام والخروج منه حتى لا يصيبه الأذى والمرض. ففى حكاية "على نور الدين وأنيس الجليس"، يدخل الوزير الفضل بن خاقان، والد على نور الدين، الحمّام، ويخرج منه مبللاً بالعرق، فيصيبه الهواء، ويلزم الوساد، ويطول به السهاد، ويتسلل إليه الضعف، ويشهق شهقة ويموت. وإذا كان الراوى يريد أن يقول إنه على المستحم ألا يسرع بالخروج من الحمّام، وهو عرقان، بل يجب عليه أن ينتظر فى بهو الحمّام الخارجى فترة زمنية حتى يجف، وحتى لا يتعرض لتأثير التباينات الحرارية الكبيرة، بين فضاء الداخل المشبع بالحرارة، وفضاء الخارج الأقل حرارة، فإن هذا الرأى يبدو صائبًا على مستوى الصحة الجسدية، لأن هذه التباينات الحرارية التى يتعرض لها الجسم تسهم فى فقدانه لمناعته وقدرته على مقاومة الأمراض. فعلى المستحم، وحتى لا يؤذى من هذه التباينات الحرارية أن يتدرج فى الخروج من الحمّام، وذلك من الغرفة الساخنة إلى الغرفة الباردة المسماة بـ "غرفة بيت أول"، وهناك فى الغرفة الباردة يقضى بعض الوقت فلا يغادر الحمّام مباشرة إلى الفضاء الخارجى معرضًا نفسه للهواء البارد.

وعلى الرغم من مهاجمة الفقهاء الإسلاميين المتزمتين للحمام، واعتباره فضاءُ هاتكًا للأسرار، ومفسدًا لأخلاق النساء، وكاشفًا للعورات، فإنه يبقى فى رأى بعض المؤرخين والباحثين فضاءً لا غنى عنه فى حياة المدينة الإسلامية، فهو من أهم اللذات الأربع فى حياة المسلم. وإذا كانت الحياة مبهجة فى المجتمعات العربية، على الرغم من مآسى مواطنيها، واستبداد خلفائها وسلاطينها، فإن الفضل فى وجود هذه البهجة يعود إلى الحمّام.

ويشير بعض المؤرخين إلى أن الحمّام كان فضاءً ممتعًا للهو، إذ يلعب فيه الولاة ويتسابقون مع خدمهم فى الجرى. ولم يتوان بعض خلفاء الدولة العباسية فى توظيف الحمّام لإشباع نزواتهم الجنسية، والاحتيال على نساء زمانهم الجميلات، وإدخالهن الحمّام، ثم اغتصابهن.

هذه أهم وظائف الحمّامات فى المدينة الإسلامية وملامحها كما جاءت فى بعض نصوص ألف ليلة وليلة الحكائية، وبعض نصوص التراث العربى. وإذ أكتفى بدراسة هذه الوظائف والملامح، فلأنها القاسم المشترك بين جميع حكايات ألف ليلة وليلة التى احتفت بالحمّام، وشكلته، واعتبرته فضاءً مهمًا لنمو أحداثها، وحركة وحداتها السردية.






الهــوامــش

(1) عثمان، د. محمد عبد الستار:المدينة الإسلامية، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، الكويت العدد 128، الطبعة الأولى، ذو الحجة1408م/آب (أغسطس)، 1988م، ص246.
(2) البلاذرى، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود (ت279هـ/892م): من كتاب فتوح البلدان، اختار النصوص وقدم لها: د. شوقى أبو خليل، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، طبعة 1997م، ص446.
(3) جرابار، أوليج؛ وآخرون: تراث الإسلام، تصنيف جوزيف شاخت، وكليفورد بوزورث، ترجمة د. حسين مؤنس، ود. صدقى العمد، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد الثانى عشر الطبعة الثانية، رمضان 1408هـ/مايو 1988م. القسم الثانى من الجزء الأول، ص390
(4) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (ت808هـ/1406م): كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر فى أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوى السلطان الأكبر "مقدمة ابن خلدون"، تحقيق وشرح: د. على عبد الواحد وافى، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، الطبعة الثالثة، محرّم 1401هـ/1980م، 2/844.
(5) ألف ليلة وليلة، 1/142.
(6) ابن الجوزى، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن على بن محمد (ت597هـ/1201م): كتاب أحكام النساء، تحقيق: زياد حمدان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولي1409هـ/1989م، ص45.
(7) عن/السعدى، صباح: الحياة الجنسية فى الإسلام، ص34
(8) نظرًا لأن طبعة دار مكتبة الحياة، وهى الطبعة التى اعتمدتها فى دراستى، لا تضع اسمًا لكل حكايات ألف ليلة وليلة، فقد وضعت اسمًا لكل هذه الحكايات التى اقتبست منها، معتمدًا أسماء أبطال هذه الحكايات، وأسماء بعض الشخوص الواردة فيها. وإن لم يكن بعض الرواة قد سموا أسماء أبطال الحكايات، فإنى اكتفيت بوضع إحدى صفات هؤلاء الأبطال، كأن أقول مثلاً: "حكاية خالد بن عبد الله القسرى مع الشاب الجميل"، وما شابه ذلك.





* د. محمد عبد الرحمن يونس
الحمـَّامات فى ألف ليلة وليلة
 
أعلى