محمد عبدالرحمن يونس - مداخل نظرية في بنية حكايات ألف ليلة وليلة

تقوم ألف ليلة و ليلة في بنية حكاياتها على مبدأ الثنائيات الضديّة: الخير والشرّ، الفقر والغنى، العدل والظلم، الواقعيّ والتخيّليّ، الأمان والطمأنينة والخوف وفقدان الأمان، والأفراح الكبيرة والأحزان الكبيرة … الخ. وتتوزّع هذه الثنائيّات في معظم الفضاءات التي يرتحل السرد منها وإليها. وقد أسهمت هذه الثنائيّات في جعل نصوص ألف ليلة وليلة تنفتح على مزيد من التناقضات والاحتمالات، وتستوعب أنماطاً عديدة من الشخوص المتلاقية المتحاورة تارة، والمتصارعة المتنافرة تارة أخرى، إذ تتحرك هذه الشخوص في فضاءات مكانيّة تحمل أيضاً مزيداً من التناقضات.

على سبيل المثال يُلاحظ أن مدن ألف ليلة وليلة آمنة وغير آمنة في الوقت نفسه، والخليفة أو الحاكم فيها عادل حكيم تارة، سفيه أحمق ظالم مغرور تارة أخرى، إلاّ أنّه في غالب الأحيان ظالم باطش، نزق سريع الغضب. ويٌلاحظ أنّ قسماً من سكان المدينة متديّنون ورعون يخافون الله، وأنّ القسم الآخر من سكان هذه المدينة شهوانيّون وفاجرون ولصوص ومحتالون، لا همّ لهم إلاّ ارتكاب كلّ ما هو محرّم ومنكر. ويبدو أنّ هذا التناقض طبيعيّ جداً، طالما أنّ النفس الإنسانيّة لا تستقرّ على حال واحدة في مسيرتها وعلاقاتها وقيمها، فهي متحرّكة ضمن مجموعة من القيم والمفاهيم والسلوكيّات المنسجمة والمتناقضة في آن.

إنّ هذه الثنائيات ستسهم في أن تكون الأحكام والنتائج التي يتوصّل إليها الباحثون في ألف ليلة وليلة قابلة لمزيد من التغاير والتناقض، و بالتالي ليست نهائيّة. وقد تكون في موضع من المواضع تؤكّد مقولة ما، لكنّها في موضع آخر تنفي هذه المقولة، ليس رغبة في النفي أو التناقض، بل لأنّ نصوص ألف ليلة وليلة تفرز هذا التناقض، نظراً لمفاهيمها ومقولاتها المتناقضة المتغايرة من حكاية إلى أخرى، فما يصحّ قوله في تحليل إحدى الحكايات قد لا يصحّ في تحليل حكاية أخرى.

إنّ الباحثين في ألف ليلة وليلة لا يخرجون بنتائج نهائيّة، وقلّما تأتي دراسة أحدهم مشابهة لدراسة آخر، بل تحمل معظم دراساتهم مزيداً من الاحتمالات. وذلك عائد، وبالدّرجة الأولى، إلى بنية النصوص الحكائيّة وتشعبها، وتباين رؤاها الإيديولوجيّة التي يبثّها مجموعة من الرواة المتباينين في مشاربهم الثّقافيّة، وبنياتهم الذهنيّة، وقناعاتهم الإيديولوجيّة.

إنّ نصوص ألف ليلة وليلة بتناميها وتشابكها، وجرأتها وخروجها عمّا هو سائد ومألوف من نصوص خجولة متزمّتة اعتادها القارئ المتزمّت، تمثّل نسقاً معرفيّاً حكائيّاً واقعيّاً، وأسطوريّاً غرائبيّاً قلّ نظيره في الأدب العربيّ القديم والحديث، وربّما في الأدب العالميّ. فهذه النصوص بتناقض شخوصها، وصراحتهم وجرأتهم وجنونهم وتمرّدهم، واستكانتهم واستسلامهم المطلق للقهر والسلطة أحياناً، وقدراتهم الخارقة للعادة والمألوف أحيانا أخرى، هي نصوص خصبة منفتحة على الأزمنة والأمكنة المتباعدة، والحضارات الأخرى بثقافاتها وآدابها وفنونها. ومن هنا فإنّ خصوبتها قادرة على أن تشكّل خلفيّة معرفيّة مرجعيّة لكثير من الأعمال الإبداعيّة المعاصرة، من شعر وقصّة ورواية ومسرح. فقارئ ألف ليلة وليلة يجد نفسه أمام حقل ثقافيّ متعدّد المشارب، يتوغّل إلى أبعد الحضارات، يتثاقف ويتأثّر، ثمّ يتلاقى ويتحاور، لينسكب هادئاً عذباً على المدن والحضارات العربيّة والإسلاميّة.

إنّ نصوص ألف ليلة وليلة نصوص مثيرة جريئة. إنّها تخدش أعماق الإنسان في حاضره وماضيه، وما توسوس به نفسه الأمّارة بجميع المعاصي، ولا تخشى أحداً. تعلن مشروعها الإيديولوجي لتدين النساء والرجال، والمدن وقيمها، ورجال السلطة و استبدادهم، والأسواق وعلاقاتها الاجتماعيّة والتجاريّة، إنّها شموليّة في إدانتها وفي امتدادها إلى أبعد الحضارات وأقربها، فعلى سبيل المثال نجد أنّ المرأة في ألف ليلة وليلة هي كل نساء الحضارات الأخرى، وخطابها الكيديّ والاحتياليّ هو خطاب المكيدة أنّى كان ـ في أيّ زمان وأيّ مكان ـ فلم تترك نصوص ألف ليلة وليلة امرأة من نسائها المنتميات إلى حضارات ومذاهب عديدة إلاّ وكشفت عن أهمّ الجوانب الدفينة في أعماقها، و لم تترك سلطاناً أو حاكماً من حكّامها إلاّ وتوغّلت إلى أبعد دهاليز قصوره و مقصوراته الخاصّة، وعرّت نساءه وجواريه الحظايا، وطقوس فرحه وحزنه وجسده، وخطاباته الفكريّة والسياسيّة، وعلاقاته مع أفراد شعبه، وسلّطت الضوء على طعامه الفاخر، وخموره المعتّقة، فشعّت متلألئة شهيّة على وقع الصاجات والدفوف، وقامات الجواري اللواتي تهتزّ مغناجة مثيرة. فهذه النصوص تتمرّد ثائرة على معظم الخطابات التاريخيّة، والقصصيّة، والحكائيّة التي سبقتها والتي عاصرتها، غير أنّ هذا التمرّد يبقى مغلّفاّ بشال من الحرير المعطّر سحراً وأساطير. إنّ لها القدرة السحريّة على التوغّل إلى أعماق الذّات لتعري خطاباتها الفكريّة، وتناقضاتها، وأدقّ خفاياها، وسكينتها واستسلامها المطلق لواقعها، ولسلطات مدنها الغاشمة، ومن ثمّ لتنقلها إلى مدن جديدة سحريّة على أجنحة خيال أسطوريّ حالم تارة، متوثّب جامح تارة أخرى، فتحلّق هذه الذّات حالمة بالنساء الشهيّات، والثراء الفاحش، مع الجنّ والأحصنة الطائرة المسحورة، والمصابيح السحريّة، وخواتم شبيك لبيك (المال و القصور وجواري الأرض بين يديك، اطلب تُطَع، إن أنت دعكت هذا الخاتم السحريّ، أنا المارد خادم هذا الخاتم القادر على فعل العجائب، سأكون حالاّ بين يديك)، وتحلّق صوب المدن الفاضلة التي لا خوف فيها ولا بطش ولا استبداد، عندها تسكن الروح عميقاً، وتستسلم لحالة من الطمأنينة والرضى، والأحلام الشفيفة التي لن يتحقّق منها شيء، لأنّ واقع مدن ألف ليلة وليلة واقع مُهان محكوم بحفنة من الحكّام الظلمة، الذين لا يعملون إلاّ على تحقيق مصالحهم الخاصّة، وإشباع نزواتهم المتأجّجة دائماً.
إنّ قراءة جميع حكايات ألف ليلة وليلة قراءة هادئة تعتمد المقارنة بين الحكايات وتحليل بنياتها وخطاباتها الفكرية والإيديولوجية يمكنها أن تضعنا أمام مدن إسلامية مركزية كبرى مزدهرة، ثقافيا واقتصاديا وتجاريا وعلميا، ومتشابهة إلى حدّ بعيد، من حيث كونها ملتقى لكثير من المواطنين والجنسيّات من شتى المدن الأخرى الإسلاميّة وغير الإسلاميّة، فهذه المدن تفتح ذراعيها لأبناء شقيقاتها الأخرى وللضيوف الغرباء، وتحتضنهم، وتقدّم كلّ المساعدات اللازمة لهم، وهي مدن مزدهرة عمرانيّاً، ومنفتحة على حضارات العالم الأخرى، وعاداتها وأعرافها وثقافتها وتاريخها. ويُلاحظ أنّ بعض سكان هذه المدن على قدر من الكرم وحسن الضيافة، فهم غير متعصبين ضد الغرباء الجدد الوافدين إلى مدنهم، سواء أكان هؤلاء الغرباء من أولاد الملوك المغامرين، أم من التّجار طالبي الربح والثراء، أم من الجواري الجميلات الوافدات إلى هذه المدن، بفعل ازدهار تجارة الرقيق. ولنا أن نتخيّل أننا أمام مدن مفتوحة، تصبح زيارتها سهلة جداً، حيث لا رقابة كبيرة على الغرباء الجدد القادمين إلى هذه المدن، لأنّ هذه المدن الكبيرة المنفتحة على المدن الأخرى، والمتثاقفة معها ألفت رؤية الغرباء، والتعامل معهم ومع تجارتهم وثقافاتهم. ويبدو أنّ العيش في هذه المدن كان مقبولاّ ـ على الرغم من سلطاتها الاستبداديّة ـ، وأنّ الارتحال إليها كان سهلاً، والإقامة فيها ليست صعبة، مقارنة بمدننا المعاصرة .

وتبدو هذه المدن وكأنّها جنان أرضيّة، من حيث الازدهار العمرانيّ، والحدائق والبساتين، والمرافق العامّة، وحركة الأسواق ونشاط التجارة وازدهارها. وحكايات ألف ليلة وليلة لا تحتفي بالبادية والصحراء وعلاقاتهما، لأنّ رواة الليالي مؤدلجون ضد البادية وقيمها، وعادات سكانها، في حين أنّ هذه الحكايات تحتفي بالمدن الكبيرة المشهورة تاريخيّاً، وحكّامها، وعلاقاتها، وطبيعة الحياة فيها، إذ تأخذ هذه المدن مساحات واسعة من فضاء السرد الحكائيّ. أمّا المدن الصغيرة فهي ليست إلاّ طرقاً يحتاجها السرد الحكائيّ للعبور منها، بأبطاله، إلى المدن المركزيّة الكبرى التي تكرّم الأبطال المغامرين، وتشجّعهم، و تمنحهم الأموال والقصور، والمناصب السلطوية، ثمّ النساء الجميلات اللواتي يُعتبَرن الغاية الكليّة التي يسعى إليها هؤلاء الأبطال في واقعهم، وأحلامهم وتخيّلاتهم.

و على الرغم من جمال المدن المركزيّة، وازدهارها العمرانيّ والحضاريّ، وعلى الرغم من إيديولوجيا الرواة المتعصّبة لهذه المدن وقيمها، والمعادية لقيم البادية وأخلاق سكانها في آن، فإنّ هذه المدن المركزيّة المُحتفى بها محكومة بحكّام أجلاف نزقين ودمويين وعتاة، لم تتهذّب أخلاقهم بأحلام الجاهلية، ولا بأخلاق الإسلام، ولا بأخلاق المسيحيّة، ولم تغيّر الحضارة والمدنيّة طباعهم الوحشيّة، على الرغم من كلّ مظاهر الثراء الفاحش ورقّة العيش في قصورهم. وعلى الرغم من ازدهار هذه المدن، و انفتاحها على حضارات العالم وثقافته وتجارته، واحتضانها لسكّانه متعددي الجنسيّات، فإنّها في نهاية المطاف تظلّ مدناً محكومة بقيم قبليّة وعشائريّة، إذ تكثر فيها عادات القتل والأخذ بالثأر، و شراء النساء ومعاملتهن معاملة الجواري.

إنّ صورة المدن المركزيّة في ألف ليلة وليلة هي انعكاس لصورتها التاريخيّة، كما تحدّثت عنها الأدبيّات التاريخيّة التي أرّخت لها. إلاّ أنّها تزداد في ألف ليلة وليلة سحراً وغرابة، لتصبح مزيجاً من الأسطورة والخرافة، والتخيّلي والواقعي، لأنّ بنية الحكايات العجائبيّة ـ التي يصمّم رواتها على أن تحتفظ بأكبر قدر من سحريتها وعجائبها، حتى تعجب المروي لهم ـ تجعل رواة الحكايات مضطرّين لإضفاء مزيد من الأسطورة والسحر على هذه المدن بفضاءاتها، وتخيّلاتها وأوهام أبطالها.

وتكشف قراءة حكايات ألف ليلة وليلة مظهراً مهمّاً من مظاهر الحياة الاجتماعيّة في مدن الليالي المركزيّة، وهو مظهر الحيلة والمكر، فلقد ظهرت معظم أشكال المكر والاحتيال والمكايد في كلّ مدن ألف ليلة وليلة ّالعربيّة وغير العربيّة، وبخاصّة في القاهرة وبغداد، ودمشق، ويبدو أنّ إحساس الفرد بعدم الطمأنينة، وفقدانه للأمان، وخوفه الدائم ممّا يحيط به من حكّام ظلمة، وعدم ثقته بعلاقات مدينته وأخلاقياتها، ورغبته الدائمة في تجاوز واقعه الاقتصاديّ والطبقيّ، أسهمت في لجوئه إلى الحيلة، فبالحيلة تحقّق الشخوص ما تصبو إليه. وليست الحيلة مقصورة على طبقة من طبقات مجتمعات ألف ليلة وليلة، أو مدينة دون أخرى، بل تورّط فيها جميع الطبقات في جميع المدن.

وتبقى القاهرة وبغداد ودمشق أهمّ المدن في ألف ليلة وليلة التي يلجأ الناس فيها، من خلال علاقاتهم، إلى الغشّ والاحتيال واللصوصيّة. مع ملاحظة أنّ تجار مدينة دمشق هم أكثر تجار مدن ألف ليلة وليلة احتيالاً وغشّاً وتلاعباً بالأسعار، وبخاصّة حين يتعاملون مع الغرباء الوافدين إلى مدينتهم.

أمّا مدينة بغداد العبّاسية بقصورها وجمالها، وحركتها الثقافيّة والمعرفيّة، وانفتاحها صوب الحضارات الأخرى، فهي درّة مدن ألف ليلة وليلة، وهي أهم فضاء مكاني يقصده الشخوص المغامرون، بالإضافة إلى أنها أهم فضاء مكاني في الوحدات السردية التي تشكّل بنية عدد غير قليل من حكايات ألف ليلة وليلة. إنها الرحم التي تنمو فيها الحكاية، وترتحل منها بارتحال السرد، وفيما بعد تصبح الملاذ والمقبرة التي يطمئن الأبطال إلى أنّ أرواحهم ستجد السكينة والطمأنينة، وهي تحوم فوق تراب بغداد، الحضارة والمركز، المدينة التي تبدو جنّة أرضية حيث النعيم والرفاهية وملذّات الحياة. وكون هذه المدينة فضاءً مثيراً للعشاق المحبّين، والأثرياء التجار، ورجال السلطة، وعاشقي الخمور والنساء، والمحتالين الذين يجدون فيها فضاء خصباً للاحتيال، لا يعني أنها تشكّل فضاء آسراً ومثيراً للطبقات الفقيرة المستضعَفَة ـ بفتح العين ـ بل تصبح بالنسبة لهذه الطبقات فضاءً للفقر والاغتراب والوحشة والحزن، والخوف من كابوس السلطة السياسية. وفي هذا تتشابه بغداد مع المدن المركزية الأخرى التي تزدري أبناءها الفقراء، وتتطامن أمام حكّامها المستبدين، وتجارها الأثرياء.

وتشير حكايات ألف ليلة وليلة إلى أنّ مدنها الإسلاميّة وغير الإسلاميّة كانت تتعاطى الحشيش المخدّر بحريّة، ويبدو أنه لم يكن هناك رقابة على تعاطي هذه المادة المخدرة، فدكاكين العطّارين في القاهرة والإسكندرية ودمشق وبغداد والبصرة، كانت تبيع هذه المادة لكل من يطلبها. وأمام اندفاع سكان مدن ألف ليلة وليلة، بكل طبقاتهم السياسية و الاجتماعية، لإشباع غرائزهم الجنسية المتفجّرة، ودوام تحريضها و تقويتها، كانوا يندفعون إلى تعاطي الحشيش، لأنهم كانوا يعتقدون أنّ له قدرة سحرية على إثارة الطاقات الجنسية الكامنة، وزيادة قدراتها.

وتشير حكايات ألف ليلة وليلة إلى أنّ معظم رواتها في مدنها المركزية والثانوية هم رواة مؤدلجون إسلامياً، فهم يتعاطفون مع الدين الإسلاميّ، ويفضّلونه على بقية الأديان الأخرى، ويؤكّدون أنه لا نجاة من الحياة الدنيويّة المليئة بالشرور والآثام، ولا انتقال إلى عالم الملكوت الأعلى إلاّ باعتناق الدين الإسلامي الذي هو خاتمة الأديان وخيرها، ويطمحون إلى سيادة الإسلام فوق بقاع المدن كلها: الواقعيّة والتخيّليّة الأسطوريّة، ولذا فهم يبثّون مفاهيم الإسلام وقيمه و أخلاقيّاته الكريمة العادلة من خلال السرد الحكائيّ، إلاّ أنّه من المستغرب أنّ معظم هؤلاء الرواة المتعصّبين للإسلام لا يدينون مدنهم الإسلاميّة الغارقة بالمعاصي، المنافية لأخلاق الإسلام، إذ تسود في مدن ألف ليلة وليلة كل المحرّمات، فهناك الخمّارات، و قتل النفس التي حرّم الله قتلها، والزنى والشذوذ الجنسيّ، والاستبداد في أوجه، وهناك الحكام والسلاطين الذين يكرعون الخمرة أرطالاّ، وينكّلون بأفراد شعوبهم، ويقضون معظم أوقاتهم بين أحضان جواريهم وسراريهم، ولا يتوانون في الزواج بأيّة امرأة جميلة، إمّا بالرضى وإمّا بالاغتصاب أو الاحتيال، وهم مستعدّون للزواج بكل امرأة جميلة، حتّى ولو كانت فاسدة ومتهتكة. وعلى الرّغم من كل ذلك نجد أنّ بعض هؤلاء الرواة يتغاضون عن سلوك هؤلاء الحكّام، ويتجاوزون عن أخطائهم، وكأنّ شيئاّ لم يكن، في حين أنّ هؤلاء الرواة يسارعون في الطعن بأخلاق الحكّام غير المسلمين، ويقللون من شأنهم، ويدينون أخطاءهم، مهما كانت بسيطة.

إنّ حكايات ألف ليلة و ليلة ليست ترفاً لفظيّاً، أو رحلة و صفيّة في الزمان والمكان، بل إنّ لها غايات وظيفيّة، فالسرد الحكائيّ لا ينمو ولا يدخل فضاءات مدن ألف ليلة وليلة إلاّ ليعبّر عن أطروحات فكريّة وسياسيّة وغايات أخلاقيّة في كثير من الأحيان.

ومعظم رواة الليالي يحمّلون السرد الحكائيّ كثيراً من المقولات الفكريّة والإيديولوجيّة التي يؤمنون بها، وبالتالي ينفون مقولات أخرى يستهجنونها، ويدينونها.

ونجد أن هؤلاء الرواة ـ من خلال الوصف، وقطع السرد ووصله، ومن خلال تداخل الحكايات فيما بينها، ومن خلال مواقف الأبطال وطبيعة تفكيرهم ـ يكرّسون جميع معارفهم، و ما يؤمنون به، ليبثّوا خطاباتهم الإيديولوجيّة المعادية لخطابات أخرى.

ومن الملاحظ، في مدن ألف ليلة وليلة، أنّ قصر السلطان أو الحاكم يشكّل معلماً أساسيّا من معالم هذه المدن، إنّه الشكل العمرانيّ الأكثر بروزاّ من حيث تخطيطه الهندسيّ وضخامته، وجماليّاته المدهشة، فهذا القصر بنية مصغَّرة عن المدينة الكبيرة، بعلاقاتها السياسيّة، وشرائحها الاجتماعيّة، وما يميّزه عن بقيّة قصور المدينة مركزيّته السياسيّة، وعلاقاته السلطويّة المعقّدة والحذرة، ومظاهر الثراء فيه، واحتواؤه على مقاصير كثيرة للسراري والجواري الحظايا وخادماتهنّ. وتغصّ مدن ألف ليلة وليلة الواقعيّة والتخيّليّة بالقصور الشاهقة التي تحتفي بكلّ أنواع البذخ والمسرّات الدنيويّة، من خمور و نساء ورقص وملذّات، وأثاث فاخر جميل مدهش. ويبدو أنّ تصوير البذخ في قصور مدن الليالي، وفي حياة سكّانها مستمَدّ إلى حدّ ما من تاريخ الخلفاء الأمويّين والعبّاسيّين.

ولا يكتفي الخليفة أو السلطان، في مدن الليالي، بملكية قصر واحد، بل هو يسعى إلى امتلاك قصور شاهقة عديدة داخل المدينة، مركز السياسة والحكم، وخارجها في البساتين، لكي تكون فضاءات للاستجمام والقصف واللهو، والعبث بأموال الشعب وتبديدها، ولكي يعربد فيها، هو وأولاده، وحظاياهم، وأثرياء القوم المقرّبون منه. في حين نجد أنّ قاع المدينة مهمَّش و مستلَب، ويكاد ينفق جوعاً .

ومن أهم قصور ألف ليلة وليلة قصور مدينة بغداد العباسية التي غصّت بالترف واللهو والفساد، والاحتيال والمكايد. ويبدو أنّ ما أسهم في إشاعة أجواء الترف واللهو في هذه القصور ما تركه الفرس من آثار واضحة في المجتمع العباسي.

ويقدّم رواة ألف ليلة وليلة نساء مدنهم السلطويّات وغير السلطويّات على شكل نماذج مثيرة طاغية الجمال، بحيث تبدو هذه النساء أجمل من حوريات الجنة، فالقمر يخجل من جمالهنّ، والشمس تحسدهنّ على وضاءة وجوههن وكل واحدة منهنّ ذات خدّ أسيل وقدّ مليح. وهذا التقديم في بنيته العميقة يدل على نزعة هؤلاء الرواة الشبقيّة التي تشير إلى أنّ هؤلاء الرواة، الذين هم ممثّلو القطاع الذكوريّ المهان في ألف ليلة وليلة، قد عانوا عبر تاريخهم الطويل من حرمان جنسي مزمن، وقهر تاريخي وضعهم في طبقة متدنية محرومة، وحرمهم من هاته النسوة المثيرات اللواتي اعتبروهنّ أعظم السلع وأغلاها, هذه السلع التي يطمح هؤلاء الرجال إلى امتلاكها، في حين أنّ أيّ سلطان، أو قائد للجند، أو تاجر ثري، كان باستطاعته أن يحصل على ما يشاء من هاته النسوة المثيرات، طالما يملك المال و السلطة. غير أنّ هؤلاء الرواة لم يقفوا عند هذه الملامح الجمالية لهاته النسوة الطاغيات إثارة و تكوّرات لحمية فحسب، بل رأوا أنّ معظم هاته النسوة المثيرات فاسدات وخبيثات، ومنقادات لرغباتهن الشهوانية المسعورة، ويتقنّ فنون المكايد والاحتيال بامتياز ـ وبطبيعة الحال هناك استثناءات طفيفة ـ. أمّا ملامح نساء السلطة، بالإضافة إلى الملامح السابقة، فهي ملامح استبدادية باطشة، إذ لا تتوانى هاته النساء في البطش بأقرب المقرّبين منهنّ، فبعضهنّ يفوق الرجال السلطويين بطشاً وظلماً، على أنّ استبداد هاته النسوة، في المحصلة الأخيرة، هو نتيجة لاستبداد الرجال، و مستمدّ منه، لأنّ المرأة السلطويّة تستمدّ قدرتها على البطش، بمن في قصرها من العبيد والجواري وبمن في مدينتها من المواطنين، من سلطة زوجها المطلقة، بوصفه الرأس الأعلى، وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة في دولته. وأمام استبداد نساء السلطة في مدن ألف ليلة وليلة يُلاحظ أنّ الرواة يجترئون عليهنّ، ويصفون بعضهنّ بالزواني والخبيثات.

ومن الملاحظ في مدن ألف ليلة وليلة أنّ ثمّة قطيعة إنسانيّة تعمل السلطة على تكريسها في علاقاتها بالطبقات الأدنى منها، وتتمثّل هذه القطيعة بالاحتقار والاضطّهاد والجلد والتهديد بالقتل، والقتل الفعلي، و الإكثار من مظاهر الأبهة والثراء، والإكثار من اتّخاذ الحرّاس والحجّاب الذين يحيطون بالسلطة كظلّها، بحيث يبدو رجال السلطة آلهة متوّجين بالأبّهة والعظمة، مما يجعل الطبقات الأخرى في حالة خوف دائم، وقناعة مطلقة باستحالة قدراتها على تغيير نظام السلطة أو الثورة عليها. فمعظم سلطات مدن ألف ليلة وليلة الإسلاميّة وغير الإسلاميّة لا تقرّب إلاّ الأذلاّء الخانعين لها خنوعاً مطلقاً، والأعوان الباطشين المستبدين في آن، والمهرّجين والندماء المتملّقين، والأبواق المرددين إيديولوجيّتها وعظمتها وحقها الإلهي في وراثة الحكم، والشعراء المنافقين المادحين مَدْحاً تكسبيّاً كاذباً.

وأمام ألف ليلة وليلة، هذا العمل الحكائيّ المتميّز، لا عجب أن يقف المستشرق الدانماركي ج. أوستروب مأخوذاً بالإعجاب والتقدير، ثمّ يقول: «فيما عدا الكتاب المقدّس لا توجد سوى كتب قليلة حققت انتشاراً واسعاً وطافت العالم بأرجائه مثل مجموعة الحكايات العربيّة الشهيرة، والتي عُرِفت تحت اسم «ألف ليلة و ليلة»، فمن جهة أولى اكتسبت أهميّة مباشرة، لأنّه يكاد لا يوجد في معظم البلدان المتحضّرة من لم يقرأ هذا الكتاب بسرور واهتمام مرّة واحدة على الأقلّ في حياته ويستوح منه عدداّ كبيراً من الصور البرّاقة الرائعة والتي ظلّت على الدوام عالقة في ذاكرته، ومن جهة ثانيّة اكتسبت أهميّة غير مباشرة لأنّ أجيالاّ متعاقبة من الأدباء كانت تنهل مادتها من هذا النبع الذي لا ينضب».

وعلى الرغم من كثرة الأبحاث والدراسات, والدراسات المقارنة التي انهمكت في تحليل حكايات الليالي، ومن جوانب متعددة، فإن ّ البحث في ألف ليلة وليلة لا ينتهي، لأن الأبحاث في ماهية حكايات الليالي تظّل لا نهائية ومتغايرة ومتباينة بتبيان الباحثين ومناهجهم في البحث العلمي، ولا يستطيع أي باحث، مهما كان غزير المعرفة، أن يفسّر جميع النصوص الحكائيّة المدروسة تفسيراً دقيقاً، محيطاً بجميع أبعادها وحمولاتها المعرفيّة والإيديولوجيّة والميثولوجية والأنثروبولوجية، محققاً أفضل النتائج، وأكثرها اقتراباً من الحقيقة، لأنّ الأبحاث القادرة على الإحاطة بجميع أبعاد ألف ليلة وليلة ودلالاتها وخلفيتها المعرفيّة تحتاج إلى جهود عدّة باحثين ومختّصين وخبراء في مختلف ميادين المعرفة والعلوم الإنسانيّة.



* د. محمـــد عبدالرحمن يونس
مداخل نظرية في بنية حكايات ألف ليلة وليلة



* مجلة الكويت
 
أعلى