أبو الحسن على الحسني الندوي - قد مضى عهد ألف ليلة وليلة

كتاب ألف ليلة وليلة يمثل ذلك العهد الذي كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد - وهو شخص الخليفة أو الملك أو حول حفنة من الرجال - هم الوزراء وأبناء الملوك - وكانت البلاد تعتبر ملكا شخصيا لذلك الفرد السعيد. والأمة كلها فوجا من المماليك والعبيد، يتحكم في أموالهم وأملاكهم ونفوسهم وأعراضهم، ولم تكن الأمة التي كان يحكم عليها إلا ظلا لشخصه، ولم تكن حياتها إلا امتدادا لحياته.

لقد كانت الحياة تدور حول هذا الفرد بتاريخها وعلومها وآدابها وشعرها وإنتاجها، فإذا استعرض أحد تاريخ هذا العهد أو أدب تلك الفترة من الزمان وجد هذه الشخصية تسيطر على الأمة أو المجتمع كما تسيطر شجرة باسقة على الحشائش والشجيرات التي تنبت في ظلها وتمنعها من الشمس والهواء، كذلك تضمحل هذه الأمة في شخص هذا الفرد وتذوب فيه وتصبح أمة هزيلة لا شخصية لها ولا إرادة، ولا حرية لها ولا كرامة.

وكان هذا الفرد هو الذي تدور لأجله عجلة الحياة، فلأجله يتعب الفلاح، ويشتغل التاجر، ويجتهد الصانع، ويؤلف المؤلف، وينظم الشاعر، ولأجله تلد الأمهات وفي سبيله يموت الرجال وتقاتل الجيوش، بل ولأجله تلفظ الأرض خزائنها، ويقذف البحر نعائمه، وتستخرج كنوز الأرض وخيراتها.

وكانت الأمة - وهي صاحبة الإنتاج وصاحبة الفضل في هذه الرفاهية كلها - تعيش عيش الصعاليك أو الأرقاء المماليك، قد تسعد بفتات مائدة الملك وبما يفضل عن حاشيته فتشكر، وقد تحرم ذلك أيضاً فتصبر، وقد تموت فيها الإنسانية فلا تنكر شيئا بل تتسابق في التزلف وانتهاز الفرص.

هذا هو العهد الذي ازدهر في الشرق طويلا وترك رواسب في حياة هذه الأمة ونفوسها، وفي أدبها وشعرها، وأخلاقها واجتماعها، وخلف آثارا باقية في المكتبة العربية، ومن هذه الآثار الناطقة كتاب (ألف ليلة وليلة) الذي يصور ذلك العهد تصويرا بارعا يوم كان الخليفة في بغداد أو الملك في دمشق أو القاهرة، هو كل شيء وبطل رواية الحياة ومركز الدائرة.

إن هذا العهد الذي يمثله كتاب (ألف ليلة وليلة) بأسا طيره وقصصه، وكتاب الأغان بتاريخه وأدبه، لم يكن عهدا إسلاميا ولا عهدا طبيعيا معقولا؛ فلا يرضاه الإسلام، ولا يقره العقل، بل إنما جاء الإسلام بهدمه والقضاء عليه، فقد كان هذا هو العهد الذي بعض فيه محمد صلى الله عليه وسلم فسماه الجاهلية ونعى عليه وأنكر على ملوكه - ككسرى وقيصر - وعلى أثرتهم وترفهم أشد الإنكار.

إن هذا العهد غير قابل للبقاء والاستمرار في أي مكان وفي أي زمان، ولا سبيل إليه إذا كانت الأمة مغلوبة على أمرها أو مصابة في عقلها أو فاقدة الوعي والشعور أو ميتة النفس والروح.

إن هذا الوضع لا يقره عقل. ومن الذي يسوغ أن يتخم فرد أو بضعة أفراد بأنواع الطعام والشراب ويموت آلاف جوعا ومسغبة؟ ومن الذي يسوغ أن يعبث ملك أو أبناء ملك بالمال عبث المجانين، والناس لا يجدون من القوت ما يقيم صلبهم ومن الكسوة ما يستر جسمهم؟ ومن الذي يسوغ أن يكون حظ طبقة - وهي الكثيرة - الإنتاج وحده والكدح في الحياة والعمل المضني الذي لا نهاية له، وحظ طبقة - وهي لا تجاوز عدد الأصابع - إلا التلهي بثمرات تعب الطبقة الأولى من غير شكر وتقدير وفي غير عقل ووعي؟ ومن الذي يسوغ أن يشقى أهل الصناعة، وأهل الذكاء، وأخل الاجتهاد، وأهل المواهب، وأهل الصلاح، وينعم رجال لا يحسنون غير التبذير، ولا يعرون صناعة غير صناعة الفجور وشرب الخمور؟ ومن الذي أن يجفى أهل الكفاية وأهل النبوغ وأهل الأمانة ويقصوا كالمنبوذين، ويجتمع حول ملك أو أمير فوج من خساس النفوس وسخاف العقول وفاقدي الضمائر ممن لا هم لهم إلا ابتزاز الأموال وإرضاء الشهوات ولا يحسنون فنا من فنون الدنيا غير التملق والإطراء، المؤامرة على الأبرياء، ولا ينصفون بشيء غير فقدان الشعور وقلة الحياء؟

إنه وضع شاذ لا ينبغي أن يبقى يوما فضلا عن أن يبقى أعواما.

إنه إن سبق في عهد من عهود التاريخ وبقي مدة طويلة فقد كان ذلك على غفلة من الأمة أو على الرغم منها، ولسبب ضعف الإسلام وقوة الجاهلية، ولكنه خليق بأن ينهار ويتداعى كلما أشرقت شمس الإسلام واستيقظ الوعي وهبت الأمة تحاسب نفسها وأفرادها.

فالذين لا يزالون يعيشون في عالم (ألف ليلة وليلة) إنما يعيشون في عالم الأحلام، إنما يعيشون في بيت أوهن من بيت العنكبوت، إنما يعيشون في بيت مهدد بالأخطار لا يدرون متى يكبس ولا يدرون متى تعمل فيه معاول الهدم، وإن سلموا من كل هذا فلا يدرون متى يخر عليهم السقف من فوقهم فإنه قائم على غير أساس متين وعلى غير دعائم قوية.

ألا إن عهد ألف ليلة وليلة قد مضى فلا يخدعن أقوام أنفسهم ولا يربطوا نفوسهم بعجلة قد تكسرت وتحطمت. إن الفردية مصباح - إن جاز هذا التعبير - قد نفد زيته واحترقت فتيلته فهو إلى انطفاء عاجل ولو لم تهب عاصفة.

إنه لا محل في الإسلام لأي نوع من أنواع الأثرة. إنه لا محل فيه للأثرة الفردية أو العائلية التي نراها في بعض الأمم الشرقية والأقطار الإسلامية، ولا محل فيه للأثرة المنظمة التي نراها في أوربا وأمريكا وفي روسيا، فهي في أوربا أثره حزب من الأحزاب وفي أمريكا أثره الرأسماليين وفي روسيا أثره قلة آمنت بالشيوعية المتطرفة وفرضت نفسها على الكثرة وهي تعامل العمال والمعتقلين بقسوة نادرة ووحشية ربما لا يوجد لها نظير في تاريخ السخرة الظالمة.

أن الأثرة بجميع أنواعها ستنتهي؛ وإن الإنسانية ستثور عليها وتنتقم منها انتقاما شديدا. إنه لا مستقبل في العالم إلا للإسلام السمح العادل الوسط، وإن طال أجل هذه (الأثرات) وأرخى لها العنان وتمادت في غيها وطغيانها مدة من الزمن.

إن الأثرة - فردية كانت أو عائلية أو حزبية أو طبقية - غير طبيعية في حياة الأمة، وإنها تتخلص منها في أول فرصة. إنه لا محل لها في الإسلام ولا محل لها في مجتمع واع بلغ سن الرشد ولا أمل في استمرارها، فخير للمسلمين وخير للعرب وخير لقادتهم وولادة أمورهم أن يخلصوا أنفسهم منها ويقطعوا صلتهم بها قبل أن تغرق فيغرقوا معها.

ألا إن الفردية آذنت في الشرق أيضاً بالرحيل وبدأت نجومها تهوى، وما هي مسألة زيد وعمرو وإنما هي مسألة عهد ينقضي وفكرة تختفي ومؤسسة تلغى، فليحذر الذين يعيشون عليها أن يواجهوا مصيرا واحدا


* أبو الحسن علي الحسني الندوي
مجلة الرسالة - العدد 999
بتاريخ: 25 - 08 - 1952
 
أعلى