تركي المغيض - غـوته... وألف ليلة وليلة

يعد غوته Goethe (1749 ـ 1832) مثلا مشرقا على خصب التفاعل بين الآداب والثقافات المختلفة. فقد نظر إلى الآداب العالمية وكأنها أدب واحد. واستندت نظرته هذه إلى نزعته الإنسانية التي ترفعت عن كل انتماء ضيق، عرقيا كان أو جغرافيا أو دينيا. وقاده شغفه بالمعرفة إلى محاولة الاطلاع على كل ما كان معروفا في عصره، ومن ذلك آداب الشرق وبخاصة الأدب العربي.

توجه غوته نحو الشرق في سياق بحثه عن معرفة إنسانية شاملة، وقد مزج في بحثه مزجا رائعا بين تطلعاته الإبداعية وتأملاته الفلسفية، وجسدت كتاباته علاقة التفاعل الحي بين ثقافتين شرقية وغربية، علاقة لا يشوبها الخوف أو الحذر، وإنما تملؤها الألفة والتسامي.

وشكلت «ألف ليلة وليلة» الوسيط المهم في تفاعل الثقافتين الشرقية والغربية، إذ من المعروف أن الاهتمام بـ«ألف ليلة وليلة» لم يقتصر على العرب وحدهم، وإنما تعداهم إلى الأمم الأخرى، ويمكن القول إن اهتمام الغربيين بها كان أكثر وأسبق، إذ إنهم أدركوا مبكرا قيمتها الفنية، وأهميتها فأولوها جانبا كبيرا من اهتمامهم وعنايتهم، حيث ترجمت «ألف ليلة وليلة» إلى العديد من اللغات الحية، حتى ليجد الباحث آثارها جلية واضحة في الأدب والفولكلور الأوروبي، ونسجت على منوالها القصص والروايات، وكتبت حولها الدراسات. ويمكن ملاحظة أن كثيرا من الأغاني الشعبية البيزنطية مثلا في القرنين التاسع والعاشر قد حملت بين مقاطعها أشعارا من «ألف ليلة وليلة».

ويأتي غوته شاعر ألمانيا الكبير و«صديق العرب» في طليعة الغربيين الذين اهتموا بحكايات ألف ليلة وليلة.. وتأثر بها تأثرا واضحا عندما أصدر «كتاب الساقي» و«كتاب الشرف» و«كتاب المغني». وكان غوته قرأ ترجمة انطوان جالان (1946 ـ 1715) المستشرق الفرنسي، لألف ليلة وليلة، كما قرأ الترجمات الألمانية لها. وكان طوال حياته شديد الشغف بأحاديث شهرزاد، إذ تعرف من خلال والدته وجدته في أيام الطفولة المبكرة على بعض الحكايات التي ظلت راسخة في ذاكرته، وحتى في سني حياته المتأخرة لم ينضب شوقه إلى هذا السفر الأدبي الذي يعد من أمهات الكتب في الأدب الشعبي العالمي.

لقد أثّرت حكايات ألف ليلة وليلة في غوته تأثيرا بالغ القوة في إطار التلقي الإبداعي، إذ استدعى في الكثير من قصائده، شهرزاد، وعبر على لسانها عن بواعث ودوافع معينة، وألبسها أدوارا وأفعالا مختلفة، وعلاوة على ذلك ساعدت هذه الحكايات الشعبية غوته، في شيخوخته، على التخلص مما كان يرافق ليالي شتائه الطويلة من مرض وكآبة، وكان يداوم على قراءة مجلدات ألف ليلة وليلة قراءة واعية ومعمقة. وإذا ما حاول المرء تبين العلاقة الوطيدة لغوته بألف ليلة وليلة، فإنه سيضع يده على التأثير الشديد لهذا الكتاب عليه من حيث «فن القص والرواية».

فقد كان غوته يقارن نفسه، بوصفه شاعرا وروائيا، بشهرزاد. وكان يقوم بهذا بوعي تام. وتكشف هذه المقارنة جوانب شاعريته، كما تفسر ولعه بالتداخل في سرد الأقاصيص وتوظيفها في بعض إنتاجه الإبداعي. ويبدو ذلك في روايته «سنوات تجوال فلهلم ما يستر» التي كان بناؤها ينطوي على حرية في التركيب. ولقد اعترف غوته نفسه بأثر حكايات ألف ليلة وليلة على روايته «سنوات التجوال»، وبين أنه كان ينهج نهج شهرزاد، ولهذا فإن طريقة السرد لأقاصيص مختلفة بصورة متداخلة في «سنوات التجوال» وتقديمها على شكل «باقة من الزهور المتشابكة» هي الطريقة التي اختارها بوعي تام كأسلوب في السرد. وليس أدل على ذلك من قول غوته بأن طريقته في «سنوات التجوال» كانت تقوم «على طريقة السلطانة شهرزاد».

ويبدو تأثر غوته بألف ليلة وليلة أيضا من خلال تفضيله تقديم مؤلفاته السردية والدرامية على شكل متسلسل متتابع. ولقد انتهج هذا الأسلوب في مؤلفة «أحاديث مهاجرين ألمان» واعتمد اسلوب «الليالي» حيث يتشابك الحدث مع الحدث الآخر، وينسي الاهتمام بالحدث الاهتمام بالحدث الآخر. واتبع غوته الأسلوب نفسه في مؤلفاته عن سيرته الذاتية وخاصة كتاب «شعر وحقيقة»، فقدمه للقراء على شكل مسلسلات تفصل بينهما فترات زمنية متباعدة. وكان يسمي هذه المؤلفات «الألف ليلة وليلة العجيبة من حياتي».

ولم يقتصر تأثر غوته، على البناء الشكلي فحسب، وإنما تعدى ذلك إلى استلهام، في كثير من الأحيان، مادة وموضوعات ملموسة من هذه «الليالي» وتشهد على هذا الاستقبال والاستلهام أعمال أدبية كتبها في مراحل حياته كافة. ففي مسرحيته المبكرة «نزوة العاشق» استعار غوته لبطلته اسم «أمينة» الوارد ذكره في قصص «الليالي». ولم يقتصر على ذلك، بل استعار كذلك الملامح الكلية لهذه الشخصية التي تلاحقها الغيرة، إذ تطابق مغزى مسرحيته مع قصة «الليالي» من حيث ندم الرجل الجامح الغيرة على شكّه وسلوكه الأناني الفظ. ويكتشف المرء في حكايات غوته الفنية عددا من الخصائص المستقاة من «الليالي»، وينسحب ذلك على حكاية «باريس الجديدة» و«ميلو سينه الجديدة» مثلما ينسحب على الحكايات الخرافية التي وردت في رواية «أحاديث مهاجرين ألمان».

أما في رواية «سنوات التجوال» فإن غوته يلمح بشكل واضح إلى قصتي علاء الدين والمصباح السحري وحلاق بغداد، كما يستعين في الجزء الأخير من روايته «الأنساب المختارة» بقصة «أبو الحسن وشمس النهار» من «الليالي»، في حين نجد أنه استفاد في «الأقصوصة» من حكاية «الأمير أحمد والجنية باريبانو». وأهم ما استوحاه من هذه الحكاية هو قدرة التقوى والبراءة والطيبة والحنان على ترويض القوى المتوحشة. ومما يجدر الإشارة إليه تأثير «الليالي» على القسم الثاني من مسرحية «فاوست» إذ برز هذا التأثر من خلال وجود مشاهد كثيرة في المسرحية تحاكي حكايات شهرزاد، فمن أجل تبيان الطريق الذي يوصل «فاوست» إلى «هيلينا» استخدم غوته الأسلوب الذي سردت به «الليالي».

وفي ليلة «الغالبورج الكلاسيكية» يمر الطريق عبر بلاد الجن، وتتخلله مشاهد عديدة بلقاء الجن، وما شابهها من المواقف. وفي الفصل الأول من القسم الثاني من «فاوست» يوجد أيضا الكثير من المؤثرات التي ترجع أصولها إلى «الليالي» فهناك موضوع استخراج الكنز المدفون في باطن الأرض، وموضوع المناظر السرية العديدة التي رافقت تنكّر الأشباح. ويثني غوته على «الليالي» بالاسم ويشيد بشهرزاد، وذلك على لسان القيصر وهو يثني على ميفيستوفيلس وهو المسؤول عن إمتاع القيصر، فيقول:
«أي حظ طيب هذا الذي قادك إلى هنا/مباشرة من ألف ليلة وليلة؟/ بأسمى الهدايا/ تأهب على الدوام (لتسليتي)/ فما أكثر ما تبتليني أيام دنياكم/ بأعظم الكروب والمنغصات». ويعبر غوته هنا بصورة واضحة عن تأثره «بالليالي» وبما أوحاه له هذا الكتاب، فقد مدح شهرزاد واعترف بأن هذه «الليالي» أيقظت خياله.

وأفاد في الفصل الثالث من مسرحية «فاوست» أنه أنهاه بنهاية موفقة وظافرة بفضل ما استلهمه واستقبله من حكايات «الليالي». كما اعترف غوته أيضا بأستاذية شهرزاد عليه، فهو عندما كتب البيت «لو استطعت أن تتشبه بشهرزاد في خصوبة عطاياها»، قد كان في المسودة الأصلية على هذا النحو: «فأنت ترى في شهرزاد معلما!». وقد كتب غوته موضوعا طريفا عن الليلة الثانية بعد الألف، روى فيه أن شهرزاد زارته ورجته أن يكتب عنها قصة جديدة لأن الملك شهريار لم يعف عنها بعد.

ولا نغالي إذا ما قلنا إن «الليالي» كانت أهم دافع وحافز لاهتمام الغرب بالشرق اهتماما تعدى حدود التعامل التجاري والسياسي، بل إن حركة الاستشراق كان مبعثها في الواقع ما تركه هذا الكتاب الأدبي الشعبي العربي في نفوس الغربيين من توق نحو الشرق، حتى عمد بعضهم إلى زيارة الشرق. ومن هنا يمكن القول ـ على الرغم من أن امتدادات أدب الشرق في الأدب الأوروبي حدثت قبل ترجمة «الليالي» ـ إن نشوء «أدب الرحلات» في الغرب كان بعد ترجمة «الليالي» التي فتحت عيون الغربيين على كنوز الشرق الفنية والأدبية ومكوناته الفكرية.

وتعامل غوته مع كتاب «ألف ليلة وليلة» بكثير من المرونة الحياتية وبكثير من الحكمة. فقد كانت «الليالي» بالنسبة إليه كتاب عمره، إذ جعل من شهرزاد مثله الأعلى وطلب منها النصح والارشاد في بعض القضايا. كما جسدت له «الليالي» منبعا للإلهام لا ينضب. واعتبر غوته أن واقعية ألف ليلة وليلة التي تؤالف بين العوالم المختلفة شيئا ثمينا للغاية، وأكد ذلك أكثر من مرة، واندهش بذلك الربط فيها بين السحر والواقع. ووصف غوته «الليالي» بقوله: «من الصعب العثور على عمل آخر أكثر قيمة منها». ومن هنا يمكننا القول إن ألف ليلة وليلة لم تكن لغوته رحلة ترفيهية للهو والمتعة، وإنما كانت منبعا مهما لتفكيره الواقعي والإبداعي الخصب.

وما أحرانا نحن العرب أن نقرأ تراثنا كما قرأه غوته وتلقاه، وأن نتفاعل مع الآخر كما تفاعل غوته معه. ولقد أصاب غوته كبد الحقيقة عندما قال شعرا:
من يعرف نفسه والآخرين
يعترف هنا أيضا أن
الشرق والغرب
لا يمكن بعد أن يفترقا
وبودي أن أهدهد نفسي
سعيدا بين هذين العالمين




* د. تركي المغيض
غـوته... وألف ليلة وليلة
 
أعلى