أمجد ناصر - الشرف الصغير والشرف الكبير

سيبقى سفر "ألف ليلة وليلة" الذي بعثه لنا "المستشرقون الأوغاد" حياً من الغفلة والنسيان، أحد أهم الكنوز المؤثرة في السرد العالمي، وفي فكرة الحكاية نفسها، في بنيتها وطبقاتها وحبكتها، وفي خيالها الذي يمزج الواقعي بالفنتازي. وعلى الرغم من اهتمامنا الأكاديمي الملحوظ بهذا الكنز الحكائي الكوني، بأثرٍ من اهتمام الدرس الأكاديمي الغربي به، لا نزال على هوامشه، سواء في القراءة النقدية أم في التمثّل الإبداعي. لو لم يقل لنا الغرب: هذا سِفر عظيم، لما كنا اعتبرناه، على الأغلب، كذلك، فهو كان ملقىً عندنا على الأرصفة، بين الأقدام، ومصنَّفاً بين الكتب الصفراء، ولا يزال المندفعون، بكلِّ ما أوتوا من قوةٍ، للوراء يعتبرونه كذلك، بل بلغ الأمر ببعضهم أن طالب بحرقه في الساحات وعلى رؤوس الأشهاد، ليكون عبرة لمن يجعل تجليات الخيال سلطاناً على كآبة الواقع. حالنا مع "ألف ليلة وليلة" يختصر حال المغلوب على أمره مع الغالب. فهو لا يرى نفسَه إلا كما يراها الغالب، فصورته مرسومةٌ مسبقاً. وعليه، فقط، أن يتواءم معها، ويضبطها في الإطار المعدّ لها. وهذا، بالطبع، صدىً لكلام ابن خلدون، وليس من عندياتي. وليس بعيداً عما أقول. سألني مسرحي أجنبي كان يعدُّ عملاً عن شهرزاد: كيف أرى صراع الذكورة والأنوثة في "ألف ليلة وليلة"؟ وكيف أفكِّرُ بتلك الراوية الماكرة؟ قلت له إنني، عندما أفكِّر بشهرزاد، الآن، لا يخطر لي، مباشرةً، سؤال الأنوثة والذكورة الذي لا بدَّ أنك تعوّل عليه كثيراً، من عرب يقتلون نساءهم على الشبهات بذريعة الشرف الصغير، فيما الشرف الكبير مجلَّل بالعار. لا يخطر لي هذا الجدل الذي يصعب نفيه من فضاء الليالي، بل يتراءى لي كلام شهرزاد بصفته امتداداً للحياة، وتتراءى لي الحكاية بصفتها انتصاراً على الموت. أو في أضعف الإيمان، أرى إلى كلامها بصفته ذريعةً لمتاهةٍ من الحكايات الملتفَّة، وانسياقاً في فتنة السرد الذي يأخذ بألباب سامعيه. وقلت أيضاً للمسرحي الأجنبي الذي يريد أن يستخلص شيئاً، فيما أريد أن أستخلص شيئاً آخر: تذكّر أن شهرزاد كانت تتوقف عن الكلام عندما يطلُّ النهار، فلليل كلام غير كلام النهار، خصوصاً، ذلك الليل الموحش الذي لا يؤنسنه سوى الحكاية، فبالحكاية كانت شهرزاد تعبر خيطاً رفيعاً ممتداً بين الليل والنهار وفوقها شفرة السيف، بلا عثرةٍ واحدة، ولا تلعثم، فمع كل عثرةٍ، أو تقطّع في السرد، يهتزُّ حدُّ السيف بيد الملك الضجر وتفغر الهاوية فاهها.

وقلت للمسرحي الأجنبي: الكلام في العربية سليل الكلم، وهذا قد يعني التكلّم (التلفّظ)، وقد يعني الجرح. وللكلام في الوجه الآدمي جرحه الذي لا يبرأ، ذلك الذي نسميه فماً، والفم في العربية هو أغلب الظن، من التفوّه.

فاسأل العرب لماذا لم يسموا الفم: باب الطعام أو الشراب، مناط القبلة، وربطوه بالكلمة التي كان في البدء.

وقلت للمسرحي الأجنبي، فكِّر وأنت تعدُّ عملك عن شهرزاد بأن كلّ حكاية..حياة، وكلّ حكاية وجود، فالحكاية، إذن، هي "الكوجيتو" البديل:

أنا أحكي، أنا موجود. لأنَّ الصمت، في حالة شهرزاد يعني العدم. صمت راوية الحكايات الألف يعني انتصار السيف على الحياة التي تسكن الحكاية، وليس على التسلية التي تبعد الضجر. لكن ليس كل كلام حكاية، وليس كلّ كلام حياة. فنحن لا نأنس لمن ليس له حكاية، فمن لا يخبر حكايته لا نعرفه ولعله يضمر لنا شيئاً.

البدوي، مثلاً، لا يبدأ، بطبعه الحذر، بسرد حكايته، فالحكاية لثامه، وهو لا يفضُّ لثامه أولاً، لا بد له أن يرى وجه "الآخر".. أي لا بدّ أن يسمع حكايته، لكي يكون مستعداً لرواية حكايته التي عندما تقال للشخص الغلط قد تؤدي إلى الهلاك. وما لم أقله للمسرحي الأجنبي: هناك أموات، بيننا، يتكلمون لغة سادت وبادت. وهم يظنون، كلَّ الظنِّ، أنهم يسعون في مناكبها.


* العربي الجديد
  • 11 يوليو 2016
 
أعلى