عماد عبدالراضى - الأثر القرآنى فى حكايات "ألف ليلة وليلة"

لا ثخفى على أحد الأصول الإسلامية الواضحة فى حكايات "ألف ليلة وليلة"، تلك المجموعة من الحكايات التى يُرجح أن يكون أصلها فارسيا والقصة الإطار هندية، فقد أورد المسعودى فى "مروج الذهب" أن كتابا اسمه (ألف ليلة وليلة) تُرجم منذ أيام المأمون أو المنصور عن الفارسية.

وتمتلئ الحكايات رغم أصلها الفارسى بالكثير من الآثار العربية, سواء المكانية كأسماء المدن والبلاد أو أسماء الشخصيات العربية المشهورة، أو الدينية أو التراثية، فالكتاب الذى وصل إلينا مر بمراحل تطور كثيرة أدخلت عليه حكايات لها أصول أخرى غير الفارسية خاصة الأصول المصرية والعراقية، وأجمع الكثير من الباحثين -أبرزهم المستشرق زوتنبرج- على أن النصوص العربية لألف ليلة وليلة قد أُخذت عن النص المصرى.

وكما تتأثر الأعمال الإبداعية فى حضارتنا كلها تقريبا بالقرآن الكريم، جاءت الليالى حاملة بين سطورها ما يشي بتأثر واضح بالنص القرآنى، حتى وصل الأمر لنقل آيات كاملة من القرآن فى طيات الحكايات، وهذا ما زادها ثراء فنيا، وأيضا زاد من ارتباطها –بشكلها الحالى- بالبيئة العربية.

وتطالعنا فى البداية حكاية "وزير الملك يونان والحكيم رويان" فى الليلة الخامسة بطبعة دار الهلال، ورغم أن سياق القصة بعيد تماما عن الأصول الإسلامية، فهى "فى قديم الزمان وسالف العصر والأوان" وبطلها "ملك فى بلاد الفرس وأرض رومان يقال له الملك يونان"، إلا أن ابن الملك عندما يدعو الله يقول: يا من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السَوْء، وذلك تبعا للآية الكريمة فى سورة النمل "أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ"، وفى الليلة التالية مباشرة يلجأ الصياد إلى وعظ الجنى الذى خالف عهده معه ويريد قتله استنادا على الآية الكريمة من سورة الإسراء: "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا".

وفى بعض الأحيان عمد مؤلف الليالى إلى أن يستوحى من آيات القرآن تفسيرا غريبا لبعض أحداث الحكايات، ففى حكاية "حاسب كريم الدين" عندما حاول رجلان البحث عن قبر سيدنا سليمان لأخذ خاتمه "الأسطورى" من أصبعه، قالت لهما ملكة الحيات: هيهات أن تقدرا على أخذ الخاتم فقالا لها: لأي شيء? قالت : لأن الله تعالى منَّ على سيدنا سليمان بإعطائه ذلك الخاتم وخصَّه بذلك لأنه قال: رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب، وهو تأثر واضح بالآية الكريمة فى سورة (ص): "قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" بالرغم من أنه لا ذكر فى هذا الملك الذى طلبه سليمان لذلك الخاتم الأسطورى والذى من يمتلكه "انقادت له الإنس والجن والطير والوحوش وجميع المخلوقات"، وهذا الخاتم يأتى ذكره مئات المرات فى سياق الحكايات، وتعد رحلة بلوقيا وعفان للبحث عنه حدثا رئيسيا فى حكاية "حاسب كريم الدين".

فقد ﺍﺭﺘﺒﻁﺕ ﺍﻟﺠﻥ ﻭﺍﻟﻌﻔﺎﺭﻴﺕ ﻓﻲ ﻗﺼﺹ "ﺃﻟﻑ ﻟﻴﻠﺔ ﻭﻟﻴﻠﺔ " ﺍﺭﺘﺒﺎﻁﺎ ﻭﺜﻴﻘﺎ ﺒﺸﺨـﺼﻴﺔ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺴﻠﻴﻤﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﺍﻟﺫﻱ منحه الله ﺍﻟﻘﺩﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟـﺘﺤﻜﻡ ﻓـﻲ ﺍﻹﻨﺱ ﻭﺍﻟﺠﻥ. ﻫﺫﻩ ﺍﻟﻨﻘﻁﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﺘﺨﺫﺘﻬﺎ ﺒﻌﺽ ﻗﺼﺹ ﺍﻟﻠﻴﺎﻟﻲ ﺃﺴﺎﺴﺎ ﻓﻲ ﺘﺼﻭﻴﺭ ﺍﻟﺠﻥ ﻓﻴﻬـﺎ، ﻓﻴﺭﺴﻤﻪ ﺍﻟﻘﺼﺎﺹ ﺒﺸﻜل ﺍﻟﻤﺎﺭﺩ ﺍﻟﺫﻱ ﻴﺤﻘﻕ ﺃﺤﻼﻡ ﺍﻟﻔﻘﺭﺍﺀ؛ ﻭ ﺍﺨﺘﺭﻋﻭﺍ ﺍﻟﺨﺎﺘﻡ ﻭﺴـﻴﻠﺔ ﺘـﺴﻬل ﻋﻠﻴﻬﻡ ﺘﺴﺨﻴﺭﻩ ﻭﻨﺴﺒﻭﻩ ﺇﻟﻰ ﺴﻠﻴﻤﺎﻥ عليه السلام. كذلك فإن هناك العديد من حكايات الليالى تعتمد على قوله تعالي: "وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ" (الأنبياء: 81- 82) وهى آيات تعتمد عليها كعمود فقرى لأحداثها، كحكاية "مدينة النحاس" على سبيل المثال، حتى أن بعض الطبعات وضعت جزءا منها تحت عنوان: "حكاية في شأن الجن والشياطين المسجونين في القماقم من عهد سليمان عليه الصلاة والسلام" وأخرجت أحداث هذا الجزء من حكاية "مدينة النحاس".

ويبدو التأثير القرآنى أكثر عمقا فى حكاية "مدينة النحاس", فإن وصف المدينة والقصر الذى مرَّ عليه الباحثون عن مدينة النحاس قريب جدا من تفسير الآية الكريمة فى سورة الحج: " فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ"، فقد قال الطبرى فى تفسيره لقول الله تعالى "قصر مشيد": رَفِيعٍ بِالصُّخُورِ وَالْجَصِّ ، قَدْ خَلاَ مِنْ سُكَّانِهِ، بِمَا أَذَقْنَا أَهْلَهُ مِنْ عَذَابِنَا بِسُوءِ فِعَالِهِمْ، فَبَادُوا, وَبَقِيَ قُصُورهُمُ الْمُشَيَّدَةُ خَالِيَةً مِنْهُمْ". وهذا التفسير للآية هو أبسط وصف للقصر الذى مرَّت عليه قافلة البحث عن مدينة النحاس.

ومن أبرز حكايات ألف ليلة التى اعتمدت بشكل أساسى على الأثر الإسلامى حكاية "تودد الجارية". وقد اقتبست الحكاية من معانى آيات القرآن ونصوصها الكثير، والحكاية من أبطالها الخليفة العباسى هارون الرشيد الذى شهد حوار الجارية مع صفوة علماء دولته.

وفى بداية الحكاية تستحضر الجارية معنى حديث شريف، فعندما يسألها الفقيه: أخبريني عن الفرائض الواجبة؟.. أجابت: أما الفرائض الواجبة فخمس: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلاً.. ثم تبدأ الجارية فى الاستعانة بمعانى آيات القرآن الكريم أو بنصوص الآيات فى إجاباتها على العلماء، فحينما سُئلت عن الجهاد أجابت بالآية الكريمة من سورة الأنفال "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ"، ولما سُئلت عن أبواب السماء قالت: "وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا" (سورة النبأ)، وفى إجابتها على الآية التى فيها تسع آيات، ذكرت آية من سورة البقرة "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"، وذكرت الآية الكريمة من سورة النحل "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" عندما سئلت عن أى آية أعدل.. وغير ذلك من الآيات التى لا يتسع المقام لذكرها.

والحقيقة أننا لو تتبعنا الأثر القرآنى فى حكايات "ألف ليلة وليلة" لاستلزم الأمر عدة مجلدات، ومن المؤكد أن هذا يشير إلى أن الكتاب الذى بين أيدينا الآن ليس هو الترجمة الفارسية لليالي، بل هو كتاب اعتمد هذه الترجمة كنواة، وتدخلت فيه أيدى عربية ومصرية لتصنع تلك النسخة التى تبدو وكأنها خرجت من بيئة عربية وإسلامية، وربما يكون هذا ما دفع الكثير من الباحثين إلى التشكيك –أصلا- فى انتماء ألف ليلة وليلة للأدب الفارسى، بل جزموا بأنها عربية الأصل.

المصادر: حكايات "ألف وليلة وليلة" طبعات (الشيخ محمد قطة العدوى – سعيد على الخصوصى – دار الهلال الطبعة الخامسة)

مجلة فصول: العددين الأول والثانى من المجلد الثالث عشر – صيف وربيع 1994.

مقدمة الطبعة الخامسة لدار الهلال بقلم: طاهر الطناحى.

أطروحة ماجستير "ﺷﺨﺼـﻴـــﺔ اﻟﺠــﻦ واﻟﻌﻔــﺎرﻳــﺖ ﺑﻴـــﻦ اﻟﻘـﺮﺁن اﻟﻜـﺮﻳــﻢ و أﻟـﻒ ﻟﻴﻠــﺔ وﻟﻴﻠــﺔ (ﺩﺭﺍﺳـﺔ ﺳﻴﻤﻴـﺎﺋﻴـﺔ ﻣـﻮﺍﺯﻧـﺔ )" – إعداد: ﺤﺴﻨﺎﺀ ﺴﻌﺎﺩﺓ.


* ahramorgeg
 
أعلى