محمد حياوي - ألف ليلة وليلة الخيال كضرورة

لا يختلف أثنان على أن كتاب ألف ليلة وليلة المبهر في حكاياته وخيالاته المُطلقة وتكنيكه البسيط في السرد. لكن حكايتي مع هذا الكتاب كانت مختلفة بعض الشيء، فقد قيض لي قراءته في سن مبكرة للغاية، بعد أن رفض أمين المكتبة العامّة في مدينة الناصرية آنذاك، صبري الأمين، إعارته لي بسبب صغر سني وعدم ملاءمة مضومنه لفئتي العمرية، الأمر الذي زاد شغفي بالكتاب وأثار خيالاتي وصار هاجسي وهمّي هو الحصول عليه وقراءته، تحدّثت إلى خالي الذي كان يشرف على اختيار الكتب لي ويرعى نهمي للقراءة كي يستعيره، لكنّه رفض، ثم سمعت منه أن النسخة الموجودة في المكتبة العامّة هي نسخة قديمة غير “مشذبة” تسمى نسخة بولاق، وهي غير مناسبة لعمري على الرغم من ندرتها، وما كان الأمر ليطفئ رغبتي المشتعلة، فكنت أرابط في حديقة المكتبة العامّة علني أجد من يستعير لي الكتاب من البالغين من دون جدوى.

وبعد مرور أسابيع طويلة صادفت محاميا يسكن في الشارع القريب من بيتنا وتوسلته أن يستعير الكتاب لي، كان الرجل طيّبا للغاية ومهتما بالكتب القانونية تحديدا، فسألني في ما إذا كان الكتاب مخصصا للأطفال، وأخبرته بأنّه كتاب حكايات شيقة سينفعني كثيرا، وهكذا تمكنت من الحصول على المجلد وهرعت إلى سطح الدار، حيث كنت أقضي أياما مع حكايات التاجر والعفريت وحمّال بغداد والخياط الأحدب والتاجر اليهودي وحسن الدمشقي وغيرها من القصص التي ألهبت خيالي وأدخلتني في عالم أسطوري ملوّن، وكنت مندهشا للجرأة المهولة التي اعتمدها الرواة في وصفهم للأحداث والعلاقات والأسفار والحيل والصراعات.

وعندما كبرت قليلا صرت أجمع النسخ المختلفة منه وأتسقط أخبار الطبعات الخاصّة به، حتّى تراكمت لدي بنية تحتية كبيرة من الطبعات والكتب التي تتناول حكايات ألف ليلة وليلة بالنقد والتحليل، ثم كتبت دراسة مطوّلة عما أسميته “الوسيط الحكائي في ألف ليلة وليلة”، ثم التقيت بأستاذي محسن الموسوي، الذي كان قد وضع كتابا باللغة العربية والإنكليزية عن تأثير الليالي على الأدب الأنكليزي، وفي مرحلة لاحقة تبنيت مشروعا واعدا في تقطيع الحكايات وربط نهاياتها وفقا لتسلسل الليالي، بما شكّل مادّة ممتازة لسلسلة ألف ليلة وليلة للأطفال التي أصدرت أكثر من أربعين ليلة منها في كراسات ملوّنة مزودة بالرسومات الشيقة بالتعاون مع عدد من الرسامين في بغداد، حتّى توقف المشروع عندما اضطررت إلى الهرب من العراق في العام 1992، ومازلت محتفظا بالبنية التحتية للمشروع الطموح الذي أحلم بتنفيذه في المستقبل.

لا تقتصر معجزة ألف ليلة وليلة على ربط فعل الحكي وتواصله بالموت الوشيك للراوية الأجمل شهرزاد وحسب، بل إن فعل التشويق والنهايات الوشيكة لكل حكاية وتوافقها مع حلول الصباح واضطرار شهرزاد للتوقف عن الكلام المباح، هو دليل على متانة الحبكة وامتلاك ناصية السرد الآسر وتطويعه بما يتناسب وهواجس الراوية الأولى، التي هي نتاج الخيال الجمعي لأزمنة الاسترخاء العربية وبحبوحة العيش الرغيد في المدن التي تدور فيها الأحداث، وهي تمتد على رقعة واسعة من أقصى الهند والصين شرقا حتى دمشق والقاهرة واسطنبول غربا. لقد ابتكر الخيال الجمعي وسيلة لخلق وسيط حكائي من نوع ما، ينتصر في الليالي للفقراء وأبطالهم في الغالب، فقدّم نموذج “حمّال بغداد” كنموذج مواز لنموذج “روبن هود” الغربي، كما قدّم حكايات الملوك والسلاطين والأمراء كبديل خيالي للواقع الذي يصعب تحقيقه، منطلقا من مبدأ بسيط للغاية مفاده، ما لم تستطع تحقيقه تخيله ببساطة.

وفي الوقت الذي لم تكن ثمَّة كاميرات وأجهزة تصوير وتقنيات تنقل لنا ما يحدث في القصور من مباهج وموبقات، قدّمت لنا الليالي بديلا متخيّلا مغرقا بالتفصيلات المبهرة، وكلما كان خيال القارئ للكتاب خصبا كلما ازدادت متعته في القراءة وتمكن من التلصص على أسرار حريم السلاطين وحكايات الجواري الجميلات ومفردات انتقام الفقراء من جشع الأغنياء وتعاليهم، وفي المحصلة لا أعتقد شخصيا أن ثمّة كتابا يفوق كتاب ألف ليلة وليلة قدرة على الوصف والحبكة والخيال الخلاق.

كاتب من العراق
محمد حياوي
:: مقالات أخرى لـ محمد حياوي
رموز التاريخ المخدرة , 2017/07/02
إهمال الشرق الأدبي في الترجمة , 2017/06/23
ليس بالمال وحده تصنع الأفلام , 2017/06/18
نظرة واقعية لمتطلبات الجمهور , 2017/06/16
الإقبال على القراءة بالفرنسية , 2017/06/11

محمد حياوي
 
أعلى