حكيم عنكر - آراء والدي... وشراك "ألف ليلة وليلة"

لعب والدي رحمه الله، الذي تحل اليوم ذكرى رحيله الأولى، دوراً كبيراً في توجيهي نحو عالم الأدب. لم يكن والدي أو "با العربي"، كما تناديه عموم الجماهير الشعبية في بلدتي، خريج القرويين أو المدارس الحديثة. فهو كان قد ولد في 1948، تلقى تعليمه مثل قليلين من أقرانه في الكتاب القرآني، فقبيلته، أولاد الحاج العربي، جده، التي أنتمي إليها معروفة بحفظتها النجباء للقرآن الكريم، ومتخرجوها من خيرة "الطلبة" أي الفقهاء، وأجود الأصوات وأشجاها.

لكن والدي لم يكمل تعليمه القرآني، إذا سرعان ما رحل في مغامرة في مراهقته الأولى، نحو الرباط، ثم فجأة دفعه حس الشباب المغامر إلى التوجه نحو الجزائر، وبالضبط مدينة وهران، وتنقل بينها وبين تلمسان، حيث عاش سنوات هناك. ويدعي أنه تزوج، كما كان يروي لنا في حياته المنشرحة، التي لم يعشها أبداً عبوساً، إذ كان دائم التبسم وحييا ورجل نكتة، إضافة إلى كونه متحدثا باهراً، ومجادلا لجمهرة رجال التعليم والطلبة وأصدقاء أبنائه، الذين سطا عليهم، وأمّمهم وصاروا أصدقاء له.

في أحد الأصياف الحارة من سنة 1979، وبينما بادية "دكالة" تعيش موسم جني محاصيلها الوفيرة، سيأتيني بحزمة من المجلدات كانت هي أجزاء ألف ليلة. بعض الأجزاء كانت منزوعة الغلاف. في تلك الفترة وأنا أنتقل إلى المرحلة الإعدادية، شكلت هذه الهدية غير المتوقعة الباب المشرع نحو العالم السحري الذي اكتشفته مبكراً.

لما لاحظ ولعي، وكيف كنت أغيب في ليالي الحصاد تلك في ذلك الفضاء الفسيح، زودني بشيئين ثمينين: فائض من الشمع كي أقرأ على راحتي طوال تلك الليالي الحالمة، وحزمة أخرى من الكتب. كان الكنز يحتوي، هذه المرة، على سيرة سيف بن ذي يزن وسيرة عنترة بن شداد.

وبذلك اكتملت الحكاية، وأصبحت لي أفضلية ما عن أصدقائي. فقد كانت الإذاعة الوطنية تذيع في تلك الفترة تمثيلية "سيف بن ذي يزن" بعد الظهر، على حلقات ببطولة صاحب الصوت الذهبي الفنان حسن الجندي، ولأني كنت قرأت السيرة، فقد كنت غالباً ما أستبق إلى سرد ما سيجري من أحداث.

أدين لهذا الأب، معلمي الأول بالكثير، ولما جلب لي مجلد حنا الفاخوري "في تاريخ الأدب العربي" كان قد فتح أمامي الطريق مشرعة نحو طرق باب الأدب وبزوغ البدايات الأولى لمحاولات ستتوج بنشر أول نص في صفحة الشباب، في جريدة "الاتحاد الاشتراكي" سنة 1985.

ربما كانت مرحلة مفصلية لما سيأتي، ولعلاقتي به كأب. فقد "غسل" يديه نهائياً من أن أصير موظفاً رسمياً. وبشكل ما، كان يرى نفسه مسؤولاً عن "إفسادي" بتلك الكتب التي جلبها لي. ومخاوفه نحوي باتت جدية، لقد أيقن أن "الشعراء يتبعهم الغاوون".

لكن العالم السحري لألف ليلة لم يفارقني منذ تلك الفترة، فقبل أن أتحول إلى الشعر، بدأت بكتابة نصوص سردية لم أنشر منها غير ذلك النص في 1985، عكس ما يحدث اليوم، حين يهاجر الشعراء أسراباً إلى الرواية والنصوص السردية.

في سنة 2001، سأنشر ديواني الأول "رمل الغريب"، قلت له مازحاً وأنا أمدّ له نسخة من الكتاب: قبيلة الفقهاء أنجبت شاعراً. أجابني: هل تكتب مثل عنترة بن شداد؟ هل تكتب مثل أبي نواس؟ ثم أردف بتهكمه الجميل: شعر أولاد اليوم على "قد الحال" خفيف في الميزان.

كان قد سمع بأبي نواس من مجادلة ذات حفل عشاء أقامه على شرف "سي مبارك"، فقيه الجامع الذي يحفظ ألفية بن مالك والأجرومية. تجادلنا تلك الليلة بشدة، وقد فاجأني دفاع الفقيه عن شعر الرجل، وكنت وقتها طالبًا في المرحلة الثانوية، وقد أصابتني لوثة ديستويفسكي وغالب هلسا وعبدالرحمن منيف وجبرا ومينة والخراط وغيرهم. كان يبدو لي "الأدب العربي" كما رسمه حنا الفاخوري يسبح في واد سحيق، في حين كانت النصوص الجديدة تقرع الحواس وتهيئ الشاب الذي كنته لمرحلة قادمة.
 
أعلى