موريس أبو ناضر - الأدب العجائبي والعالم الغرائبي التاريخ و مواجهة المتخيل والسحري

مع تطوّر علوم الإنسان تحت تأثير العلوم الطبيعية من جهة، وتطوّر النظرة الى الأنا العربية بإزاء غرب الهيمنة والتسلط من جهة أخرى، تبدو الحاجة ملحة الى إعادة تصوّر التاريخ الثقافي العربي انطلاقاً من الأنا العربية المفكرة، والمستقلة بذاتها عن التاريخ الأوروبي الذي صاغ صوراً عن ذاته وعن الآخرين، تتوافق مع أيديولوجيا التفوق العرقي والثقافي والديني، التي بشر بها أرنست رينات ووطدها هيغل، وبعثها من جديد في أيامنا فوكوياما وهاتنغتون.

قُسّم تاريخ الثقافة العربية الى عصور قياساً على التقسيم الثقافي الغربي، وبخاصة الفرنسي، وقسّمت الثقافة العربية الى ثقافيتين، ثقافة رسمية هي ثقافة البلاط، وأخرى تتعلق بثقافة الناس تماشياً مع التقسيم الغربي، وبذلك حُكم على هذا العصر بأنه عصر انحطاط، وحكم على ذلك التراث بأنه تراث شعبي. إن التقسيمات الغربية التي تم الاهتداء بها في النظر الى الثقافة العربية أبعدت هذه الثقافة عن مفهوم الشمول، والتكامل، ودفعتها الى غضّ الطرْف عن ثقافة الحياة اليومية: كشعر الفقر وشعر الجنون والجنس، والتجاوز الأخلاقي، ونثر الرحلة، والأحلام، والمؤلفات العجائبية، والسير الشعبية.

في ضوء ما تقدّم يبدو عمل الناقد كمال أبو ديب حول مخطوطة «العَظَمة» لعبدالله بن سلام دليلاً فريداً على التفاتته الى الأدب غير الرسمي حيث الخيال يتجاوز المعقول والمنطقي والتاريخي والـــواقعيّ ليلامس الـــماورائي بكل ما فيه من محدود ولا مألوف.

تكمن البؤرة التصورية لنص مخطوطة «العظمة» في كونه اقتباساً لكتاب سري هو «كتاب الدفائن» لدانيال يقدمه عبدالله بن سلام للخليفة عثمان بن عفان. وفيه مشاهد ورؤى عن العالم العُلوي تبلغ ذروتها الجمالية في وصف الجنة، حيث يُلغى الزمان، ويتبخر المكان، وتعطل آليات الوجود وقوانينه، وتنقلب آليات نشاط الجسد الإنساني، ويتحول العالم إنساناً وسيداً وأشياء، الى كون خارق لكل ما هو مألوف ومدرك. وحيث أيضاً تتحقق غرائب الأحلام وتتسربل الأشياء بشهوة الإرادة البشرية: «في كل جنة ثمانمئة ألف مدينة، في كل مدينة ألف ألف قصر من الذهب الأحمر والدرّ والجوهر والياقوت الأحمر والزمرّد الأخضر. في كل مدينة أربعة آلاف ألف ألف ألف باب من الفضة البيضاء مساميرها من الذهب الأحمر. في كل قصر... ألف غرفة... في كل غرفة ألف شباك... على كل شباك... سرير من الذهب الأحمر... على كل سرير ألف ألف فراش جالسة عليها حورية من الحور العين».

من بين المشاهد العجيبة أيضاً التي يتجلى فيها فعل الخيال المتجاوز، ما يرويه عبدالله بن سلام في المخطوطة عن أرض من الرصاص فيها مدن من الذهب الأصفر. لأهل هذه المدن «سرر، كل سرير منها يسير بصاحبه حيث يشاء إذا أمره، أما الخلق أنفسهم فلهم وجوه مثل وجوه بني آدم، وأبدانهم أبدان طيور، وأرجلهم أرجل بقر ورؤوسهم كرؤوس الآدميين».

من منظور معرفي خالص تبدو آراء كثيرة مما يطرحه كتاب العظمة جديرة بالتأمل والتحقيق على ما يذكره كمال أبو ديب مؤلف «الأدب العجائبي والعالم الغرائبي». فما هي قيمة المادة التي يحتويها النص علمياً مثلاً؟ هل كانت بعض الأفكار التي يطرحها شائعة زمن الخليفة عثمان بن عفان أم متاحة للخاصة من الناس فقط؟ بل هل كانت مما يندرج في إطار معرفة العصر العلمية؟ أم انها جموح إبداعي لخيال خلاّق يبتكر ويفتري يختلق ما شاءت له المتعة ونشوة الافتراء أن يفعل؟ يكتب كمال أبو ديب في هذا السياق: «إن فكرة العوالم المملوءة بمخلوقات لهم مناسكهم وعباداتهم وأنباؤهم، وقيامتهم وقوانين حسابهم الخاصة بهم، ولهم جنتهم ونارهم، ولهم كتبهم السماوية المختلفة عما لنا، مع أنهم لا يعرفون بنا ولا نعرف بهم، لتبدو لي دليلاً على تفتح عقلي وعقائدي بارز». هذا ويعتبر مؤلف الكتاب أن المشاهد التي يصفها النص في «حضرة القدس» بين أروع المشاهد الماورائية التي صاغها الخيال والإبداع.

من بين السمات المميزة لكتاب «العظمة» الذي يحققه أبو ديب ويقدم له، بعض تقنيات السرد الروائي التي تصل الى درجة عالية من النضج والتعقيد. فللكتاب عملياً ثلاثة رواة: الراوي الأول، وهو ناطق النص المكتوب أمامنا من ألفه الى يائه، والراوي الثاني، وهو ناطق النص الذي يرويه الحسن بن الحسن البصري، والراوي الثالث، وهو ناطق النص الذي يرويه عبدالله بن سلام. أي اننا أمام بنية سردية هي «بنية الدوائر المتعالقة» على ما يقول أبو ديب، بنية تؤدي الى خلق الحس الدرامي بفعل المسرودات المتنقلة بعفوية ساحرة من راوٍ الى راو، ومن قطاع سردي الى قطاع آخر: «وخلق لهم جنة وناراً». فقال عثمان (رضي الله عنه): هل عاينوا تلك الجنة والنار؟ قال عبدالله بن سلام (رضي الله عنه): تعرض عليهم بالغداة والعشي. فقال عثمان: هل لهم ليل؟ قال: نعم ولكنه يسطع البحر الذي على باب كل مدينة فتكشف تلك الظلمة عنهم. فقال عثمان: هل ينامون شيئاً؟ قال عبدالله بن سلام: لا يعرفون النوم إلا القليل، ويميلون الى اليقظة، مطيعين مسلمين غير معرضين».

إن أبرز النتائج التي تنجزها هذه البنية السردية المتشابكة، وهذا التصور لفن السرد هو تحويل المتلقي من متلقٍ سلبي، يستمع في مكان خفي، الى فاعل حقيقي في النص والى شخصية من شخصياته، بل ما هو أبلغ من ذلك تحويل الراوي أو السارد نفسه الى شخصية من شخصيات النص. وقد يكون كتاب «العظمة» يُؤسس لهذا الإنجاز الفني قبل بورخيس وفاولز. من ذلك هذا المقطع الذي يتحوّل فيه ابن سلام الى بطل من أبطال الحدث المسرود يسرده الحسن بن الحسن البصري.

ويلاحظ مؤلف كتاب «الأدب العجائبي والعالم الغرائبي» بعداً آخر من أبعاد العملية السردية وتقنياتها في كتاب «العظمة»، هو اللعب على الزمن التاريخي والخلط بين الأزمنة خلطاً بارعاً هدفه تعميق صدقية النص وتحويل المتخيل الى ما يملك واقعية الفعلي. ففي بداية النص ينسب الراوي الأول الى الإنسان الأول إخفاء المعرفة في ألواح من الطين خبأها في مغارة «المانعة» في سرنديب في الهند. وقدّم الراوي هنا مكاناً جغرافياً واقعياً موجوداً بالفعل هو جزيرة سرنديب (سيلان) القريبة من السواحل الهندية. وهكذا فإن الراوي يلغي التسلسل التاريخي، وينسب لما كان في عهد آدم اسماً لم يصر له إلا بعد آلاف السنين، ويجعل الراوي المنضوي في الرواية الأولى يشير الى ما لم يكن قد كان بعد في زمنه بل كان لا يزال في رحم الغيب.

تتجلى السيطرة التقنية على تشكيل النص الذي يرويه عبدالله بن سلام في أكثر من دائرة سردية تذكر بكبار الروائيين المعاصرين. هذا التجلي يلتقط خيوطه ببراعة ويظهره أبو ديب في حالة تنامي حركة البنية السردية وانفضاضها. وتتمثل هذه الحركة كما يبيّن أبو ديب في نسق لبابي معقدّ بعيد كل البعد من نمط التنامي السردي البسيط في مثل «كليلة ودمنة» من الحكايات. ويتألف هذا النسق من ثلاثة اتجاهات، الأول هو المكوّن السردي الخالص، والثاني الانبثاق للعناصر المسرحية، والثالث هو المنطوق المباشر للسارد الذي يتخذ إما هيئة تعليق مباشر، أو ابتهال متوجه الى البارئ أو استخلاص لعبرة قيمية، دينية المحتوى تمثل تعميماً على الموقف الإنساني عامة.

لا شك في أن التراث العربي غني بالأدب الخوارقي والغرائبي، من مثل كتاب «العظمة» و «منامات الوهراني»، و «الدرة الفاخرة» لأبي حامد الغزالي، و «رسالة الغفران» للمعري و «ألف ليلة وليلة». وهذا الغنى إن دلّ على شيء فإنه يدل على أن بعض الباحثين الغربيين ومن بينهم أرنست رنان الذي وصف الساميين ومنهم العرب بأن لا خيال لهم كانوا على ضلال. ذلك أن ما تظهره نصوص كتاب «العظمة» تثبت أن الخيال ليس حكراً على أمة، وأن الإبداع العربي المنسي والمهمل في حاجة الى من يضيء عتماته.

موريس أبو ناضر
الحياة اليوم
 
أعلى