عدنان الصائغ - كرة القدم والأدب

وجرني ابني الصغير من كتاب يروي فيه عن أبي البقاء العُكبري في شرحه لديوان المتنبي وأنا ساهم ومتعجب لما رواه بأن الشعراء بعد أن فرغوا من إنشاد قصائدهم أمام سيف الدولة الحمداني، أنشده المتنبي لاميته الشهيرة:
نعد المشرفية والعوالي= وتقتلنا المنون بلا قتال

حتى إذا وصل إلى:
رماني الدهر بالأرزاء حتى = فؤادي في غشاء من نبالِ
فصرت إذا أصابتني سهام = تكسرت النصال على النصال

وكان السري الرفاء ـ وهو شاعر من الموصل ـ جالساً في الديوان، فقام محموماً من ساعتها وظل مغموماً حتى مات.

وقادني ضاحكاً إلى مباريات كأس العالم التي كانت تُبث من كل المحطات والأقمار الاصطناعية، فتركت لغة الرأس إلى لغة القدمين متعجباً من هذه الملايين الملينة من البشر التي تركت السري الرفاء يموت وحيداً مكظوماً على فراشه في أحد أزقة التاريخ الأدبي، وهرعت بالطائرات وبالقطارات والبواخر والسيارات والدراجات النارية والهوائية والرولور ومشياً على الأقدام، إلى فرنسا، ليس من أجل برج ايفل وسارتر وبودلير وهوغو، وإنما إكراماً للأقدام الذهبية التي ستغير خارطة الأحداث التاريخية والسياسية والثقافية قبل نهاية القرن الحالي، وتساءلت مع نفسي: لماذا مات الرفاء كمداً من اجل قصيدة لم يستطع ان يكتبها ولم يمت باتستوتا من اجل ضربة لم يستطع أن يسددها إلى مرمى خصمه، ثم والأدهى، هل كان سيحصل الرفاء أو أبو حيان التوحيدي أو الرصافي أو أمل دنقل أو شوقي أبو شقرا أو السياب أو جان دمو لو انه كتب آلاف المجلدات مثلما يحصل أي لاعب من الدرجة الرابعة. وعلى ذلك، هل كان الرفاء ـ لو عاش في زماننا ـ أن يموت على سريره كمداً من اجل "نعد المشرفية والعوالي" أو من اجل هدف واحد يحقق له ما لم تحقق للمتنبي كل قصائده التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. لكن "المنون" قتلته "بلا قتال" فلم يحصل على ملايين الكرة اللاعب ولا على شهرة المتنبي فضاع بين متون الكتب وهوامشها رغم رقة شعره، مثلما ضاع آلاف اللاعبين على امتداد ساحات كرة القدم التي أخذت تضاهي مساحة كل قاعات الكتب والمكتبات. ذلك إن لكل شئ درجات ومنازل ومتون وهوامش لا يجوز خلطها كما لا يجوز قياس الأمثلة على نتائجها والتي منها قياس شهرة روبيرتو بايجو بشهرة المتنبي وقيمة رأس الحلاج برأس الحجاج وقيمتهما برأس أبي الهول أو برأس اللاعب ببيتو الذي ادخل الكرة في مرمى تشيلي. وأمض في القياس ما شئت طولاً وعرضاً في شؤون الثقافة والسياسة والتأريخ، لتخرج بما خرج به بورخس في مقولته "إن الصحفيين يكتبون للنسيان" وفي هذا بعض من عزاء للأديب المبدع الذي يجد أضواء الشهرة مسلطة على الصحفي أو الممثلة اكثر منه، وفي هذا أيضاً بعض تعويض للشاعر الكبير الذي يجد جمهوره اقل من ربع جناح في ملعب. وهذه من الأمور التي لا يتجادل فيها اثنان اتفاقاً أو اختلافاً ذلك إن البديهيات لا جدال فيها ولا جدل. ومن بديهيات اللعب إن لا يكون في الملعب اكثر من كرة واحدة، ولا يكون اكثر من حكم رئيسي واحد، ولا يكون في الهدف اكثر من حارس مرمى واحد. لكنك حين تنزل إلى ساحة الأدب تجد الأمر مختلفاً اذ يمكنك ان تلعب بأكثر من كرة ويكون لك اكثر من حكم وهذا من اسس منطق الادب الذي يجمع المتناقضات دون ان يخطّأها، فقد تكتب القصيدة والرواية في نفس الوقت وقد يحكم عليك ناقد بالجودة وآخر بالسطحية ولكل أدلته وبراهينه ونظريته وهذا المنطق الاستقرائي المتفاوت في ساحة الادب ساهم او أغرى عناصر غير كفوءة للتسلل إلى ملعب الكلمة يعبثون ويلعبون ويكتبون ويشتمون ويتشاجرون دون ان يستطيع الحكم اطلاق صفارته او اخراج أحد من الملعب.

وما ضر علم الرياضة ان يأخذ من علم الادب شيئاً من جمالياته واخلاقياته وتجاربه الابداعية. وما ضر الادب ان يأخذ من الرياضة شيئاً من قوانينها وأخلاقياتها وتجاربها وصفاتها. فقد تسمع ان لفلان روحاً رياضية، وتتساءل لماذا لا تكون له روح ثقافية. وقد ترى لاعباً يسقط لاعباً بلا عمد أو يسقطان معاً ويمد الأول يده للثاني يتوكا عليها ويقومان ليواصلا اللعب. وتتعجب ان لا يحدث هذا بين اديبين صديقين وليس خصمين وليس بينهما كرة او غالب ومغلوب.

وقد يسقط اللاعب خصمه اللاعب الثاني عامداً فيخرج الحكم كارتاً اصفرَ أو احمرَ ليخرجه من الملعب. وتتطلع حولك عجباً وانت ترى مبدعاً يركض بأنياط قلبه لإيصال نصه وصوته للناس، وحوله ووراءه عشرات الفاشلين يضعون عصاهم أو أقدامهم بين قدميه ليسقطوه، وقد يطلقون الرصاص أو الاشاعات وراء ظهره، دون ان تجد من يوقفهم او يخرجهم او يوبخهم على الاقل. ويحرز اللاعب هدفاً فيقبّله الجميع رغم حسدهم !

او تمنياتهم لو انهم قد حققوه ويحرز المبدع نجاحاً في قصيدة او لوحة فيشحذ الاخرون خناجرهم وبياناتهم علناً او سراً.

وهذا كله وغيره امر لا يستهان به ابداً في دراسة ظاهرة انحسار دور الادب في الحياة. والذي جعل القدم اهم من الرأس، وجعل مارادونا اشهر من ميلان كونديرا، ورونالدو اغنى من عبد الرحمن منيف.

ولا تغفل هذا وانت ترى مئات الملايين مشدودين إلى ملعب الكرة، ولا ترى المبدع إلا مخذولاً امام منصة الكلمة وليس امامه سوى اشخاص معدودين.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...