وللزنبور والبازي جميعاً ... لدى الطيران وأجنحةٌ وخفق
ولكن بينما يصطاد بازٍ ... وما يصطاده الزنبور فرق
(لأحدهم)
مما لا يختلف به أثنان أن الشعراء يفضل بعضهم بعضاً كما تفضل الأصابع بعضها بعضاً. (فمنهم) من غاص في بحار التصورات وكان في عالم الأوهام فأدنى ذلك البعيد وصاغه بقالب الحقيقة لقربه من الأفهام.
(ومنهم) من وصف ما هو منه أدنى من حبل الوريد. ولم يكن في نظمه غيرأوزانٍ وتقاطيع تسمع في نقر النحاس وطنين الأجراس ما هو أوقع منها في النفوس. بل ربما كان في تصويت الذباب إيقاع وتأثيرليسا فيها ولذلك قال بعضهم مفتخراً:
ولا تحسبن أنّ بالشعر مثلنا ستصير ... فللدجاجة ريشٌ لكنها لا تطير
وقال الأمير علم الدين أيدمر المحيوي:
فإن لم يكن نظم القصائد شيتى ... وليس جدودي يعربٌ وأياد
فقد تسجع الورقاء وهي حمامة ... وقد تنطق الأوتار وهي جماد
وقال الشيخ ناصيف يازجي:
من ضاع أكثر شعره في باطلٍ ... فكأنما قد ضاع أكثر
(ويتفاضل الشعراء) بصور الخيال وجودة القريحة وصفاء الذهن والسواعي التي تحدث لكل منهم إذ للأحوال أسباب تحمل على الأجادة والأبتكار ومع هذا قد يخطئ من أجمع العلماء على مدحه واستحسان منظومه.
فهذا عبد الله بن المعتزّ مع اشتهاره بانسجام أبياته وصحة معانيه قد قال في وصف كتاب:
ودونكه موشى نمئته ... وحاكته الأنامل أيّ حوك
بشكل يرفع الأشكال منه ... كانّ سطوره أغصان شوك
فأخطأ الغرض إذ جعل سطور الكتاب شوكاً والشوك يذمّ ولا يمدح. وإن كان بينه وبين الشكل مشابهة وأين هذا من قول ابن قرناص:
هو مالك قد أصبحت ألفاظه ... حلياً على جيد الزمان العاطل
وكانّ أسطره خلال دروجه ... ظلّ النصون يلوح بين جداو
ومن قول الشيخ عبد الغني النابلسي على التشبيه:
ولم تلهني كتب الرياض وقد حوت ... حروف غصونٍ للندى فوقها نقط
ومدت من الأوراق جعد ذوائب ... كأن انعطافات النسيم لها مشط
وقال أبي تمام الطائي:
فإذا كتابك قد تخير لفظه ... إذا كتابي ليس بالمتخير
وإذا رسومٌ في كتابك لم تدع ... شكاً لنظارٍولا متفكر
شكل ونقطُ لايخيل كأنه ... الخيلان لاحت بين تلك الأسطر
وقد يجيد شاعر ولا يجيد الآخرقال الهيثم بن عديّ لقوم: أنشدوني أحسن بيت وصفت به الثريا فقيل بيت الزبير الأسدي وهو:
وقد لاح في الغور الثريا كأنما ... به راية بيضاء تخفق للطعن
فقال: أريد أحسن من هذا فقيل بيت امرئ القيس:
إذا ما الثريّا في السماء تعرّضت ... تعرض أثناء الرشاح المفصّل
فقال: أريد أحسن من هذا فقيل بيت ابن الطثرية:
إذا ما الثريّا في السماء كأنها ... جمانٌ وهي من سلكه فتسرعا
فقال: أريد أحسن من هذا فقالوا ما عندنا شئ. فقال: قول أبي قيس بن الأسلت الجاهلي:
وقد لاح في الصبح الثريّا لمن رأى ... كعنقود ملاحيةٍ حين نورّا
قال: فحكم له بالتقدم عليهم في هذين المعنيين
وقال الشيخ أحمد المقري في كتابه (نفح الطيب في تاريخ الأندلس الرطيب) في مناظرة فضل فيها شعراء الأندلس ما نصه:
وهل منكم شاعرٌراى أن الناس قد ضجوا من سماع تشبيه الثغر بالأقاح وتشبيه الزهر بالنجوم والخدود بالشقائق فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديداً. وكليله في الأفكار حديداً. فأغرب أحسن أغراب. وأعرب عن فهمه بحسن تخيله انبل أعراب. وهو أبن الزقاق:
واغيدٍ طاف بالكؤوس ضحى ... وحثها والصباح قد وضحا
والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبري قد نفحا قلنا:
ولأين الأقاح قال لنا: ... أودعته ثغر من سقى القدحا
فظلّ ساقي الدام يجحد ما ... قال فلما تبسم أفتضحا
وقال أيضاً:
أديرها على الروض الندى ... وحكم الصبح في الظلماء ماض
وكاس الراح تنظر عن حبابٍ ... ينوب لنا عن الحدق المراض
وما غربت نجوم الأفق لكن ... نقلن من السماء إلى الرياض
وقال أيضاً:
ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى لها نسيم الرياح
زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تروق لون الراح
قلت: ما ذنبها فقال مجيباً: ... سرقت حمرة الخدود الملاح
قال المقري: فانظر كيف زاحم بهذا الأختيال المخترعينوكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين أ. هـ وسمع بعضهم قول القائل:
فلا تحقرنّ عدواً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإن السيوف تحزّ الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر
فقال: هذا حسن جيد. ولكن قول القسطليّ أفضل. وهو:
أثرني لكشف الخطب والخطب مشكلٌ ... وكلني لليث الغاب وهو هصور
فقد تخفض الأسماء وهي سواكنٌ ... ويعمل في الفعل الصريح ضمير
وتنبو الرّدينيات والطول وافرٌ ... ويبعد وقع السهم وهو قصير
ومن ذلك أن عمر بن الشهيد أنشد المعتصم من قصيدة قوله:
سبط البنان كأن كلّ غمامةٍ ... قد ركبت في راحتيه أناملا
لا عيش إلاّ حيث كنت وإنما ... تمضي ليالي العمر بعدك باطلا
فالتفت المعتصم إلى من حضر من الشعراء وقال لهم: هل فيكم من يحسن أن يخلب العقول بمثل هذا؟. فقال أبو جعفر الخرّازالبطوني: نعم. ولكن للسعادة هبات وقد أنشدت قبل هذا أبياتاً أقول منها: وما زلت أجني منك والدهر ممحلٌ ... ولا ثمرٌ يجنى ولا الزرع يحصد
ثمار ايادٍ دانيات قطوفها ... لأغصانها ظلٌ عليّ ممدّد
يرى جارياً ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري فوقهنّ تغرد
فأرتاح المعتصم وقال: أأنت أنشدتني هذا؟ قال: نعم. قال: والله كأنها ما مرّت بسمعي إلى الآن. صدقت للسعد هبات. ونحن نجيزك عليها بجائزتين. الأولى لها. زالثانية لمطل راجيها. وغمط إحسانها (اه)
و (من ذلك) أن أعربياً دخل على ثعلب وقال: أنت الذي تزعم أنك أعلم الناس بالأدب. فقال. كذا يزعمون فقال أنشدني أرق بيت قالته العرب سلسلة فقال: قول جرير
إن العيون التي في طرفها حورٌ ... قتلننا ثم لم يحين قتلانا
يصر عن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله أنسانا
فقال: هذا الشعر غث رث قد لاكته للسفلة بألسنتها. هات غيره فقال ثعلب: أفدنا من عندك يا أعرابي. قال: قول سلم بن الوليد صريع الغواني:
نبارز أبطال الوغى فنبيدهم ... ويقتلنا في السلم لحظ الكراعب
وليس سهام الحرب تفني نفوسنا ... ولكن سهامٌ فوّقت بالحواجب
فقال ثعلب لأصحابه: أكتبوها على الحناجر ولو بالخناجر
(ومن ذلك) قول الشاعر المخزومي:
العيب في الخامل المغمور مغمور ... وعيب ذي الشرف المذكور مذكور
كفوفة الظفر تخفى من حقارتها ... ومثلهافي سواد العين مشهور
فقال آخر بمعناه:
قد تخفض الرجل الرفيع دقيقةٌ ... في السهو فيها للوضيع معاذر
فكبائر الرجل الصغير صغائر ... وصغائر الرجل الكبير كبائر
وقال الخفاجي:
كم من عيوبٍ لفتىً عدّها ... سواه زيناً حسن الصنع
فتكتهُ الياقوت مذمومةٌ ... وهي التي تحمد في الجزع
وربما جاء الشاعر بمعنيين أحدهما يفضل الآخر كثيراً كقول بشار بن برد: إنما عظم سليمى حبّتى ... قصب السكر لا عظم الجمل
وقال بشار نفسهفي موضع آخر بالمعنى نفسه وهو بليغ:
إذا قامت لحاجتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران
فأنظر الفرق بين قوليه والتفاوت بين خياليه ومن أعجب ما يروى عن بشار هذا أنه سمع قول كثير بن عبد الرحمن:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكف تلين
فقال: قاتل الله أبا صخر يزعم أنها عصا ويعتذر أنها خيزرانة ولو قال عصا مخ. أو عصا زبد لكان قد هجن مع ذكر العصا فهلا قال كما قالت:
ودمجاء والمحاجرمن معدٍ ... كأن حديثها ثمر الجنان
إذا قامت لحاجتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران
ومن المعاني ما يفضل بعضه بعضاُ بدرجات كثيرة مثل قول بشاربن بردالآنف ذكره:
وإذا أدنيت منها بصلاً ... غلب المسك على ريح البصل
فأساء تخييلاً ولعله أكل البصل فكل ذهنه ولم يتصور ألا ما أكله أين هذا من قول المتنبي:
تحمل المسك عن غدائرها الريح ... وتفترّعن شنيبٍ برود
ومن تفاضل الشعراء ما رواه الهيثم بن عدي قال: كنا جلوساً عند صالح ابن حسان فقال لنا أنشدوني بيتاً في امرأة خفرة شريفة فقلنا قول حاتم.
يضئ بها البيت الظليل خصاصة ... إذا هي يوماً حاولت أن تبسما
فقل: هذه من الأصنام أريد أحسن من هذا فقلنا: قول الاعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها ... كرّ السحابة لا ريث ولا عجل
فقال هذه خراجة ولاجة كثيرة الأختلاف فقلنا ما عندنا شئ فقال: قول أبي قيس بن الأسلت:
ويكرمها جاراتها فيزرنها ... وتعتلّ عن أتيانهنّ فتعذر
وليس لها أن تستهين بجارة ... ولكنا منهنّ تحيا وتحفز
وكثيراً ما يختلف حكم الشعراء في أمرين أو أكثر مثل قول ابن الرومي:
أن يخدم القلم السيف التي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت والموت لا شئ يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم
كذا قضى الله في الأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أن أرهفت خدم
وقال في ضد هذا أبو الطيب المتنبي:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيفّ ليس المجد للقلم
وقال في مثل ذلك أبو تمام الطائي:
السيف أصدق أنباءً من الكتب ... في حده الدّ بين الجدّ واللعب
ولقي خالد الكاتب أمد طلبة المبرد فقال له: ما الذي أنشدكم اليوم؟
قال: أنشدنا:
أعار الغيث نائله ... إذا ما ماؤه نفدا
وأن أسدٌ شكى جبناً ... أعار فؤاده الأسدا
فقال خالد أخطأ القائل هذا الشعر. قال كيف قال خالد ألا تعلم انه إذا أعار الغيث نائله بقي بلا نائل وإذا أعار الأسد فؤاده بقي بلا فؤاد قال الطالب: فكيف كان يقول؟ قال
علم الغيث الندى حق إذا ... ما حكاه علم البأس الأسد
فله الغيث مقرٌ بالندى ... وله الليث مقرٌ بالجلد
وأجتمع أبو العتاهية مع محمد بن مناذر فقال له: كم تنظم من الشعر في اليوم؟ فقال له: لا أنظم القصيد إلا في الشهر أو الشهرين فقال له أبو العتاهية: أما أنا فقد يتفق لي في اليوم من النظم الألف فأكثر فقال له نعم أنت تنظم ذلك ولكنك تنظم مثل قولك:
ألا يا عتبة الساعة ... أموت الساعة الساعة
وقولك:
أتراني يا عتاهي ... ناسياً تلك اللاهي
أما أنا فأنظم مثل قولي في رثاء عبد المجيد الثقفي:
إن عبد المجيد يوم تولى ... هدّ ركناّ ما كان بالمهدود
ما درى النعش لا ولا حاملوه ... ما على النعش من عفافٍ وجود
ويظهر تفاضل الشعراء في باب (المآخذ الشعرية) حتى أن الآخذ ربما أجاد وزاد على المأخوذ منه وربما قصر وتأخر منه ولقد نشرت في بعض المجلات كثيراً من المآخذ الشعرية ولا سيما الشعراء بعضهم عن بعض وفي ذلك مسرح لخيال الشعراء ومجال لأحكام أفكارهم الدقيقة في التفاضل وإليك والآن بعض ما صرح به بعض المدققين من هذه المآخذ أوعن لنا قال المجي في خلاصة الأثر: أن قول لطفي بن المنقار الدمشقي:
ظعنّ والقلب في ركائبهم ... يخفق والجسم للضنى نهب
من فوق خلي وضعت يدي ... فلم أجده وصدها اللهب
هو أدق من قول المتنبي:
ظلت بها تنطوي على كبدٍ ... نضيجةٍ فوق خلبها يدها
وقال أبو العلاء المعري:
يُنا في أبن أدم حال الغصون ... فهاتيك أجنت وهذا جنا
تغير حناؤه شيبه ... فهل غير الظهر لما أنحنى
فأخذه الآخر وتصرف بمعناه بحسب خياله فقال وقد أخرجه مخرج الحكمة وأجاد حتى فضل الأول رشاقة:
يا من يدلس بالخضاب مشيبه ... إن المدلس لايزال مريبا
هب ياسمين الشيب عاد بنفسجاً ... أيعود عرجون القوام قضيبا
ومن أبيات الحماسة في هذا الباب قول أحدهم:
أن يسمعوا ريبةً طاروا بها فرحاً ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا
صمٌ إذا سمعوا خيرّا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوءٍعندهم أذنوا
جهلاً عليّو جبناً عن عدوهم ... لبئست الخلّتان الجهل والجبن
ومنه تناول القائل قوله (ولي إذن عن الفحشاء صماً) والآخر (إذن الكرام من الفحشاء صماء) ولكن بعضهم زاد على المعنى فقال وله الفضل بالسبق في التقسيم:
مستنجدٌ بجميل الصبر مكتئب ... على بني زمن أفعالهم عجب
أن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا ... شراً لشاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
إلى غير ذلك ما يدل على تفاضل الخيال وتفاوت التصور ويرجع إلى جودة القريحة وصفاء الذهن وفوق كل ذي علم عليم.
(زحلة)
عيسى اسكندر المعلوف
مجلة المقتبس - العدد 96
بتاريخ: 1 - 1 - 1915
ولكن بينما يصطاد بازٍ ... وما يصطاده الزنبور فرق
(لأحدهم)
مما لا يختلف به أثنان أن الشعراء يفضل بعضهم بعضاً كما تفضل الأصابع بعضها بعضاً. (فمنهم) من غاص في بحار التصورات وكان في عالم الأوهام فأدنى ذلك البعيد وصاغه بقالب الحقيقة لقربه من الأفهام.
(ومنهم) من وصف ما هو منه أدنى من حبل الوريد. ولم يكن في نظمه غيرأوزانٍ وتقاطيع تسمع في نقر النحاس وطنين الأجراس ما هو أوقع منها في النفوس. بل ربما كان في تصويت الذباب إيقاع وتأثيرليسا فيها ولذلك قال بعضهم مفتخراً:
ولا تحسبن أنّ بالشعر مثلنا ستصير ... فللدجاجة ريشٌ لكنها لا تطير
وقال الأمير علم الدين أيدمر المحيوي:
فإن لم يكن نظم القصائد شيتى ... وليس جدودي يعربٌ وأياد
فقد تسجع الورقاء وهي حمامة ... وقد تنطق الأوتار وهي جماد
وقال الشيخ ناصيف يازجي:
من ضاع أكثر شعره في باطلٍ ... فكأنما قد ضاع أكثر
(ويتفاضل الشعراء) بصور الخيال وجودة القريحة وصفاء الذهن والسواعي التي تحدث لكل منهم إذ للأحوال أسباب تحمل على الأجادة والأبتكار ومع هذا قد يخطئ من أجمع العلماء على مدحه واستحسان منظومه.
فهذا عبد الله بن المعتزّ مع اشتهاره بانسجام أبياته وصحة معانيه قد قال في وصف كتاب:
ودونكه موشى نمئته ... وحاكته الأنامل أيّ حوك
بشكل يرفع الأشكال منه ... كانّ سطوره أغصان شوك
فأخطأ الغرض إذ جعل سطور الكتاب شوكاً والشوك يذمّ ولا يمدح. وإن كان بينه وبين الشكل مشابهة وأين هذا من قول ابن قرناص:
هو مالك قد أصبحت ألفاظه ... حلياً على جيد الزمان العاطل
وكانّ أسطره خلال دروجه ... ظلّ النصون يلوح بين جداو
ومن قول الشيخ عبد الغني النابلسي على التشبيه:
ولم تلهني كتب الرياض وقد حوت ... حروف غصونٍ للندى فوقها نقط
ومدت من الأوراق جعد ذوائب ... كأن انعطافات النسيم لها مشط
وقال أبي تمام الطائي:
فإذا كتابك قد تخير لفظه ... إذا كتابي ليس بالمتخير
وإذا رسومٌ في كتابك لم تدع ... شكاً لنظارٍولا متفكر
شكل ونقطُ لايخيل كأنه ... الخيلان لاحت بين تلك الأسطر
وقد يجيد شاعر ولا يجيد الآخرقال الهيثم بن عديّ لقوم: أنشدوني أحسن بيت وصفت به الثريا فقيل بيت الزبير الأسدي وهو:
وقد لاح في الغور الثريا كأنما ... به راية بيضاء تخفق للطعن
فقال: أريد أحسن من هذا فقيل بيت امرئ القيس:
إذا ما الثريّا في السماء تعرّضت ... تعرض أثناء الرشاح المفصّل
فقال: أريد أحسن من هذا فقيل بيت ابن الطثرية:
إذا ما الثريّا في السماء كأنها ... جمانٌ وهي من سلكه فتسرعا
فقال: أريد أحسن من هذا فقالوا ما عندنا شئ. فقال: قول أبي قيس بن الأسلت الجاهلي:
وقد لاح في الصبح الثريّا لمن رأى ... كعنقود ملاحيةٍ حين نورّا
قال: فحكم له بالتقدم عليهم في هذين المعنيين
وقال الشيخ أحمد المقري في كتابه (نفح الطيب في تاريخ الأندلس الرطيب) في مناظرة فضل فيها شعراء الأندلس ما نصه:
وهل منكم شاعرٌراى أن الناس قد ضجوا من سماع تشبيه الثغر بالأقاح وتشبيه الزهر بالنجوم والخدود بالشقائق فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديداً. وكليله في الأفكار حديداً. فأغرب أحسن أغراب. وأعرب عن فهمه بحسن تخيله انبل أعراب. وهو أبن الزقاق:
واغيدٍ طاف بالكؤوس ضحى ... وحثها والصباح قد وضحا
والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبري قد نفحا قلنا:
ولأين الأقاح قال لنا: ... أودعته ثغر من سقى القدحا
فظلّ ساقي الدام يجحد ما ... قال فلما تبسم أفتضحا
وقال أيضاً:
أديرها على الروض الندى ... وحكم الصبح في الظلماء ماض
وكاس الراح تنظر عن حبابٍ ... ينوب لنا عن الحدق المراض
وما غربت نجوم الأفق لكن ... نقلن من السماء إلى الرياض
وقال أيضاً:
ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى لها نسيم الرياح
زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تروق لون الراح
قلت: ما ذنبها فقال مجيباً: ... سرقت حمرة الخدود الملاح
قال المقري: فانظر كيف زاحم بهذا الأختيال المخترعينوكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين أ. هـ وسمع بعضهم قول القائل:
فلا تحقرنّ عدواً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإن السيوف تحزّ الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر
فقال: هذا حسن جيد. ولكن قول القسطليّ أفضل. وهو:
أثرني لكشف الخطب والخطب مشكلٌ ... وكلني لليث الغاب وهو هصور
فقد تخفض الأسماء وهي سواكنٌ ... ويعمل في الفعل الصريح ضمير
وتنبو الرّدينيات والطول وافرٌ ... ويبعد وقع السهم وهو قصير
ومن ذلك أن عمر بن الشهيد أنشد المعتصم من قصيدة قوله:
سبط البنان كأن كلّ غمامةٍ ... قد ركبت في راحتيه أناملا
لا عيش إلاّ حيث كنت وإنما ... تمضي ليالي العمر بعدك باطلا
فالتفت المعتصم إلى من حضر من الشعراء وقال لهم: هل فيكم من يحسن أن يخلب العقول بمثل هذا؟. فقال أبو جعفر الخرّازالبطوني: نعم. ولكن للسعادة هبات وقد أنشدت قبل هذا أبياتاً أقول منها: وما زلت أجني منك والدهر ممحلٌ ... ولا ثمرٌ يجنى ولا الزرع يحصد
ثمار ايادٍ دانيات قطوفها ... لأغصانها ظلٌ عليّ ممدّد
يرى جارياً ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري فوقهنّ تغرد
فأرتاح المعتصم وقال: أأنت أنشدتني هذا؟ قال: نعم. قال: والله كأنها ما مرّت بسمعي إلى الآن. صدقت للسعد هبات. ونحن نجيزك عليها بجائزتين. الأولى لها. زالثانية لمطل راجيها. وغمط إحسانها (اه)
و (من ذلك) أن أعربياً دخل على ثعلب وقال: أنت الذي تزعم أنك أعلم الناس بالأدب. فقال. كذا يزعمون فقال أنشدني أرق بيت قالته العرب سلسلة فقال: قول جرير
إن العيون التي في طرفها حورٌ ... قتلننا ثم لم يحين قتلانا
يصر عن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله أنسانا
فقال: هذا الشعر غث رث قد لاكته للسفلة بألسنتها. هات غيره فقال ثعلب: أفدنا من عندك يا أعرابي. قال: قول سلم بن الوليد صريع الغواني:
نبارز أبطال الوغى فنبيدهم ... ويقتلنا في السلم لحظ الكراعب
وليس سهام الحرب تفني نفوسنا ... ولكن سهامٌ فوّقت بالحواجب
فقال ثعلب لأصحابه: أكتبوها على الحناجر ولو بالخناجر
(ومن ذلك) قول الشاعر المخزومي:
العيب في الخامل المغمور مغمور ... وعيب ذي الشرف المذكور مذكور
كفوفة الظفر تخفى من حقارتها ... ومثلهافي سواد العين مشهور
فقال آخر بمعناه:
قد تخفض الرجل الرفيع دقيقةٌ ... في السهو فيها للوضيع معاذر
فكبائر الرجل الصغير صغائر ... وصغائر الرجل الكبير كبائر
وقال الخفاجي:
كم من عيوبٍ لفتىً عدّها ... سواه زيناً حسن الصنع
فتكتهُ الياقوت مذمومةٌ ... وهي التي تحمد في الجزع
وربما جاء الشاعر بمعنيين أحدهما يفضل الآخر كثيراً كقول بشار بن برد: إنما عظم سليمى حبّتى ... قصب السكر لا عظم الجمل
وقال بشار نفسهفي موضع آخر بالمعنى نفسه وهو بليغ:
إذا قامت لحاجتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران
فأنظر الفرق بين قوليه والتفاوت بين خياليه ومن أعجب ما يروى عن بشار هذا أنه سمع قول كثير بن عبد الرحمن:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكف تلين
فقال: قاتل الله أبا صخر يزعم أنها عصا ويعتذر أنها خيزرانة ولو قال عصا مخ. أو عصا زبد لكان قد هجن مع ذكر العصا فهلا قال كما قالت:
ودمجاء والمحاجرمن معدٍ ... كأن حديثها ثمر الجنان
إذا قامت لحاجتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران
ومن المعاني ما يفضل بعضه بعضاُ بدرجات كثيرة مثل قول بشاربن بردالآنف ذكره:
وإذا أدنيت منها بصلاً ... غلب المسك على ريح البصل
فأساء تخييلاً ولعله أكل البصل فكل ذهنه ولم يتصور ألا ما أكله أين هذا من قول المتنبي:
تحمل المسك عن غدائرها الريح ... وتفترّعن شنيبٍ برود
ومن تفاضل الشعراء ما رواه الهيثم بن عدي قال: كنا جلوساً عند صالح ابن حسان فقال لنا أنشدوني بيتاً في امرأة خفرة شريفة فقلنا قول حاتم.
يضئ بها البيت الظليل خصاصة ... إذا هي يوماً حاولت أن تبسما
فقل: هذه من الأصنام أريد أحسن من هذا فقلنا: قول الاعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها ... كرّ السحابة لا ريث ولا عجل
فقال هذه خراجة ولاجة كثيرة الأختلاف فقلنا ما عندنا شئ فقال: قول أبي قيس بن الأسلت:
ويكرمها جاراتها فيزرنها ... وتعتلّ عن أتيانهنّ فتعذر
وليس لها أن تستهين بجارة ... ولكنا منهنّ تحيا وتحفز
وكثيراً ما يختلف حكم الشعراء في أمرين أو أكثر مثل قول ابن الرومي:
أن يخدم القلم السيف التي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت والموت لا شئ يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم
كذا قضى الله في الأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أن أرهفت خدم
وقال في ضد هذا أبو الطيب المتنبي:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيفّ ليس المجد للقلم
وقال في مثل ذلك أبو تمام الطائي:
السيف أصدق أنباءً من الكتب ... في حده الدّ بين الجدّ واللعب
ولقي خالد الكاتب أمد طلبة المبرد فقال له: ما الذي أنشدكم اليوم؟
قال: أنشدنا:
أعار الغيث نائله ... إذا ما ماؤه نفدا
وأن أسدٌ شكى جبناً ... أعار فؤاده الأسدا
فقال خالد أخطأ القائل هذا الشعر. قال كيف قال خالد ألا تعلم انه إذا أعار الغيث نائله بقي بلا نائل وإذا أعار الأسد فؤاده بقي بلا فؤاد قال الطالب: فكيف كان يقول؟ قال
علم الغيث الندى حق إذا ... ما حكاه علم البأس الأسد
فله الغيث مقرٌ بالندى ... وله الليث مقرٌ بالجلد
وأجتمع أبو العتاهية مع محمد بن مناذر فقال له: كم تنظم من الشعر في اليوم؟ فقال له: لا أنظم القصيد إلا في الشهر أو الشهرين فقال له أبو العتاهية: أما أنا فقد يتفق لي في اليوم من النظم الألف فأكثر فقال له نعم أنت تنظم ذلك ولكنك تنظم مثل قولك:
ألا يا عتبة الساعة ... أموت الساعة الساعة
وقولك:
أتراني يا عتاهي ... ناسياً تلك اللاهي
أما أنا فأنظم مثل قولي في رثاء عبد المجيد الثقفي:
إن عبد المجيد يوم تولى ... هدّ ركناّ ما كان بالمهدود
ما درى النعش لا ولا حاملوه ... ما على النعش من عفافٍ وجود
ويظهر تفاضل الشعراء في باب (المآخذ الشعرية) حتى أن الآخذ ربما أجاد وزاد على المأخوذ منه وربما قصر وتأخر منه ولقد نشرت في بعض المجلات كثيراً من المآخذ الشعرية ولا سيما الشعراء بعضهم عن بعض وفي ذلك مسرح لخيال الشعراء ومجال لأحكام أفكارهم الدقيقة في التفاضل وإليك والآن بعض ما صرح به بعض المدققين من هذه المآخذ أوعن لنا قال المجي في خلاصة الأثر: أن قول لطفي بن المنقار الدمشقي:
ظعنّ والقلب في ركائبهم ... يخفق والجسم للضنى نهب
من فوق خلي وضعت يدي ... فلم أجده وصدها اللهب
هو أدق من قول المتنبي:
ظلت بها تنطوي على كبدٍ ... نضيجةٍ فوق خلبها يدها
وقال أبو العلاء المعري:
يُنا في أبن أدم حال الغصون ... فهاتيك أجنت وهذا جنا
تغير حناؤه شيبه ... فهل غير الظهر لما أنحنى
فأخذه الآخر وتصرف بمعناه بحسب خياله فقال وقد أخرجه مخرج الحكمة وأجاد حتى فضل الأول رشاقة:
يا من يدلس بالخضاب مشيبه ... إن المدلس لايزال مريبا
هب ياسمين الشيب عاد بنفسجاً ... أيعود عرجون القوام قضيبا
ومن أبيات الحماسة في هذا الباب قول أحدهم:
أن يسمعوا ريبةً طاروا بها فرحاً ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا
صمٌ إذا سمعوا خيرّا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوءٍعندهم أذنوا
جهلاً عليّو جبناً عن عدوهم ... لبئست الخلّتان الجهل والجبن
ومنه تناول القائل قوله (ولي إذن عن الفحشاء صماً) والآخر (إذن الكرام من الفحشاء صماء) ولكن بعضهم زاد على المعنى فقال وله الفضل بالسبق في التقسيم:
مستنجدٌ بجميل الصبر مكتئب ... على بني زمن أفعالهم عجب
أن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا ... شراً لشاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
إلى غير ذلك ما يدل على تفاضل الخيال وتفاوت التصور ويرجع إلى جودة القريحة وصفاء الذهن وفوق كل ذي علم عليم.
(زحلة)
عيسى اسكندر المعلوف
مجلة المقتبس - العدد 96
بتاريخ: 1 - 1 - 1915