أصبحتُ أتكلّمُ كثيراَ بلا شكّ في الآونةِ الأخيرة ... وأُثرثرْ ... وأقولُ ما يُقال وما لا يقال... مع أنني بنتُ مجتمعٍ رضِعَ قلّة الكلام مع لبن الأمّهات..فالكلامُ السياسيّ عندنا محفوفٌ بالمخاطر .. والكلامُ الدينيّ قد ينتهي بضرب الأعناق .. وكلام الحبّ والعشقِ ترفضهُ الأعراف ... أما كلام البورصة والدولار فهو أعلى من مستواي باعتباري من ذوات الدّخل المحدود...
لذلك أثرثرُ في عملي حولَ الطبخ والطقس وأحداث المسلسلات الدرامية .... وعندما أعودُ إلى البيت ينفكّ لجامي وتنحلّ عقدة لساني وأقول ما يحلو لي... وقد أتلفّتُ أحياناً لأتأكد من إحكامِ النوافذ المغلقة حتى لا يسمعني أحدٌ ما.. .. أو أجفل لمجرّد تحرّك الستائر فقد يكون أحدٌ ما متخفٍّ خلفها .. فأخفضُ نبرة صوتي عندما أقتربُ من أحد المحرّمات فالجدران كما تعلمون لها آذان..
زوجي... كان يسمَعُني فيما مضى ويحدّثني ويجادلني ويعاكسني ... وكنت أحبّ فيه الرأي المعاكس لي في كلّ شيء... فالطويل عندي يراه قصيراً.... والأبيضُ عندي يراهُ كالحاً... والحلوُ مراً ... والمالحُ حامضاً ... وهكذا...
تعوّدتُ على إيجابيته المعاكسة لسلبيتي ... ولا أزالُ أحنّ إلى حواراتنا التي كانت تنتهي بالسّباب والشتائم... أنا الآن أحنّ إلى فناجينِ القهوة التي قد تنكسرُ أحياناً بعد جدالٍ عقيم ... فألملمُ فتاتها عن الأرض بسعادةٍ غريبة ... وأحنّ إلى حديثهِ الذي كنتُ أقطعهُ وأمضي لغرفةِ النّوم وأصفِقُ الباب خلفي وأستندُ عليه ... وكلّي آذانٌ صاغية للشّتائم التي يكيلها عليّ... ولكنه كان يأتي أخيراً لغرفة النوم .. صاغراً .. متوسّلاً أو متسوّلاً ... يدق الباب .. وأفتح له أبوابي
لكنّه أصبحَ صامتاً في الفترة الماضية ... فلا يتكلّم ولا يريد أن يسمع ... وأصبح وجودهُ في البيتِ كغيابهِ .. فلا سلام ولا كلام ... وغدا ذلك الجسد المتحرّك في المنزل بلا روح...
- هيه... أين أنتْ ؟؟... اشتقتُ.. أنا... لصوتكَ..لصراخكَ... لزفيركَ.. لشخيركَ... هل أكل القطّ لسانك؟؟
لماذا أصبحتْ عيونُك جامدةً كالتمثال ؟.. ووجهكَ بلا ملامح...؟!
أرجوكْ.. حدّثني .. حاورني .. عاكسني بالخيارات لمجرّد إثبات وجودك كما عوّدتني .. افرض رأيك الإرتجالي بقوة الصوت الرجولي
اشتمني كعادتك .. تطاول بالسباب على كل عائلتي
اضربني إن شئت فأقع على أقرب أريكة .. غارقة بدموعي .. وما أحيلى اعتذراتك عندها اقرصني لأسكت وأوقف ثرثرتي الفارغة .. عندها أكشف لك موضع قرصتك الحمراء من تحت ثيابي .. فتقبّل موضع قرصتك فيطيب الجرح وأنسى الألم
اشتقت والله لقرصاتك اللذيذة ..
عضعضني يا أخي .. أذكر بحنين ورغبة وشغف تلك العضّات الانطباعية عندما تكون يداك مشغولتين باحتضاني فلا يبق فيك مايؤذي .. إلا أسنانك
عاقبني .. مزّقني..شتتني .. فرّقني قطعاً .. فتعيد بعدها تجميعي .. كلعبة الأطفال التجميعية .. وما أجمل تلك اللوحة عندما يعاد تجميع القطع الكرتونية المتناثرة .. إنها حلّ لألغاز المرأة ويقتضي تركيبها تجريب كل الاحتمالات الممكنة .. لينطبق المحدب على المقعر .. والنتوء البارز على الثلم الغائر والزاوية الحادة المؤنفة على المنفرجة
تفاعَل معي فأكون مفعولة فيك أو لأجلك
فقط عُدْ إليّ كما كنت ..
كُنْ معي ..أو عليّ..
أحنُّ إلى أكوامِ غسيلك المتّسخ.. ورائحتكَ الكريهة.. ودنياكَ الفوضوية..
اسألني عن فردة جواربك الضائعة .. كنت أخفيها قصداً لتسألني عنها .. الآن لم تعد تهتمّ بفردة جرابك الضائعة .. صرت تستعمل أي جراب تدك قدمك فيه وتدحشه في حذائك .. لم تعد تهتم بشيء في بيتنا .. ما الذي جرى؟
دعني أساعدك في عقد ربطة عنقك .. فأشدها على رقبتك .. أخنقك قليلاً أو أشنقك حتى يحمرّ وجهك المحتقن .. فنفك ربطة العنق ونعيد ربطها ثانية .. فتكون طويلة حتى حزامك .. ونفكها ثالثة فتكون قصيرة .. ثم نرميها ونلعن ربطات العنق وساعتها .. لأن الساعة الآن غدت للحب
أرجعني كما كنتُ كوكباً يدورُ في مدارك... ونجماً يلمعُ في فلككَ...
أو جاريةً تأمُرها في فناءِ قصركَ.. أو .. أو حتى ذيلاً تجرّه من مؤخرتك...
أتعبَني الصّمتُ القاتل يا هذا... ودمّرني تجاهلكَ لي ... ها أنا أنحني أمام جبروتك الطاغي .. وألينُ وأنطوي إزاءَ قسوتك.. وأصغُرُ مقارنةً بعظَمَتكَ... وكبْريائكَ...
أين تفرّغ أحاديثك التافهة ؟ .. وفي أيّ أذنٍ تصبُّ كلماتكَ قطرةً قطرة ؟.. أم أنّ الصمتَ أصبحَ ملاذك .. تدخلُ البيتَ واجماً ... وتجلسُ ساهماً... وتستلقي نائماً .. وتتقلّبُ في الفراشِ حالماً .. ثمّ تخرجُ في صباح اليوم التالي بوجهٍ ممسوحٍ من التجاعيدِ .. فارغٍ من التّعابيرِ .. حتى سيارتك غدتْ بلا صوتٍ فلم أعد أعرفُ متى تجيئ ومتى ترحل ... لقد وضعت كاتماً للصوت في حنجرتك .. وحتى في مؤخرتك !!
لقد أصبح بيتنا بالفعل صامتاً كصمتِ القبور...
لذلك زادت ثرثرتي أثناء الدّوام في عملي كبديلٍ عن صمتيَ المطبقِ في المنزل.. فلا تنتقدوني... بل وأصبحتُ أكذبُ.. وأؤلّف القصص والحكايات عن بيتي السّعيد .. وعشي الدافئ.. وزوجي الذي يُغرقني بعباراتِ الحبّ والغزل ..والرضى والقبول....- ويا للسخرية - طبعاً زوجي حبيبي ..ونديمي .. وكليمي..!!!
أما زميلاتي في العمل فأصبحنَ حاسداتٍ لي.. معجباتٍ بزواجي الناجح.. وبيتي الحنون .. منتظراتٍ لي كلّ صباح .. أروي لهنّ مع فنجانِ القهوةِ قصّة الأمس.. وحكاية جديدة من حكايات السّعادة ... فأتأوّهُ من فرط سعادتي ؟! ... وتتأوّهْنَ من فرطِ التعاسة..!.
عجباً كأنّ البيوت كلها غدت صامتة عن الحب .. لست أدري
د. جورج سلوم
* بيوت صامتة عن الحب نص من كتاب (الانفصال عن الواقع )
****************************
لذلك أثرثرُ في عملي حولَ الطبخ والطقس وأحداث المسلسلات الدرامية .... وعندما أعودُ إلى البيت ينفكّ لجامي وتنحلّ عقدة لساني وأقول ما يحلو لي... وقد أتلفّتُ أحياناً لأتأكد من إحكامِ النوافذ المغلقة حتى لا يسمعني أحدٌ ما.. .. أو أجفل لمجرّد تحرّك الستائر فقد يكون أحدٌ ما متخفٍّ خلفها .. فأخفضُ نبرة صوتي عندما أقتربُ من أحد المحرّمات فالجدران كما تعلمون لها آذان..
زوجي... كان يسمَعُني فيما مضى ويحدّثني ويجادلني ويعاكسني ... وكنت أحبّ فيه الرأي المعاكس لي في كلّ شيء... فالطويل عندي يراه قصيراً.... والأبيضُ عندي يراهُ كالحاً... والحلوُ مراً ... والمالحُ حامضاً ... وهكذا...
تعوّدتُ على إيجابيته المعاكسة لسلبيتي ... ولا أزالُ أحنّ إلى حواراتنا التي كانت تنتهي بالسّباب والشتائم... أنا الآن أحنّ إلى فناجينِ القهوة التي قد تنكسرُ أحياناً بعد جدالٍ عقيم ... فألملمُ فتاتها عن الأرض بسعادةٍ غريبة ... وأحنّ إلى حديثهِ الذي كنتُ أقطعهُ وأمضي لغرفةِ النّوم وأصفِقُ الباب خلفي وأستندُ عليه ... وكلّي آذانٌ صاغية للشّتائم التي يكيلها عليّ... ولكنه كان يأتي أخيراً لغرفة النوم .. صاغراً .. متوسّلاً أو متسوّلاً ... يدق الباب .. وأفتح له أبوابي
لكنّه أصبحَ صامتاً في الفترة الماضية ... فلا يتكلّم ولا يريد أن يسمع ... وأصبح وجودهُ في البيتِ كغيابهِ .. فلا سلام ولا كلام ... وغدا ذلك الجسد المتحرّك في المنزل بلا روح...
- هيه... أين أنتْ ؟؟... اشتقتُ.. أنا... لصوتكَ..لصراخكَ... لزفيركَ.. لشخيركَ... هل أكل القطّ لسانك؟؟
لماذا أصبحتْ عيونُك جامدةً كالتمثال ؟.. ووجهكَ بلا ملامح...؟!
أرجوكْ.. حدّثني .. حاورني .. عاكسني بالخيارات لمجرّد إثبات وجودك كما عوّدتني .. افرض رأيك الإرتجالي بقوة الصوت الرجولي
اشتمني كعادتك .. تطاول بالسباب على كل عائلتي
اضربني إن شئت فأقع على أقرب أريكة .. غارقة بدموعي .. وما أحيلى اعتذراتك عندها اقرصني لأسكت وأوقف ثرثرتي الفارغة .. عندها أكشف لك موضع قرصتك الحمراء من تحت ثيابي .. فتقبّل موضع قرصتك فيطيب الجرح وأنسى الألم
اشتقت والله لقرصاتك اللذيذة ..
عضعضني يا أخي .. أذكر بحنين ورغبة وشغف تلك العضّات الانطباعية عندما تكون يداك مشغولتين باحتضاني فلا يبق فيك مايؤذي .. إلا أسنانك
عاقبني .. مزّقني..شتتني .. فرّقني قطعاً .. فتعيد بعدها تجميعي .. كلعبة الأطفال التجميعية .. وما أجمل تلك اللوحة عندما يعاد تجميع القطع الكرتونية المتناثرة .. إنها حلّ لألغاز المرأة ويقتضي تركيبها تجريب كل الاحتمالات الممكنة .. لينطبق المحدب على المقعر .. والنتوء البارز على الثلم الغائر والزاوية الحادة المؤنفة على المنفرجة
تفاعَل معي فأكون مفعولة فيك أو لأجلك
فقط عُدْ إليّ كما كنت ..
كُنْ معي ..أو عليّ..
أحنُّ إلى أكوامِ غسيلك المتّسخ.. ورائحتكَ الكريهة.. ودنياكَ الفوضوية..
اسألني عن فردة جواربك الضائعة .. كنت أخفيها قصداً لتسألني عنها .. الآن لم تعد تهتمّ بفردة جرابك الضائعة .. صرت تستعمل أي جراب تدك قدمك فيه وتدحشه في حذائك .. لم تعد تهتم بشيء في بيتنا .. ما الذي جرى؟
دعني أساعدك في عقد ربطة عنقك .. فأشدها على رقبتك .. أخنقك قليلاً أو أشنقك حتى يحمرّ وجهك المحتقن .. فنفك ربطة العنق ونعيد ربطها ثانية .. فتكون طويلة حتى حزامك .. ونفكها ثالثة فتكون قصيرة .. ثم نرميها ونلعن ربطات العنق وساعتها .. لأن الساعة الآن غدت للحب
أرجعني كما كنتُ كوكباً يدورُ في مدارك... ونجماً يلمعُ في فلككَ...
أو جاريةً تأمُرها في فناءِ قصركَ.. أو .. أو حتى ذيلاً تجرّه من مؤخرتك...
أتعبَني الصّمتُ القاتل يا هذا... ودمّرني تجاهلكَ لي ... ها أنا أنحني أمام جبروتك الطاغي .. وألينُ وأنطوي إزاءَ قسوتك.. وأصغُرُ مقارنةً بعظَمَتكَ... وكبْريائكَ...
أين تفرّغ أحاديثك التافهة ؟ .. وفي أيّ أذنٍ تصبُّ كلماتكَ قطرةً قطرة ؟.. أم أنّ الصمتَ أصبحَ ملاذك .. تدخلُ البيتَ واجماً ... وتجلسُ ساهماً... وتستلقي نائماً .. وتتقلّبُ في الفراشِ حالماً .. ثمّ تخرجُ في صباح اليوم التالي بوجهٍ ممسوحٍ من التجاعيدِ .. فارغٍ من التّعابيرِ .. حتى سيارتك غدتْ بلا صوتٍ فلم أعد أعرفُ متى تجيئ ومتى ترحل ... لقد وضعت كاتماً للصوت في حنجرتك .. وحتى في مؤخرتك !!
لقد أصبح بيتنا بالفعل صامتاً كصمتِ القبور...
لذلك زادت ثرثرتي أثناء الدّوام في عملي كبديلٍ عن صمتيَ المطبقِ في المنزل.. فلا تنتقدوني... بل وأصبحتُ أكذبُ.. وأؤلّف القصص والحكايات عن بيتي السّعيد .. وعشي الدافئ.. وزوجي الذي يُغرقني بعباراتِ الحبّ والغزل ..والرضى والقبول....- ويا للسخرية - طبعاً زوجي حبيبي ..ونديمي .. وكليمي..!!!
أما زميلاتي في العمل فأصبحنَ حاسداتٍ لي.. معجباتٍ بزواجي الناجح.. وبيتي الحنون .. منتظراتٍ لي كلّ صباح .. أروي لهنّ مع فنجانِ القهوةِ قصّة الأمس.. وحكاية جديدة من حكايات السّعادة ... فأتأوّهُ من فرط سعادتي ؟! ... وتتأوّهْنَ من فرطِ التعاسة..!.
عجباً كأنّ البيوت كلها غدت صامتة عن الحب .. لست أدري
د. جورج سلوم
* بيوت صامتة عن الحب نص من كتاب (الانفصال عن الواقع )
****************************