حيدر عاشور - فقدانٌ

اطفأتِ النور وتركت جسدها المتعب يرتمي على السرير، امتدت يدها دون شعور منها الى المذياع فتدفقت الاصوات واختلطت الاذاعات: قررت القوات الامريكية سحب اخر لواء لها عبر الاراضي العراقية تطبيقا لاتفاقية الانسحاب.
ادارت موجّه المذياع: الفيضانات تشرد سبعة ملايين من سكان باكستان، الحرائق تجتاح روسيا والخسائر تقدر بثلاثمائة مليار وخشية من وصول النيران الى المحطات النووية، تهريب اثار عراقية عبر دول الجوار.
استوقفها الخبر الاخير، وبدأت الافكار والتداعيات تكبر كدوائر الماء في محيط عقلها، وتذكرت وهي تخرج من الجامعة تلك اللافتات الصغيرة المعلقة على الجدران أو قرب مظلة وقوف السيارات، وقد كتبت عليها كلمة واحدة (فقدان): فقد شخص يدعى (ناظم مراد) يبلغ من العمر حفنة من الضياع ويرتدي الوجع اليومي، فمن يعثر عليه تسليمه الى اقرب دورية للقوات متعددة الجنسية.
ظلت كلمة (فقدان) تئز بقوة تحت فروة رأسها الصغير وكأن جرسا بعث دقاته دون توقف، انقلبت الى الجهة الاخرى وأغلقت المذياع، وارتسم امام عينيها ووسط الظلام شريط يشبه الشريط التلفازي (سبتايتل).. اعداد المفقودين في تزايد ولا احد ينتبه الى هذه الظاهرة، وتساءلت مع نفسها هناك من يفقد في حادثة، وآخر يفقد رغما عنه، وربما هناك من يختار الفقدان كمصير، ويقرر الاختفاء الابدي كنوع من الاحتجاج على هذا المهرجان الجنائزي الذي يحاصر الجميع بكل اشكال الاندثار.
نهضت بقوة وأزاحت الغطاء، أضاءت المصباح وامتدت يدها لتنسيق شعرها المتناثر بحثت عن وجهها في المرآة المعلقة على الجدار المقابل تحت صورة التخرج من الجامعة كلية الادارة والاقتصاد، ثم تطلعت الى معطفها الجامعي وهي تؤدي طقوس الماجستير والدكتوراه، الان يناديها الجميع هناء، دكتوراه بالاقتصاد وتسكن شقة مؤجرة مع والدتها، كائنان مقطوعان عن العالم، وهي تصر على الصدف والتلقائية، ولم تجرؤ يوما على صبغ شعرها الابيض وتحوله الى اصفر او احمر كما تفعل زميلاتها وحتى الطالبات يستخدمن الاصباغ والماكياج ويتحولن في نظرها الى دمى مزيفة، الانسان يجب ان يكون على طبيعته دون تزويق أو تزييف، الوجوه الحقيقية أفضل وأجمل من الاقنعة المصطنعة.. قالت لها زميلتها الدكتورة وفاء: انك يا هناء تعيشين في كوكب آخر ليست له علاقة بكوكبنا، ياعزيزتي انتبهي الى نفسك، أنا أصبح لي احفاد وأنت...
وساد الصمت الثقيل بينما كانت هناء تتمنى ان تمتلك زميلتها الجرأة التامة وتقول لها انك عانس، مضت الحياة عنك، وأفل كل شيء واجتاح جسدك، وشعرك، وأسنانك، قطار العمر الاحتلالي، ولم يعد فيك ما يغري احدا ليطلب يدك إلا من به طمع في شهادتك، راتبك يتبخر ازاء الادوية التي تحتاجها امك وما يتبقى تبعثين به الى اختك وأطفالها الخمسة بعد تحول زوجها الى معاق لا يستطيع مغادرة المنزل إلا بعكازتين، ما الذي بقي لك من عالمك، وتلك السنين التي مرت بسرعة الضوء فلم تتمكني من امساك شيء.. طفولة بائسة، ومراهقة محاصرة، ثم الانكباب على القراءة والتقاتل من اجل الدرجات، ثم الماجستير والدكتوراه، والمصادر والبحوث وذهابك الى طبيب العيون لفحص درجة النظر، ووضع نظارة طبية فوق الانف زادت على عمرك سنين اخرى.
هل اصبحت راهبة للعلم وممرضة للأم ومرجعا اقتصاديا واجتماعيا لأختك ام رضا، ما الذي ينتظرك في الافق؟ وهل يختلف مصيرك عن الاسر الباكستانية التي شردها الفيضان؟ وحرائق روسيا التي لا تختلف عن الحرائق اليومية التي تبتلع الحياة وضحكات وأجساد الناس في الشوارع والأسواق وأمام الدوائر الرسمية. انه داء الفقدان وقد انتشر في كل مكان، وقد يكون الفقدان ماديا او معنويا، وقد يكون الفقدان بحجم العمر الذي مضى دون هوادة، وبلا توقف او مراجعة.
انتابها شعور غريب يشبه المفارقة هل يمكن ان تعيد لعبة العمر مرة اخرى؟ فالإنسان يحتاج الى حياتين، الاولى يعيشها وفق فلسفة الاقدار، وأخرى يصنعها بنفسه بعد الوعي المتراكم ومساحة الاختيار. هل جرب العالم مقدار الوحشة الشرسة حين تنام امرأة في الخمسين وحدها بين جدران أربعة...؟
رن الهاتف النقال حاملا رسالة من رئيس القسم (غدا مناقشة رسالة الطالب ربيع كامل، فلا تنسي وأنت عضو في لجنة المناقشة). أثارت الرسالة رعبا داخليا في أعماقها كيف نسيت هذا الامر، وهي الجادة والدؤوبة، والملتزمة، أخرجت الرسالة الجامعية، وبحثت عن نظارة القراءة السميكة، وأبحرت بين السطور والمباحث والهوامش واستغرقت في هم جديد لتبقى على قيد البقاء.
حيدرعاشور
haederashoor@yahoo.com
قصة قصيرة من مجموعة بوح مؤجل
































تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...