كل امرئ يقذف الى هذا العالم الغرائبي يحمل في أعماقه هوسا خاصا فهناك من يولع بالنساء وأخر يتعلق ويتعبد في محراب المال وغيره يهيم في التجارة أو الصناعة أو السفر وهناك من يحمل شخصية اشراقية يفيض على الآخرين بينما يتوغل غيره في شخصية سوداوية يبحث عن ضحايا يصنع لهم الفخاخ والأذى بكل أشكاله . الكل يحمل بصمته التي تولد معه وتلتصق به كما يلتصق التوأم السياسي.
أما أنا فلا اعرف من أين تسللت إلي لعنة الكتب وهوس القراءة ، ربما بتأثير أبي وربما بتأثر معلم اللغة العربية الذي كان يحمل معه كتابا كلما دخل الصف ، تلك المؤثرات أو الصور الحياتية هي التي حولتني الى كائن مهووس بالكتب بدأت بمكتبة صغيرة لا تتجاوز العشرين كتابا ثم كبرت هذه المكتبة ،وأصبحت غرفتي عبارة عن مكتبة كبيرة وتناثرت الكتب حول سريري وعلى جوانب ورفوف الغرفة ، كانت أمي تبدي تذمرها من هذه الكتب التي تزداد يوما بعد آخر فلا يمر يوم إلا واشتري مجموعة كبيرة من الكتب وتشمل الرواية وكتب التراث وعلم النفس والفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والسير الذاتية وحين ابتلعت الحرب من عمري سنين طويلة استغلت أمي غيابي وأحرقت الكثير من الكتب لأنها كانت تخشى من أن تقوم الحكومة بتفتيش البيوت بحثا عن الكتب الممنوعة وحين عدت في إحدى إجازاتي بكيت بألم وأنا انظر الى كتب نادرة وقد تحولت الى رماد بارد عاتبت أمي وانا أدرك أنها لم تقصد إيذائي لكنها تعتقد أو تؤمن بما يقوله أبي من ان هذه الكتب ستوصلني الى حافة الجنون وتثلم رجولتي وتجعلني كائنا معزولا عن الحياة والمجتمع والعمل ، كائن غارق في فردوس الكلمات والخيال الشعري ، والحياة كما يقول أبي تحتاج الى رجل خشن يعمل ويناطح الآخرين بيديه لابكلماته ، و( كلام الجرائد ). وحين قررت الزواج كان همي أن ابتعد عن البيت القديم الذي يحارب ويحرق الكتب الى بيت أو بالأحرى ( مشتمل )* احمل معي كتبي وكأنهم أولادي أضعهم بين أحضاني أينما ارحل أو استقر .ومن المفارقات الغريبة إنني في يوم خطوبتي لزوجتي ذكرت لأهلها بأنني اعشق الكتب وأرجو من زوجتي أن تتقبل هذه الهواية . ضحك الجميع حينها واعتبروا الأمر مجرد تلطيف لأجواء التعارف الجديد ولم يدركوا إن هذه الهواية ستقف حاجزا بيني وبين زوجتي في يوم من الأيام . فبعد أشهر قليلة من زواجي بدأت الزوجة تشكو من هذه الكتب التي تحاصر المكان من كل الزوايا واعرف أنها بدأت تتخلص منها بأية طريقة بإتلافها حينا أو إعطائها الى الجيران أو حتى بيعها في السوق للباعة كي يصنعوا منها أكياسا صغيرة . أمسكتها في إحدى الليالي وكدت أضربها بعنف بعد أن اكتشفت أن الكتب بدأت تتناقص وما أن ابحث عن رواية حتى لا أجدها ، وأدركت إن شقيق زوجتي الذي يعمل في تصليح السيارات كان يحرضها على التخلص من هذه الكتب وقد صور لها الأمر بأفكار غريبة حين ملأ عقلها من إن الكتب تجلب النحس وتمنع الرزق وتجعل الرجل لا يفكر في زوجته وأولاده بل يغرق في خيال وعوالم الكتب ، وكان يحدثها عن الكثير من الذين أدمنوا القراءة انتهى مصيرهم الى مستشفى الأمراض العقلية .لذا شمرت زوجتي عن ساعدها وبدأت حملتها الشعواء ضد كتبي حتى وصل بي الأمر بأن طلبت منها ترك البيت والذهاب الى أهلها وأخيها المحرض الأول لشعوره بالنقص إزاء من يعشقون الكتب والثقافة فكل امرئ يحارب ما يجهل بكل تأكيد.
حين ولدت زوجتي طفلنا الأول وسميته "محسد"* تيمنا بابي المتنبي جن جنون شقيق زوجتي واعتبر إن الطفل سيصاب هو الآخر بلعنة الكتب والشعراء لكن الاسم بقي بعد أن تسلمت هوية الأحوال وبعد أن زادت أعداد الكتب حيث سنحت لي الفرصة لشراء مكتبات كاملة وبدأ المشتمل يضيق فعلا بأعداد الكتب فوجئت بأن علوانا شقيق زوجتي جاء في إحدى ليالي الشتاء اخذ زوجتي ومحسدا وقال لي إما أن تحرق هذه الكتب أو تأتي بعد أيام الى المحكمة لحضور مراسم الطلاق ، فهو يخشى على أخته وابنها من رجل غارق حتى النخاع بين الكتب ، ووضعني تصرف علوان إزاء موقف لا احسد عليه لاسيما وأنا بدأت أتعلق بمحسد وصار بالنسبة لي الحياة بكل توهجها وجمالها ويكاد وجهه الطفولي الاشراقي ينغرس تحت جفوني ولا يفارق عقلي ، اضطررت الى نقل كتبي الى بيت أختي سهام في محاولة لاحتواء الموقف والتهديد بالطلاق لكنني فوجئت بتوفيق ابن سهام يأتي بالكتب في سيارة ( ألبيك- أب ) ويخبرني بان أباه الذي يعمل حارسا كاد أن يحرقها لأنه يكره الكتب ويعتقد أنها كتب سحر وشعوذة وهو رجل مؤمن ، ولم أجد وسيلة اقنع بها علوانا سوى أن اذهب الى المحكمة وأتخلص من رعونته وتطاوله اليومي وتردده على البيت .
وصلت باحة المحكمة قبلهما وأشعلت سيكارتي لتبديد الزمن الثقيل لا احد يدرك ان الكتب بالنسبة لي لا تختلف عن عشق ابني "محسد" ولكن هل يعقل أنني سأفرط بك يا فلذة القلب، لا ادري ما الذي افعله، وهؤلاء لا يعطونني فرصة واحدة لحل المعضلة حين ابلغني القاضي بان سبب الطلاق غير وجيه وغير شرعي وعليك انت وزوجك إصلاح الأمر واقتضى الموقف تأجيل النطق بالطلاق الى الشهر القادم.
لم يأت علوان وحين استفسرت من زوجتي أخبرتني بأنه سافر بشكل مفاجئ الى كربلاء لأمور تخص عمله ... تطلعت في وجه زوجتي وأدركت بحسها أنني أريد أن أعانق ( محسدا ) قبلته عشرات القبلات لكنني فوجئت بحركة غريبة من زوجتي وهي تحمل كيسا صغيرا ناولتني إياه . وبعد أن فرغت من تقبيل "محسد" اكتشفت ويا هول المفاجأة ، وجدت كتابا داخل الكيس وقد كتبت زوجتي إهداء جميلا فوق غلافه ، نظرت إليها بجنون وكأني لا اصدق ما أرى من تصرفها ، أمسكت يدي وقالت : أوقف لنا سيارة ولنذهب الى بيتنا وأنا سأخفي لك كل الكتب بين ملابسي وأغراضي حتى ينسى علوان الأمر، فهل يعقل أن يبقى "محسد" بلا أب بسبب الكتب وبدأت تشرح أفكارها وأنها أدركت أن الكتب التي اقرؤها ليس فيها ما يؤذي أو يهدم البيوت كما يعتقد علوان وقالت لي أنا معك ولن يستطيع علوان أو غيره من ان يأخذني منك ، لاسيما وان "محسدا" متعلق بك الى حد الجنون ...سارت بنا السيارة نحو المشتمل وأنا أكاد اجن من وقع المفاجأة.
*المشتمل : بيت صغير مقتطع من البيت الكبير
*محسد: هو اسم ابن الشاعر المتنبي الذي قتل في دير العاقول (النعمانية)
*حيدرعاشور
* قصة قصيرة من مجموعة ( بوح مؤجل )
أما أنا فلا اعرف من أين تسللت إلي لعنة الكتب وهوس القراءة ، ربما بتأثير أبي وربما بتأثر معلم اللغة العربية الذي كان يحمل معه كتابا كلما دخل الصف ، تلك المؤثرات أو الصور الحياتية هي التي حولتني الى كائن مهووس بالكتب بدأت بمكتبة صغيرة لا تتجاوز العشرين كتابا ثم كبرت هذه المكتبة ،وأصبحت غرفتي عبارة عن مكتبة كبيرة وتناثرت الكتب حول سريري وعلى جوانب ورفوف الغرفة ، كانت أمي تبدي تذمرها من هذه الكتب التي تزداد يوما بعد آخر فلا يمر يوم إلا واشتري مجموعة كبيرة من الكتب وتشمل الرواية وكتب التراث وعلم النفس والفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والسير الذاتية وحين ابتلعت الحرب من عمري سنين طويلة استغلت أمي غيابي وأحرقت الكثير من الكتب لأنها كانت تخشى من أن تقوم الحكومة بتفتيش البيوت بحثا عن الكتب الممنوعة وحين عدت في إحدى إجازاتي بكيت بألم وأنا انظر الى كتب نادرة وقد تحولت الى رماد بارد عاتبت أمي وانا أدرك أنها لم تقصد إيذائي لكنها تعتقد أو تؤمن بما يقوله أبي من ان هذه الكتب ستوصلني الى حافة الجنون وتثلم رجولتي وتجعلني كائنا معزولا عن الحياة والمجتمع والعمل ، كائن غارق في فردوس الكلمات والخيال الشعري ، والحياة كما يقول أبي تحتاج الى رجل خشن يعمل ويناطح الآخرين بيديه لابكلماته ، و( كلام الجرائد ). وحين قررت الزواج كان همي أن ابتعد عن البيت القديم الذي يحارب ويحرق الكتب الى بيت أو بالأحرى ( مشتمل )* احمل معي كتبي وكأنهم أولادي أضعهم بين أحضاني أينما ارحل أو استقر .ومن المفارقات الغريبة إنني في يوم خطوبتي لزوجتي ذكرت لأهلها بأنني اعشق الكتب وأرجو من زوجتي أن تتقبل هذه الهواية . ضحك الجميع حينها واعتبروا الأمر مجرد تلطيف لأجواء التعارف الجديد ولم يدركوا إن هذه الهواية ستقف حاجزا بيني وبين زوجتي في يوم من الأيام . فبعد أشهر قليلة من زواجي بدأت الزوجة تشكو من هذه الكتب التي تحاصر المكان من كل الزوايا واعرف أنها بدأت تتخلص منها بأية طريقة بإتلافها حينا أو إعطائها الى الجيران أو حتى بيعها في السوق للباعة كي يصنعوا منها أكياسا صغيرة . أمسكتها في إحدى الليالي وكدت أضربها بعنف بعد أن اكتشفت أن الكتب بدأت تتناقص وما أن ابحث عن رواية حتى لا أجدها ، وأدركت إن شقيق زوجتي الذي يعمل في تصليح السيارات كان يحرضها على التخلص من هذه الكتب وقد صور لها الأمر بأفكار غريبة حين ملأ عقلها من إن الكتب تجلب النحس وتمنع الرزق وتجعل الرجل لا يفكر في زوجته وأولاده بل يغرق في خيال وعوالم الكتب ، وكان يحدثها عن الكثير من الذين أدمنوا القراءة انتهى مصيرهم الى مستشفى الأمراض العقلية .لذا شمرت زوجتي عن ساعدها وبدأت حملتها الشعواء ضد كتبي حتى وصل بي الأمر بأن طلبت منها ترك البيت والذهاب الى أهلها وأخيها المحرض الأول لشعوره بالنقص إزاء من يعشقون الكتب والثقافة فكل امرئ يحارب ما يجهل بكل تأكيد.
حين ولدت زوجتي طفلنا الأول وسميته "محسد"* تيمنا بابي المتنبي جن جنون شقيق زوجتي واعتبر إن الطفل سيصاب هو الآخر بلعنة الكتب والشعراء لكن الاسم بقي بعد أن تسلمت هوية الأحوال وبعد أن زادت أعداد الكتب حيث سنحت لي الفرصة لشراء مكتبات كاملة وبدأ المشتمل يضيق فعلا بأعداد الكتب فوجئت بأن علوانا شقيق زوجتي جاء في إحدى ليالي الشتاء اخذ زوجتي ومحسدا وقال لي إما أن تحرق هذه الكتب أو تأتي بعد أيام الى المحكمة لحضور مراسم الطلاق ، فهو يخشى على أخته وابنها من رجل غارق حتى النخاع بين الكتب ، ووضعني تصرف علوان إزاء موقف لا احسد عليه لاسيما وأنا بدأت أتعلق بمحسد وصار بالنسبة لي الحياة بكل توهجها وجمالها ويكاد وجهه الطفولي الاشراقي ينغرس تحت جفوني ولا يفارق عقلي ، اضطررت الى نقل كتبي الى بيت أختي سهام في محاولة لاحتواء الموقف والتهديد بالطلاق لكنني فوجئت بتوفيق ابن سهام يأتي بالكتب في سيارة ( ألبيك- أب ) ويخبرني بان أباه الذي يعمل حارسا كاد أن يحرقها لأنه يكره الكتب ويعتقد أنها كتب سحر وشعوذة وهو رجل مؤمن ، ولم أجد وسيلة اقنع بها علوانا سوى أن اذهب الى المحكمة وأتخلص من رعونته وتطاوله اليومي وتردده على البيت .
وصلت باحة المحكمة قبلهما وأشعلت سيكارتي لتبديد الزمن الثقيل لا احد يدرك ان الكتب بالنسبة لي لا تختلف عن عشق ابني "محسد" ولكن هل يعقل أنني سأفرط بك يا فلذة القلب، لا ادري ما الذي افعله، وهؤلاء لا يعطونني فرصة واحدة لحل المعضلة حين ابلغني القاضي بان سبب الطلاق غير وجيه وغير شرعي وعليك انت وزوجك إصلاح الأمر واقتضى الموقف تأجيل النطق بالطلاق الى الشهر القادم.
لم يأت علوان وحين استفسرت من زوجتي أخبرتني بأنه سافر بشكل مفاجئ الى كربلاء لأمور تخص عمله ... تطلعت في وجه زوجتي وأدركت بحسها أنني أريد أن أعانق ( محسدا ) قبلته عشرات القبلات لكنني فوجئت بحركة غريبة من زوجتي وهي تحمل كيسا صغيرا ناولتني إياه . وبعد أن فرغت من تقبيل "محسد" اكتشفت ويا هول المفاجأة ، وجدت كتابا داخل الكيس وقد كتبت زوجتي إهداء جميلا فوق غلافه ، نظرت إليها بجنون وكأني لا اصدق ما أرى من تصرفها ، أمسكت يدي وقالت : أوقف لنا سيارة ولنذهب الى بيتنا وأنا سأخفي لك كل الكتب بين ملابسي وأغراضي حتى ينسى علوان الأمر، فهل يعقل أن يبقى "محسد" بلا أب بسبب الكتب وبدأت تشرح أفكارها وأنها أدركت أن الكتب التي اقرؤها ليس فيها ما يؤذي أو يهدم البيوت كما يعتقد علوان وقالت لي أنا معك ولن يستطيع علوان أو غيره من ان يأخذني منك ، لاسيما وان "محسدا" متعلق بك الى حد الجنون ...سارت بنا السيارة نحو المشتمل وأنا أكاد اجن من وقع المفاجأة.
*المشتمل : بيت صغير مقتطع من البيت الكبير
*محسد: هو اسم ابن الشاعر المتنبي الذي قتل في دير العاقول (النعمانية)
*حيدرعاشور
* قصة قصيرة من مجموعة ( بوح مؤجل )