ليس غريبا أن استرجع ذاكرتي الى الوراء وان ارتب أشيائي نحو الأفضل والأسمى ، وان أفكر بنفسي وانسيها من أساء لها وأقلقها ، هي قدرتي في محو صفحات من حياتي مشبعة بألم وحزن حد البكاء وان ابدأ بصفحة جديدة انقش فيها أحرفا من نور . لذا قررت أن أعيش حياتي بدون حبيب وان اعشق كل جميل ولطيف وان أتسامى بالإنسانية وأكون أمام الفقير البائس أواسي بؤسه واقف أمام الحالم محاولا تفسير حلمه وأمام المظلوم دامع العينين يبكي همه وظلمه وأمام الظالم ناقد بدون خوف ظلمه . هكذا هو قلبي رقيق ليس له حدود ولا اتجاه يتأثر بسرعة البرق بأي حدث .
في اثناء دراستي الميدانية تحول إحساسي الى شيء غريب في الكشف عن أسرار القلوب والبحث عمّا يجول فيها من إشكالات الحب والكره وغيرها من عوامل الشخصية المتطبعة في دواخل الإنسان ، فوجدت حالات متناقضة ومن الغرابة فيها مايثير الفضول فاخترت احدى تلك الحالات التي شغلت فكري لمدة من الزمن ، وان أراقبها عن كثب ، كنت جالسا أمتّع عيني بالحركة الميكانيكية لعمل ماكينة الطبع بشيء من اللهفة كأنني أريد أن أتعلم شيئا جديدا أشاهده لأول مرة بدأت ابحث عن يميني وعن يساري هل من احد... اقتربت بهدوء وقلبي يكاد يخرج من صدري خوفا... نحو ماكينة الطبع ، تأملت المكان مرة أخرى، ودنوت نحوها على بعد مسافة تلفت النظر حتى جاءني الصوت:
- تعال هنا واعمل بجد.
فرجعت خائبا مكلّما نفسي ناعتا اياها بالجبن، وبقيت عيني ترنو لها من بعيد وهي تراقب تصرفاتها بفضول حتى .. لمحتني انظر إليها بشغف ،ولمرات عديدة ، وابتعد عنها وارتبط عقلي بها هناك أشياء تشدّني اليها لمعرفة أسرارها وكان صباحي مبكرا لرؤيتها وهي تترنح بتفاصيل جسدها الممتلئ وكأنها الوحيدة في هذا الكون لا شبيه لها سوى الماكينة فهي تعمل عليها مالا يستطيع عمله الأخريات من النساء فالعمل رجالي ولكنها كسرت هذا الطوق وتشبّهت بالماكينة ... دارت عجلة الحياة وشاء القدر أن اعمل معها مطبقا وقفت أمامها وعلى ماكينتها وجها لوجه نظرت الى عينيها فوجدت نفسي الحزينة التي أحرقتها الدموع وجففها السهر وأرهقها التعب . فتاة نادرة تكابد الحياة وتشقى حتى تنضح عرقا دون ملل أو تعبير عن تعب ، هكذا وقفت الى جانبها أتابعها بملء عينيّ واقتربت منها شيئا فشيئا ، أراها تارة غارقة بخيالها محدقة العينين الى الأرض محنية الرأس دامعة العينين لا تسمع ولا ترى ، جاءها الصوت صارخا :
- زكية..
رفعت رأسها بكبرياء جنوبي خجول مبتسمة وعادت الى صحوة عملها من جديد هكذا مضى معي اليوم الأول مع الطبّاعة( زكية) وجاء اليوم الثاني وكأنه دهر لم استطع السيطرة على نفسي ولم أجد من يسمعني فهرعت أتجول هائما على وجهي في طرقات بغداد فمشيت من باب المعظم الى شارع أبو نواس والرشيد والسعدون والجمهورية ودخلت السينما دون أن افهم شيئا وثملت المشي ورجعت الى البيت لتكون أسوأ ليلة في حياتي عشت أضغاث أحلام مرعبة فلاح الفجر باكيا علي بغزارة المطر وعتمة السماء من شدة الغيوم السود المتضاربة بقوة لتحدث اصواتا وأزيزا وضوءا إلهيا كأنه لهب يشق الغيوم بضربة سوط من نار ، انكسرت لهفتي وخفت المواجهة وانأ اقترب منها شيئا فشيئا وجلست على الكرسي بجانبها دون ان القي تحية الصباح ولكنني في حالة يرثى لها من قلق وتوتر وبنفس الوقت أتظاهر بعدم الاكتراث وكأنها لا تعنيني بشيء حتى فاجأتني بصوتها وكأنها قائد غريب الأطوار يقود ماكينة الطبع بثقة متعالية متكبرة
ماأسمك :
- أجبت بسرعة البرق عباس...
وسكت انتظر سؤالا آخر ولكنها عبثت بي وتركتني لتعتلي منصة الماكينة لتهيئها الى الدوران وهي تستخرج رولات الماكينة الخاصة بترطيب (بليت) الطبع وهي اسطوانات دائرية تنتهي بعجلات تساعدها على الدوران بشكل انسيابي وهنا جاءني صوتها
- أنت قادم لتعمل معي هيا اذهب وارتدِ صدرية العمل....
وذهبت مسرعا كأي طفل مطيع رغم الحديث بين زملائي بكرهنا بدلات العمل لكوننا نتدرب وحين شاهدني الأصدقاء وانأ في بدلة العمل بدا التهامس والاستهزاء والضحك ولكنني لم اعر أية أهمية ولم اسمع أي شيء سوى صوتها واقتربت منها دون أن أتكلم واشعر إن نفسي يكاد ينتهي، فقالت:
- خذ هذه الاسطوانة وضعها جانبا.
وأول مرة اشعر هذا الشعور حين لامست أطراف أصابعي أطراف أصابعها شعرت بغريزة تأججت في لحظتها وتمنيت أن تتكرر، وهكذا بدأ مشواري معها أتصيد أي شيء يلامسني بها لأهيم في بحر الخيال،ونظرت إليها نظرة طويلة دون وعي ، جاءت عيني في عينيها واقتربت مني قائلة :
- لماذا تبتعد عني ؟ أريدك أن تعمل معي أن تتعلم هذه مهنة .
قلت: لا أفكر بمهنة، فقط أريد أن ابتعد عن شبح الحرب التي تأكل بنيرانها الشباب على جبهات القتال...
وعند حديثي عن الحرب أخذت تبكي بصمت ووضعت يدها على كتفي وقالت:
- تابع الماكينة ريثما أعود.
صعقتني بوضع يدها وتوترت أعصابي وأصبحت بين أمرين في آن واحد بلمستها ارتجف جسدي ،ودموعها أحزنتني وندمت على حديثي .... أخذت الأيام تمضي سريعا لم اشعر بالنهار كيف ينقضي ويعذبني طول الليل وهوسه وفراغه،ففي الصباح تصطبح وجوهنا فرحة وما ليل الاحزان الا رعب مؤقت ... استمر وجودي بجانبها اسمع حديثها وأتمتع بالنظر بعينيها دون كلل أو ملل ، هي أمامي ملاك يحرّك سواكني وأحاسيسي شعور غريب هو أن قلبي يفرح ويخفق عند رؤيتها ويحزن عند الافتراق ، وفكري مشغول بها ، ولمست عاطفتها بميلها اتجاهي، وسؤالها عني باستمرار وطلبت مني أن أصبح عليها مبكرا قبل تواجد موظفي المطبعة وفعلا التزمت بتعاليمها فكنت ابحث عنها يوما داخل المطبعة ومن شدة اشتياقي لها وقلقي ذهبت الى منزعها فوجدتها في ملابسها الداخلية واضعة ساقا على ساق وبيدها السيكارة تتمتع في نفاث الدخانها من بين شفتيها المكتنزة المرعبة بدمها الوردي جاءت عيني بعينيها وقالت:
- اقترب وخذ المفاتيح وانا قادمة وراءك بعد أن انتهي من سيكارتي
كانت عيوني مبحلقة على صدرها الناهض وسيقانها المصبوبة صبا كتمثال مقدس مكتوب عليه احذر اللمس وإلا ؟ لامست أصابعي أصابعها هذه المرة بشكل قريب للمصافحة وخرجت من فوري تاركا ورائي ما لا استطيع ان أنساه طوال حياتي وشغلت الماكينة وجاءت تترنح بقوامها وأنا انظر إليها وأتخيل إن البذلة هي الشيء الوحيد التي تلامس جسدها ناصع البياض فاقتربت مني كثيرا وشاهدت العمل واثنت على متابعتي دون أن تعرج لمشاهدتي قبل لحظات وكان الشيء طبيعيا عاديا لايعنيها فبادرت أنا :
- لماذا تدخنين هكذا بشراهة ؟ قالت :
- أنا لا ادخن باستمرار ولكن بمزاج .
- وأنت هل تدخن؟
- كلا وعمري مافكرت ان احمل سيكارة .
- لأنك لأتحمل الهموم التي احملها ، انا من عائلة بصرية أبي يعمل طبّاعا في إحدى مطابع العشار وهي حكومية وكان يأخذني معه دائما لكونه مريضا وأخي الذي يصغرني لايعير أهمية للبيت بعد رحيل امي الى آخرتها وهكذا تعلمت مهنة الطبع هناك في البصرة .
- أنت الان في بغداد وموظفة ومسؤولة ماكينة .
- صحيح الذي حدث إن والدي أيضا توفي ولم يبق لي في البصرة من احد ، وخالتي تسكن وزوجها بغداد وبمساعدة أصدقاء والدي تم تعييني ونقلي من البصرة الى بغداد .
وهي تتحدث عن نفسها ... وغرام قلبي يتقافز فرحا يريد أن يطلق كلمته يريد أن يصرخ أمامها، انه الحب ؟ هل بداية عشق وغرام. أم هو حب من طرف واحد أو هي تحبني دون أن اعلم فقط أحسه وأتحسسه. هل هو الحب الذي يسمى اللاواعي نائما في اشتياقنا بدموعنا المتوقفة بين الجفون تريد حراكا لانطلاقها . لذلك قررت إن اجعل الحب بوعي صادق صارخا بوجه الجميع ،ومن ثم أتراجع لحين أن اسمع منها كلمة ترجع الى نفسي طمأنينيتها هذه الكلمة ان سمعتها سأحارب من اجلها كل شيء بقوة وإرادة لأنها تصبح حبيبتي التي أحب وأريد. هذه الكلمة لن اكتب أحرفها لأنني لن أنساها وان كتبتها دون ان تقولها لي ستسحقني وتعيّشني في بحر وهمي فأفضّل ان أعيشها في خيالي قبل ان تسحقني.
ومع الايام كنا نقترب احدنا نحو الآخر نتحدث عن مشاكلنا بشيء من السطحية دون الدخول الى الأعماق وكم كنت أحب أن اغرق في عمق نفسها ومشاكلها كي اخفف عنها بعض أحزانها . جاءني صوتها كنسمة عطر فواحة:
- اتبعني الى المخزن من اجل جلب الدهن .
ومشيت معها وهي تحاول ممازحتي وضربي بكتفها اتجاه كتفي فاشعر باحساس لو وصفته لم يبق للحب شيئا دخلنا المخزن وحدنا شعرت برهبة ،وبالنفس وقت أريد أن أكون شجاعا.
قالت بلفظها الرقيق: حبيبي تعال وامسك بطرف البرميل .
وحين اقتربت منها ادارت اتجاه البرميل انزلقت يدي فوقعت على صدرها فاقتربت شفتي نحو فمها شعرت بحرارة تنساب في جسدي وهي لاتمانع ان اضمها الى صدري كانت تنتظر مني حركة تذكرت أنها لاتعي ماتفعل أو تعي كما شاهدها في منزعها ، فتركت البرميل وهربت نحو المطبعة حائرا في أمري ليست مستوعبا ماحصل لماذا أنا خائف أقنعت نفسي بان تربيتي تأبى النزول الى الرذيلة والحب هو الذي يصنع الأحداث رغم التأجج الحسي في داخلي ، انتظرت رجوعها وإرهاصات روحي تناور بين الشك واليقين حتى لاحت بشائرها مبتسمة لاشيء مؤثر عليها حتى اقتربت وقالت:
- أنت إنسان مؤدب وحقيقي ولك في نفسي مكانة وقد جربت فيك حسن الغاية وأنت شخص من النوادر.
وفي هذا الجو العاطفي ولساني على قلبي وبين شفتي تكلمنا عن قصص حبنا القديم ، كان الحديث لي بعد سألتني بكل رقة وحنان وكأنها تريدني لها وحدها ، فعزمت ان تعرف جزءا من حياتي.
-هل عشت الحب وعذابه.
قلت عشقت الكثير في خيالي ولكن لم أحب سوى مرة وباءت بالفشل والغدر واكتشفت بعد حين أنها نزوة.
- هل حدثتني عن غدرها ؟
- كنت حينها صغيرا جدا ولم التحق بدراستي الابتدائية لسبب انتقال عائلتي من الكاظمية الى كربلاء للاستقرار أبي المهزوم من القوميين باعتباره شيوعي التوجه بعد اعتقاله وخروجه وشهادته أمام المهداوي ضد معذبه بهجت العطية في سجون بغداد وتغير الوضع ولم يؤمن أبي بقضية حماية الأشخاص أي لم يحمه آنذاك الحزب الشيوعي ولم يسال عليه على اقل تقدير لكونه فردا بسيطا من مجموعة سعيد متروك من عائلة بيت دباش القانطين بمنطقة ( أم النومي) في الكاظمية هذا الشخص الذي وجد في أبي حسن التوجه وحب الوطن فنظمه لمجموعته الخطرة آنذاك وكان عمري ثمان سنوات حين لم شملنا بكربلاء سكن في بيت اذكره جيدا في شارع الفسحة المنطقة القريبة للروضة العباسية ، بيت كبير ذو طابقين يحتوي الطابق الأول على ( حوش) بسرداب وغرفة تسمى في اللهجة الكربلائية ( كرد سار ) وهي كلمة فارسية ، والمكان عبارة عن شناشيل عالية وباب بدرجات يقابلها باب السرداب الذي وضعت به البصمة الأولى للتمني حين زارنا أقارب أبي وأمي وعقدت الصفقة لزواج أخي الكبير ونظرت إلي عمتي وقالت سأكتب اسمك واسم ابنتي في سجل المأذون لتكون هي لك وأنت لها ، هنا ترسخت الفكرة في راسي ونظرت الى أبنة عمتي بشيء من الخيال وقمت احلم بيوم لابد ان يأتي وكبرنا والأشواق تزداد والاماني لاحصر لها وتصارحنا في يوم من الأيام وفي ظهيرة تموزية في مسقط راسي الكاظمية البيت الذي شغلته عمتي بعد هجر أبي الكاظمية فقالت لي:
- اسمع ابن خالي إن لم تكن لي سأقتل نفسي ولن اخذ غيرك حتى لو ذبحوني . هنا ذكرتها كيف أمها عقدت العزم وسجلت أسماءنا في دفتر المأذون ابتسمت وتشجعت أن تحضنني من شدة فرحها بالامتلاك الموثق بكتاب ... ومر العمر والحب ينمو والخيال يتسع والصغير يكبر والكبير يشيخ وهكذا مرة حلو ومر حياتنا احدنا ارتبطت بالآخر بالمشاعر بالإحساس بكل مايملكه القلب من عواطف وصلنا الى مرحلة التحسس احدنا يتحسس الآخر ويعلم به ويسال عنه . ففي احد أيام دراستي التي قضيت أيامها في بيت عمي ببغداد كنت قريبا منها جدا اليوم الذي لاارها فيه لايحسب من الأيام وكل عوائلنا عرفت بقصتنا بدعم من عمتي وذات يوم لم اذهب لتناول شاي العصر في بيت عمتي انشغلت بأمر وحين أذن شوقي لم انتظر العصر فذهبت ذات ظهيرة عالية الرطوبة حرارتها تجتاز النافوخ مباشرة وعند طرق الباب وجدتها أمامي ومن شدة أشواقنا احدنا ضرب الآخر صفعة بملء يديه وتشابكنا أحسست حينها ان قلبها يعانق قلبي وخدي تمتزج فيه دموعنا وبقينا على هذه الحالة لحظات حتى جاء صوت عمتي ( منو بالباب ) هذه الكلمة كانت أداة فصل جسدينا وبقيت في بيت عمتي حتى انتصف الليل وتحدثنا ووضعنا خططا جميلة لمستقبلنا وقلت لها سأسافر الى كربلاء لقضاء اجازتي وارجع بعد انتهائها ويا ليتني لم ارجع ، قالت أمي:
- ابني لاتذهب بعد الآن لبيت عمتك كي لايستهان بك.
هنا قلقت جدا ولعب الفار بعبي وملأ قلبي القلق ، قلت لامي :
-لماذا .. لماذ؟
فلم تجبني ووبختني قائلة :
-أنت لأتعرف ناسك ولا اقرباءك واسمع كلامي ولا تذهب .
أريد الأرض ان تنشق، أريد الوقت ان ينتهي ، أريد الأيام ان تنقضي .... ووصلت ومن فوري الى بيت عمتي دون خوف أو وجل شاهدتها ليس كما تركتها فكان السؤال لي:
- لم نضرب بعضنا ولم نتعانق لماذا ياحبي . قالت:
- لم اصبح حبيبتك.
- لماذا ؟
- أبي صاحب القرار اسأله إذا شئت .
- لماذا ؟
- لان ابن خالتي ، فعل فعلته وانتصر علي وعلى امي وأبي ولاتسالني أكثر ولا تقترب مني.
- لماذا؟ وأغرورقت عيني بالدموع ولم اعد أرى فقط اسمع أريد جوابا شافيا الشك أخذ يذبحني ببطء شديد لعدم التوضيح.
وخرجت وذهبت اليه، وفور رؤيتي له . قال :
- أهلا ابن خالي اليوم انت مدعو في مطعم الخورنق بالاعظمية على حسابي .
وافقت رغم انفي لأنني أريد حلا أريد إجابة بل أريد أن يرتاح قلبي وتسكن نفسي. فشربنا حتى الثمالة وقال لي:
هي الدنيا هكذا تبحث عن الذي يقاومها ويأخذ كل شيء منها بالقوة وأنت يا بن خالي فيك من البساطة والخوف من الأشياء لاحدود لهما رغم انك مثقف ومرتّب ومحافظ ومتدين نوعا ما وعلماني في اغلب الأوقات . الذي خسرته أنت ... ربحته أنا.
كنت صامتا وقلبي ينزف، واشرب بإفراط وهو يتكلم بنفس الموضوع الذي أريد أن اكلمه به ولكن بإيماءات وإشارات وتوصيلات وغيرها من أمور التوضيح غير المباحة ، فأكمل حديثه - الفتاة أشبه بمهرة جميلة تدور حولك مظهرة جمالها وفتنتها، والفارس القوي هو الذي يمتطيها فتكون ملكه وشريكة حياته.
لم انبس بأية كلمة توضحت الأمور لي ، فضحكت بملء فمي وبان علي المشروب وقوته السحرية وتركت المائدة نازلا بمفردي وعند الخروج سمعت صوت اخيه الصغير وهو يقول لبيت عمي : أين خالي فليأت ويشاهد ابن أخيه المتدين الملتزم كيف يمارس حريته في الأماكن العامة.
خرجت دون أن أقول او انبّه أحدا لخروجي ووصلت في الوقت المناسب الى بيت عمي الذي وجدته متهيئا لرؤيتي في المشهد الذي وصفه قريبي .
قلت : مابكم؟
- أجاب عمي، هناك دعوة لعرس ستقولها امرأة عمك لا تعارض.
- قلت : نعم . لمعرفتي للأمور وحيثياتها . وفعلا جاء اليوم وعقلي فيه فارغ وذهني صائب وقلبي نازف وتأنقت بأفضل ملابسي وذهبت الهوينا الى الكاظمية استقبلني أولاد عمتي بترحاب شديد وابرزوني بين الحضور ووقفت بالباب استقبل القادمين من الضيوف حتى ارخى الليل سدوله وأشعلت المصابيح الملونة ودقت الطبول وكأنها تسحق أخر أشيائي بمعركة مصيرها الأكيد الفشل . جاءني احدهم وأجلسني على كرسي قريب من العريس وصب لي أول كاس اشعر به بلذة فوقانية من القوة والاستعداد لتكملة الحفل أحسست بمحاولات الغدر تحيط بي حين سمعت عمتي تقول لابنها: اترك ابن خالك لاقدرة لديه على هوسكم على ما تحتسون نظرت الى مصدر الصوت وشاهدت الكم الهائل من الأقارب يشاهدون الراقصين في الحفل وشعرت ان الكل ينظر الي وخاصة من النساء وبناتهن اللواتي طالما كن يقتربن مني خلسة واليوم ينتظرن ان افعل شيئا يبقى في الذاكرة ولكن شعوري بأنني لو قمت من مكاني لكنت أضحوكة المحتفلين والمشاهدين لان يدي تفلت مني كلما أرادوا القيام أو التحرك،وانتهت الحفلة واراد مني الجميع التزحزح من الكرسي فلم أتحرك خطوة واحدة حتى قارب الفجر أن يبزغ نوره شعرت بهزة على كتفي فتحت عيني وجدت ابنة عمتي الصغرى تنظر باكية تحاول ان تعينني على القيام نظرت يمينا ويسارا فبادرتني بالقول:
- الكل نيام
وانتظرت هذه اللحظة كي ادخللك الى مكان نومك ونهضت بأعجوبة متكئا على جسد ابنة عمتي الصغرى وشعرت بالدماء تسري في جسدي من حرارة جسدها الغض ونهديها وكأنهما قطعتان من الإسفنج الناعم .. ادخلتني الحمام ووضعت لي منشفة وأشياء أخرى وانتظرتني حتى انتهيت فلم تبالي من احد ولم تكن خائفة كل همها أن لاكون كما تصورني الآخرون ونهضت مبكرا خارجا دون أن أودع احدا وكأنني لم اكن موجودا، وتبلسم الجرح مع الزمن وبقي الحب عندي شيئا أحسه في وقت وأنساه، في اواقات عديدة هذه هو حبي عرفت فيما بعد بأنه من طرف واحد وإنها أعطت جسدها مرات عديدة قبل أن يدخل بها وأنجبت بعد ست أشهر من زواجها فكان الدليل على أنها حملت قبل أوانها . حين ختمت مأساتي بهذه الصورة وهي مصغية ومنتبهة لحركة ماكينة الطبع التفتت الي مصفرة الوجه كأنني ايقظت بمفرداتي ذكريات نائمة في قلبها الذي اخذ يعلو وينخفض بشكل ملفت للنظر وبدأت تتمتم بالحديث بصوت مبحوح خائف من شيء .
- أحبني وأحببته منذ صغري لطبيعة تجاور دارينا وكأننا نعيش قصة واقعية فيها كل مايتمناه المرء ( الحنان ، الممزوج بالحب ، الصدق ، الوفاء ، الإخلاص ، الأمان ، الثقة ) حتى عوائلنا كانت متفهمة وضعنا ومتفاهمين فيما بينهم ويخططون لعلاقة مصيرها الزواج لاريب في ذلك ومن كثرة أشواقنا لا افارق بيتهم الا بعض الأحيان اقضي الليل معهم وهو يدرس قضايا طبية في مرحلته الأخيرة من معهد الطبي الفني في البصرة أما أنا فأجيد القراء والكتابة فقط ، ونجح بامتياز ليكون معاون طبيب ويلتحق بالعسكرية الإجبارية ونار الحرب مشتعلة وأبواب الموت مشرعة لاتعرف صغيرا ولا كبيرا فكانت ليلة التحاقه أجمل ليالي حياتي شعرت بأنوثتي الحقيقية وهو يداعبني فوق السطح ويعبث بي بجنون متعني حد الخوف واهتز جسدي عدة مرات اهتزازا لم اعرفه من قبل استرخ جسدي ونملت قدماي ولم اعد أحس بهما وحرارة لذيذة سرت في داخلي ونبهنا أذان الفجر وصوت أمه الذي غرد بتكبيرات استعدادا لقيام صلاة الفجر ونزل ولبس وودعني بقبلة عميقة أغنت شفتي المتعطشة دوما له... وبدأ الانتظار القاتل لعودته وطال الانتظار وأصبحت احلم بلقائنا وأتمرن بخيالي كيف استعيد وأعيد معه تلك الليلة ولكن سأكون أنا من ينتصر عليه بطاقتي وعنفواني وحرارة جسدي ولهفة شفتي لتقبله من رأسه حتى أخمص قدميه دون كلل أو ملل ... و في نهار تموزي خرجت للتسوق ومن بعيد شاهدت سيارة وناسا واقفين أمام داري اقتربت لاح لي نعش تحمله السيارة مغطى بالعلم العراقي اخذ الرعب طريقه الى قلبي وشهقت وذهلت ..عيني لا تنضب دمعا ،قلبي يرتجف ،الناس جميعهم ينظرون الي بعيون دامعة عرفت مصير الغالي الذي منحني الحب، واخذ مني أحلى شيء في حياتي فودعته الى الأبد تاركا فيّ جرحا لا يندمل وبقيت مجروحة حتى هذا اليوم . وبكت بصوت وذهبت منكسرة الى غرفت المنزع ، لكي تطفئ غضبها وحزنها بسيكارة وقرص مهدئ.
مسكينة قلت في نفسي وانا أقرأ لها ورقة من كتاباتها تضع بعضها قرب الماكينة فجاءت كلماتها مؤثرة وحزينة ومليئة باليأس ، تقول فيها:
أنا من أنا
أنا الباحثة عن الأمل
أنا المتعطشة للحب
أنا الغارقة في بحر من الدموع
أنا الغارقة في بحر ليس له شواطئ
أنا المجروحة بين البشر
أنا المظلومة بين هؤلاء البشر
أنا التي ذاقت الحرمان بأنواعه
أنا التي لم أجد من يفهمني
أنا من اختارني القدر لكي أكون هكذا
بعد هذه الكلمات جن جنوني وخفق قلبي وفاض حنيني رأفة وحبا وعطفا وودا وكل صفات الإحساس النبيل، وفي هذه اللحظات المفعمة جاءت مبتسمة وكأن أي شيء لم يحصل تفحصت عملها واقتربت مني كثيرا فقلت لها:
احبك.. أنا احبك. استقبلت كلامي بصدر رحب وابتسامة شع وجهها نورا . فأجابت وهي تمسك يدي
-إنني احبك أيضا وأقدرك ولكنني لاانفعك .
تألمت وتشجعت في نفس الوقت وقلت : لماذا ؟
قالت : لااستطيع قولها هناك امور لم اقلها لك فهي بيني وبين ربي .
اخذ الصمت يغفو لحظتها ودار فكري دورته الشكوكية وقررت تركها وقلبي يرغب بها وتغيرت علي تغيرا ليس بالطبيعي فأخذت تحاورني بعف وتغيظني وتتركني كثيرا وحدي أراقبها عن بعد فتحاور أصدقائي وتنظر الي وكأنها تتكلم عني بأضحوكة أصدقائي ولكن اتضح العكس فاعترفت بغيرتي اتجاها مما جعلني أتمسك بها أكثر فأكثر ، وحان وقت الوداع لانتهاء مهمتنا في المطبعة الوقت الذي لاتتقابل به الوجوه بعده ، بلغني المشرف أمامها يجب تسليم عهدتي لإدارة المطبعة.. فدنت مني حتى كاد جسدها يلامس جسدي شعرت بالتلامس فعلا ، ونظرت في عيني وقالت: احبك وسأنتظرك وارغب أن تستقر حياتي بقربك فر قلبي من مكانه ولا استطيع ان اتمالك نفسي وهي تعترف لي بالوقت الضائع . ولم تسعفني اللحظات الاخيرة وافترقنا ، واخذ الشوق يسحق جسدي وانا اقدم تقريري العلمي للالتحاق الدراسي صيفا في معهد تكنلوجيا بغداد في منطقة الزعفرانية ، ضمن نظام التدريس المتناوب الذي عملت به وزارة التعليم العالي سنة 1986 -1987 وهما السنتان الدراسيتان اللتان اعادتا النبض لحياة روحي وايقظتا بها نار حبي الوحيد ، ليعيش قصة اكبر نارا واكثر حرقة . طال انتظاري وطفح صبري فاخذتني قدماي الى حيث كانت فوجدتها كما تركتها ، هي بنفسها بروحها بجسدها الممتلئ، وجدوا نفسي اقف امامها في ذلك الصباح المبكر الذي طالما انتظرته في ايامي معها ان اكون بقربها قد احصل على لمسه من جسدها اذوب بها بنهاري كله . المفاجأة هنا رغم حديثي القصير والسريع عن احوالها ومزاجها ، اخافتني ومات بعض الشوق فيه حين شكت بطريقة مسرحية اشواقها وحبها . فكان حديثها : حبيبي اريد ان اتمسك بك .. اريدك لي فانت اخذت قلبي وحيرت قلبي .
ولكن ماتت هنا مشاعري لم اصدقها رغم شوقي لها .. قبل ايام اريد ان اسكن تحت قدميها اتربع على عرش صدرها الذي طالما اغراني بمفاتنه . فقلت بهواجسي : هكذا الدنيا تحرم عليك ماتحب وماتهوى بمجرد ان تضع قدميك على بداية طريق.
لاانكر كم كنت فرحا حين اعترفت وقالت : حبيبي اريدك ، احبك. بنفس الوقت كنت قد قارنت بخيالي بينها وبين التي حرمتني حلمي بالحب ... اذن الان انا في حلم ، صحوت قليلا.. نظرت اليها بتمعن وجدتها لاتشبهها ابدا ولا لها أية صفة من صفاتها لكن قلبي ضعيف وغرائزه الممتلئة بدقات ناقوس الرغبة والحذر والخوف والتمرد والعبثية بارتجافة . فلم اختصر الزمن اعترفت ان الحب سراب لا وجود له الا في خيالي ، دون حقيقة ، ولكن البراهين ها هي تتوالى ، تركتها مقتنعا تماما بانها استطاعت ان تحرك سواكن قلبي وفكري من جديد وان انشد قصتي حبرا فوق حبر واصنع صبري دون مليكة تعتلي عرشه وان لا انهار امام الذكريات التي ولدت حبا جديدا بديلا عن الذي غرس وسقى نواة حياته.
*حيدرعاشور
* قصة قصيرة من مجموعة ( بوح مؤجل )