لم يعد ثمة متسع في دنياها سوى صورته وقد تحولت الى جزء من حدقتي عينيها السوداوين وحين تتجاوز الباب الرئيسي للكلية لم يعد لها شاغل سوى البحث عنه على الرغم من انه ليس احد طلاب كلية الفنون الجميلة لكنه يتردد على احد اصدقائه وقد اقترب منها في احد احتفالات الكلية ومنذ تلك اللحظة اصبح امره يشغلها وما عادت تهتم بذلك الهوس الدراسي الذي تملّكها حين ولجت قدماها اروقة الدراسة الجامعية.
ولم يقتصر هذا الانشداد مرتبطا بها بل امتد ليجعل من هشام روحا تهيم حول اسوار الكلية وكأنها مزاره الاوحد يبحث في ساعات الصباح المبكرة عن مبرر او سبب للدخول الى الكلية بحثا عن صديقه سليم ومن ثم يتسلل رويدا رويدا الى مكان يجمعه مع سهاد حتى اصبح الاثنان مضرب الامثال وحكاية العشق التي تلوكها الالسن وتدور في احاديث القاصي والداني مما جعل هشام يصارح توأم روحه كما يسمي (سهادا) بان يتدبرا اللقاء خارج اسوار الكلية بعد ان عاشت حكايتها ولم يعد من السهل اللقيا بين هذا الحشد الشره من العيون وهذه الغابة من الفضول والتلصص الذي يسكن الجميع الذين لم يعرفوا مغزى المشاعر ومحنة التعلق.. كانت سهاد تصف هذه الوجوه المشرئبة بانها عبارة عن دمى بلاستيكية خالية من أي توق روحي وليس من شاغل لها سوى تصيّد اخبار الاخرين عبر النظرات البلهاء والكلمات السمجة والعشق الاوحد كما تسميه هو نوع من الابتلاء الذي يغرس في النفس النقاء البهي والايثار الجميل والتلذذ بنكران الذات بحثا عن النصف الاخر الذي يمثل تعويذة البقاء والتجدد ومصدر الانفاس العطرة باتجاه تحقيق اجمل الاماني واعذب الاحلام وازهى الذكريات التي لا تتكرر كثيرا وصناعة الذكرى المتفردة ليست بالأمر السهل ولا تمر على كل انسان الا بقدر ما تمر عليه السحب العابرة وما على الانسان سوى ان يتلقف تلك اللمحة الاشراقية حين تدق اجراس التكامل والتناغم مع روح اخرى تحمل الهوس والوشم واللهفة نفسها وحين تتحقق تلك المعادلة الوجودية فان عرسا روحيا بدأ يزور العالم.
كان هشام يصغي بصمت المتعبد البوذي الى كلمات وافكار سهاد الغريبة والمعطرة بأنفاس التوق الرومانسي ولا يجد سوى ان يطلق العنان لأنامله وهي تتلمس طريقها الى انامل سهاد الرقيقة والمعمدة بألق روحي متفجر.
ورغم سرية الموسم الاخير للقاءات سهاد وهشام ان الاخبار تتسلل وتنتشر بسرعة البرق لا سيما مثل هذه الاخبار التي تزداد فيها المبالغة والتزويق والخيال المنفلت وتحويلها الى حقيقة مروّعة..
وقد تسللت هذه الحقيقة بروعتها وغرابتها الى اسرة سهاد فنهضت الايادي والرؤوس وتصلبت النظرات الشزرة واحاطت بسهاد من كل حدب وصوب وتعالت اصوات التهديد لتضعها في زنزانة الرعب السري لا تدري كيف تقاومه، وهم يضعون اكفهم الخشنة على فمها الرقيق واختزل سالم الاخ الاكبر ما يجول في نفوس الجميع بان تتوقف سهاد عن الذهاب الى الكلية وتطلّق الدراسة وتجلس في البيت مثل بنات الجيران، فالمرأة مكانها البيت، وماذا تفعل بالكلية..
وجدت سهاد نفسها فجأة داخل سجن صغير محكم وتحت مراقبة النساء والاطفال وتلاشت شخصيتها الجامعية ولم يعد حتى لها الهاتف النقال وسيلتها للاتصال بالعالم الخارجي بعد ان حطمه سالم وسحقه تحت قدميه القاسيتين، وتدبرت امرها بهاتف ابنة الجيران وبطريقة سرية ان تتصل بهشام وغامرت باللقاء به قرب المستشفى بعد ان افتعلت حالة مرضية تستدعي المراجعة مع اختها الكبيرة، وكان لقاء سريعا مليئا بالخوف والتلفت والفزع مما جعلها تركز في كلامها وطلبت منه اذا كان يحبها حقا بان يتقدم لها وينهي هذا الفصل من العذاب لتعود اليه والى كليتها.
لكنها فوجئت بان رأسه بدأ ينحني كمن لا يملك ارادة للتوهج وبدأت كلماته المتقطعة وافكاره المشتتة تعبر عن خذلانه وضعفه واختصر كل هذا النكوص حين نطق بكلمات قليلة اقتلعت كل امالها مرة واحدة :
- سأسافر للعمل مع والدي في الخليج.
وارادت ان تصرخ بوجهه، وانا .. وهذه الحكاية التي انتشرت مثل شائعة رديئة.. كيف تتخلى عن كل ما وضعتني به من موقف ثم وبكل بساطة تهيئ جوازك وتطير تاركا كل الركام والحطام.. لكنها ابت ان تفقد ذاتها ازاء من لم يقدّر هو بشاعة وقساوة ما عانته وتعانيه.. استدارت بقوة نحو اختها وسارتا بالاتجاه المعاكس لخطوات هشام الخاوية من كل هوس الماضي.. وشعرت سهاد بان الذي امامها صورة جبسية من هشام الذي كان يهتف ويخطط ويعد للمستقبل.
حين دخلت غرفتها الصغيرة قررت ان تسدل الستار على قصة خاوية لم تجن منها سوى الشائعات وخسارة الدراسة.
وحين انتهى العام الدراسي حاولت ان تتقرب من اخيها سالم لكي تعود الى الكلية وكم كانت تحلم بان تعود ولا تنظر الى أي رجل اخر بعد اليوم.. فهي ستعود الى التعلق بدراستها ونيل الشهادة بعيدا عن اوهام العشق الجامعي الذي يشبه رغوة او فقاعة ما تلبث ان تتفلق في الهواء الطلق..لم يلتفت سالم الى توسلاتها ووضع زوجته كحارس تراقب حركاتها وسكناتها وحرّم عليها الخروج او الحصول على هاتف نقال واصبحت حياتها بحجم مساحة الغرفة الضيقة التي تقبع فيها مثل متهم لا ينتظر الافراج ومما جعلها تنوء تحت المرض وشحوب الوجه ما سمعته من ان هشاما لم يسافر بل افتعل هذه الذريعة ليتنصل عنها.
حتى انها في ايامها الاخيرة حاولت التخلص من حياتها ففشلت وكأن حتى الموت ابتعد عنها ورفضها وكتب عليها ان تموت موتا بطيئا بلا أي نافذة تبعث فيها الحياة التي غادرتها دون رجعة.
*حيدر عاشور
*قصة قصيرة من مجموعة (بوحٌ مؤجل)
ولم يقتصر هذا الانشداد مرتبطا بها بل امتد ليجعل من هشام روحا تهيم حول اسوار الكلية وكأنها مزاره الاوحد يبحث في ساعات الصباح المبكرة عن مبرر او سبب للدخول الى الكلية بحثا عن صديقه سليم ومن ثم يتسلل رويدا رويدا الى مكان يجمعه مع سهاد حتى اصبح الاثنان مضرب الامثال وحكاية العشق التي تلوكها الالسن وتدور في احاديث القاصي والداني مما جعل هشام يصارح توأم روحه كما يسمي (سهادا) بان يتدبرا اللقاء خارج اسوار الكلية بعد ان عاشت حكايتها ولم يعد من السهل اللقيا بين هذا الحشد الشره من العيون وهذه الغابة من الفضول والتلصص الذي يسكن الجميع الذين لم يعرفوا مغزى المشاعر ومحنة التعلق.. كانت سهاد تصف هذه الوجوه المشرئبة بانها عبارة عن دمى بلاستيكية خالية من أي توق روحي وليس من شاغل لها سوى تصيّد اخبار الاخرين عبر النظرات البلهاء والكلمات السمجة والعشق الاوحد كما تسميه هو نوع من الابتلاء الذي يغرس في النفس النقاء البهي والايثار الجميل والتلذذ بنكران الذات بحثا عن النصف الاخر الذي يمثل تعويذة البقاء والتجدد ومصدر الانفاس العطرة باتجاه تحقيق اجمل الاماني واعذب الاحلام وازهى الذكريات التي لا تتكرر كثيرا وصناعة الذكرى المتفردة ليست بالأمر السهل ولا تمر على كل انسان الا بقدر ما تمر عليه السحب العابرة وما على الانسان سوى ان يتلقف تلك اللمحة الاشراقية حين تدق اجراس التكامل والتناغم مع روح اخرى تحمل الهوس والوشم واللهفة نفسها وحين تتحقق تلك المعادلة الوجودية فان عرسا روحيا بدأ يزور العالم.
كان هشام يصغي بصمت المتعبد البوذي الى كلمات وافكار سهاد الغريبة والمعطرة بأنفاس التوق الرومانسي ولا يجد سوى ان يطلق العنان لأنامله وهي تتلمس طريقها الى انامل سهاد الرقيقة والمعمدة بألق روحي متفجر.
ورغم سرية الموسم الاخير للقاءات سهاد وهشام ان الاخبار تتسلل وتنتشر بسرعة البرق لا سيما مثل هذه الاخبار التي تزداد فيها المبالغة والتزويق والخيال المنفلت وتحويلها الى حقيقة مروّعة..
وقد تسللت هذه الحقيقة بروعتها وغرابتها الى اسرة سهاد فنهضت الايادي والرؤوس وتصلبت النظرات الشزرة واحاطت بسهاد من كل حدب وصوب وتعالت اصوات التهديد لتضعها في زنزانة الرعب السري لا تدري كيف تقاومه، وهم يضعون اكفهم الخشنة على فمها الرقيق واختزل سالم الاخ الاكبر ما يجول في نفوس الجميع بان تتوقف سهاد عن الذهاب الى الكلية وتطلّق الدراسة وتجلس في البيت مثل بنات الجيران، فالمرأة مكانها البيت، وماذا تفعل بالكلية..
وجدت سهاد نفسها فجأة داخل سجن صغير محكم وتحت مراقبة النساء والاطفال وتلاشت شخصيتها الجامعية ولم يعد حتى لها الهاتف النقال وسيلتها للاتصال بالعالم الخارجي بعد ان حطمه سالم وسحقه تحت قدميه القاسيتين، وتدبرت امرها بهاتف ابنة الجيران وبطريقة سرية ان تتصل بهشام وغامرت باللقاء به قرب المستشفى بعد ان افتعلت حالة مرضية تستدعي المراجعة مع اختها الكبيرة، وكان لقاء سريعا مليئا بالخوف والتلفت والفزع مما جعلها تركز في كلامها وطلبت منه اذا كان يحبها حقا بان يتقدم لها وينهي هذا الفصل من العذاب لتعود اليه والى كليتها.
لكنها فوجئت بان رأسه بدأ ينحني كمن لا يملك ارادة للتوهج وبدأت كلماته المتقطعة وافكاره المشتتة تعبر عن خذلانه وضعفه واختصر كل هذا النكوص حين نطق بكلمات قليلة اقتلعت كل امالها مرة واحدة :
- سأسافر للعمل مع والدي في الخليج.
وارادت ان تصرخ بوجهه، وانا .. وهذه الحكاية التي انتشرت مثل شائعة رديئة.. كيف تتخلى عن كل ما وضعتني به من موقف ثم وبكل بساطة تهيئ جوازك وتطير تاركا كل الركام والحطام.. لكنها ابت ان تفقد ذاتها ازاء من لم يقدّر هو بشاعة وقساوة ما عانته وتعانيه.. استدارت بقوة نحو اختها وسارتا بالاتجاه المعاكس لخطوات هشام الخاوية من كل هوس الماضي.. وشعرت سهاد بان الذي امامها صورة جبسية من هشام الذي كان يهتف ويخطط ويعد للمستقبل.
حين دخلت غرفتها الصغيرة قررت ان تسدل الستار على قصة خاوية لم تجن منها سوى الشائعات وخسارة الدراسة.
وحين انتهى العام الدراسي حاولت ان تتقرب من اخيها سالم لكي تعود الى الكلية وكم كانت تحلم بان تعود ولا تنظر الى أي رجل اخر بعد اليوم.. فهي ستعود الى التعلق بدراستها ونيل الشهادة بعيدا عن اوهام العشق الجامعي الذي يشبه رغوة او فقاعة ما تلبث ان تتفلق في الهواء الطلق..لم يلتفت سالم الى توسلاتها ووضع زوجته كحارس تراقب حركاتها وسكناتها وحرّم عليها الخروج او الحصول على هاتف نقال واصبحت حياتها بحجم مساحة الغرفة الضيقة التي تقبع فيها مثل متهم لا ينتظر الافراج ومما جعلها تنوء تحت المرض وشحوب الوجه ما سمعته من ان هشاما لم يسافر بل افتعل هذه الذريعة ليتنصل عنها.
حتى انها في ايامها الاخيرة حاولت التخلص من حياتها ففشلت وكأن حتى الموت ابتعد عنها ورفضها وكتب عليها ان تموت موتا بطيئا بلا أي نافذة تبعث فيها الحياة التي غادرتها دون رجعة.
*حيدر عاشور
*قصة قصيرة من مجموعة (بوحٌ مؤجل)