لغط من نساء ينتمين إلى عائلة واحدة وبعض من صويحباتهن من المعارف والجيران،وعدد لا يحصى بسهولة من الأطفال في غرفة ضيقة لا تتجاوز مساحتها ستة أمتار مكعبة ، جدارها القديم يعلن عن رائحة للرطوبة عالية تحيط بجميع أجوائها ولا يغير عفونة الجو سوى ذلك الشباك الخشبي المطل على فرع ضيق، ترتفع منه (مبردة) هواء تزخ أمطارا من جميع جوانبها لاستمرارية ضخ الماء إليها ... تتزايد أعداد النساء والأطفال ويتلاطم مدهم نحو الممر الضيق للبيت، الكل يلامس الكل، الصدور الناهدات بعضها متداخل مع بعضها متآخية، بينما هناك صغار يبلغون الحلم يتلذذون بهذا التلامس الغريزي... وأخريات يتعاتبن بالصياح والضرب ومنهن يتدخلن للصلح من اجل استمرار المراسيم .
جاء صوت من خلف الباب : السيد قادم ... (فهلهلت) النساء وتداخلت الأجساد أكثر وزحفت إلى باحة الدار وضاقت الغرفة حد انقطاع النفس، والجميع يراقب عن كثب حركات دخول السيد الذي وصل بصعوبة إلى داخل الغرفة بعد أن انقطعت أنفاسه من التكبيرات والاستغفار فقال بعد أن جلس على حافة السرير الذي اخرج صوتا يقشعر له البدن :
- أين والد العروس ووالد العريس .
جاء الرد سريعا والد العروس متوفى ووالد العريس تنوب عنه العمة
- من ولي أمر العروس إذن؟
جاءت امرأة ممتلئة القوام، قصيرة، تظهر ساعديها بكم قصير من الثوب الكستنائي الذي ترتديه فأجابت بتكبر : أنا أمها
تفحصها السيد جيدا واستغفر الله وقال: وأين العروس.... جاءت العروس مع غمامة من النساء المحيطات بها وهن يطلقن الأصوات بكثافة وهي مزينة بفستان وردي قصير وباقة ورد تعلو رأسها... بهت وشهق السيد لرؤيتها وانتفض واقفا وهو يقول لنفسه : يا الهي إنها طفلة ، ما هذا التناقض عيناها حزينتان، وتصطنع الضحكة.
بدأ القيل والقال ينساب من النسوة احدهن قالت:
- مسكينة صغيرة لا تتحمل الزواج .
جاءها الرد من صاحبتها:
- إنها تريد أن تتخلص من جحود أمها الغاوية للرجال على اختلاف أعمارهم من اجل الحصول على أموال وهي تبيع نفسها باستمرار!!
ضحكن بصوت منخفض ، ليعلو صوت السيد يسأل عن العريس .. جاء العريس ذو السمرة الجميلة والوجه الدائري الموحي بالحسن والدلال والنعم،ولكن الزمن قد رسم على شكله وسام التمرد على عائلته، بعد أن شرب من كأس سحرهن القاسي،فظهرت على محياه الخطوط البيض واضحة على الحاجبين مع تساقط الشعر من الرأس والشارب فيبدو للناظر اليه رجلا أملس تماما، ورغم ذلك كله، فهو يمتلك جاذبية ساحرة وقوة جسدية كبيرة... تمت مراسيم كتابة العقد في جو غرائبي ومثير للدهشة بما فيه من مفاجأة ومداخلات خارجة عن العرف والتقاليد، بل انحطاط أخلاقي ظاهر على النساء أكثر من الرجال، وبمجرد أن أعلن السيد مأذونية الزواج بشكله العقائدي حتى علت (هلاهل) الأحبة وسط معركة شرسة من الرؤوس بين بنات العم في باحة الدار لمعرفة العروس (سر مهر ) وصالحة للاستعمال، وتداخلت أطراف لفك النزاع النسائي الحاد بكلام مفضوح وبذيء وعلني، وعقد الاجتماع وسط الدار وأمام الجميع الذي هو بانتظار العريس أن يرفع رايته البيضاء ملطخة بالدماء لكسر الشك باليقين ، ساد الصمت في أرجاء البيت والكل ينتظر الراية والعيون تنظر إلى باب الغرفة وأعلنت مراهنات غير شرعية بين بعض من النساء لغرض الشماتة ، فيما إذا كانت العروس كما توقعت عمة العريس ،ومع هذه الأحداث المتوترة جاءت امرأة وقورة وقوية اتجهت الأنظار إليها وبعض النسوة حولها وخلفها يردن منها الحل هل جاءت لتلغي العرس بصفتها أم العريس بعد أن تركها ولدها الطائش الذي نسي أمه وارتمى بحضن عمته التي اختارت له هذا الموقف الصعب ... دخلت الأم الغرفة وخلفها أسراب النساء المتجادلات منهن ضاحكات على الموقف وأخريات خائفات من الفضيحة التي قد تحدث ، اجتمع شمل العائلة المتنافرة في غرفة واحدة ... العروس والعريس كأنهما صنمان من طين حر تتلاعب به تلك العمة كيفما تشاء وتوقف حين برزت الأم فجأة وهي تشاهد مصير ابنها والى جانبه عروس بعمر الورد كأنها مذبوحة بسكاكين النساء من حولها صرخت بهن وأخرجتهن بالقوة وبقيت العمة التي أجلست العريس وهي تقول له:
- اجعل ذراعك قوية وأعلن الراية بسرعة....
الأم أخذت تخرج النساء وتطرد العمة ،حتى سرير العرسان لم يخل من الصبية حين سمعت الأم الباكية على مصير ابنها صوتا غريبا تحته لتخرجهم من الغرفة تحت أمطار من الضربات و(الهلاهيل )... ومرة أخرى ساد الصمت حين خرجت الأم من الغرفة لتجلس على حافة درج وتشعل سيكارة وتنفث دخانها بعصبية وتوتر واضحين... وطال الانتظار ولم تعلن النتيجة ، الأم خرجت ولم تعد لكونها متأكدة من إن العريس خيب عمته ولم يستطع تحقيق مرادها... وبدأ رحيل النسوة مصحوبا بالشك من قدرته وأخريات يعتبرن هذا الجماع الغرائبي صدمة نفسية عطلت الكثير من الحواس الجسدية فيه... ورسي الليل وتلته سبع سنين من الليالي ولم يجنِ العريس ثمار مؤامرة الغرفة...
* حيدر عاشور
* قصة قصيرة من مجموعة (زَهَايْمَرات)