(بقية الكلام في مذهب زرادشت وكتابه: الثنوية: مرقيون وابن ديصان)
يروي الراغب الأصفهاني أن (زرادشت شرع زواج الأمهات) كما يروي القلقشندي أن المجوس (يستبيحون فروج المحارم من البنات والأمهات، ويرون جواز الجمع بين الأختين) كما يروي الجاحظ في أخباره في الحمقى أن ابن عوانة الكلبي قال: (استعمل معاوية رجلاً من كلب فذكر يوماً المجوس وعنده الناس، فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم! والله لو أعطيت مائة ألف درهم ما نكحت أمي! فبلغ ذلك معاوية فقال: قاتله الله! أترونه لو زاده على مائة ألف فعل! فعزله) وقال اليعقوبي عند كلامه في الفرس: إنها (تنكح الأمهات والبنات، وتذهب إلى أنها صلة لهن وبربهن وتقرب إلى الله فيهن، وينسب عبد القاهر البغدادي إلى المجوس هذه الأنواع وغيرها من الزواج كزواج بنات البنات وبنات البنين وقد ظلت ضروب الزواج هذه شائعة بين المجوس وغيرهم من الطوائف الأخرى حتى بعد فتح المسلمين فارس وظل المسلمون يعيبونهم بها، وينكرونها عليهم، وليس من همنا هنا أن نبين رأينا في هذه الأنواع بل نرجئه إلى الكلام في أثرها عند الزنادقة، وحسبنا أن نبين أن العرب قد عرفوا في جاهليتهم بعض هذه الأنواع وكانوا يستبيحونها ولا ينكرونها حتى جاء الإسلام فأنكرها عليهم وعلى غيرهم وحدد من يحل للإنسان أن يتزوجهن ومن يحرم عليه الزواج منهن.
عرف العرب في الجاهلية زواج الأم كما حكي عنهم المؤرخ اليوناني استرابو، وعرفوا زواج امرأة الأب فقد تزوج الصحابي الجليل عمرو بن معد يكرب الزبيدي امرأة أبيه في الجاهلية، ولم يكن راضياً عنها كما تزوجت باهلة أم القبيلة المعروفة بهذا الاسم زوجها معناً أبا قبيلة باهلة ثم تزوجت بعده ابنه، بل عرف العرب من ضروب الزواج ما يسمى نكاح الضمد وهو - كما جاء في السيرة الحلبية - أن تجتمع جماعة دون العشرة ويتزوجو امرأة واحدة ولذلك كله أسبابه الاجتماعية مما لا يعنينا هنا الخوض فيه، ويكفي أن نبين أنه من التعنت واللغو النظر إلى أنواع الزواج التي كانت تجري عند المجوس بالعين التي ننظر إليها بها لو أنها وقعت الآن، فقد تحولت أسبابها الاجتماعية، وصرنا الآن ننكرها ونعدها فاحشة ومقتاً، ونرجح أن زرادشت لا يسأل وحده عن هذه الأنواع من الزواج، فهو كما نرجح لم يشرعها، وكل ما عمل أن أقرها فبقيت سارية بين المجوس، وكان لها أثرها عند الزنادقة قبل عهد المهدي العباسي وأثناءه وبعده، فقد زاولها بعض الزنادقة في عهده على ما سنبينه إن شاء الله.
وقال الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) ما نصه: (ومما أخبر به زرادشت في زندوستا، قال: سيظهر في آخر الزمان رجل اسمه أشيزريكا ومعناها الرجل العالم بالدين والعدل، ثم يظهر في زمانه بلياره فيوقع الآفة في أمره وملكه عشرين سنة، ثم يظهر بعد ذلك أشيزريكا على أهل العالم ويحيي العدل ويميت الجور، ويرد السنن المغيرة إلى أوضاعها الأولى، وينقاد له الملوك وتتيسر له الأمور، وينصر الدين الحق ويحصل في زمانه الأمن والدعة وسكون الفتن وزوال المحن).
ونحن لا نعدم ملامح أشيزريكا هذه في كل المنقذين كما تصورتهم الفرق الفارسية والإسلامية التي آمنت بهم وانتظرتهم، وهذه الملامح تتضح لنا في المهدي الذي آمن به الشيعة العلويون على اختلاف طوائفهم ولا يزال باقياً فيهم حتى الآن وهو ركن من أركان مذهبهم، كما تتضح ملامحه في المهدي الذي اخترعه العباسيون وآمنوا به، ونحن نرجح - وسنبين الأسباب - أن أبا جعفر المنصور إنما سمى ابنه محمداً - المهدي حين رأى الشيعة العلويين ينادون بالمهدي منهم، واخترع أولئك وهؤلاء الأحاديث في المهدي ليشدوا بها أزرهم، كما اخترع الأمويون منقذاً سموه السفياني يعيد إليهم مجدهم وكان ذلك في أول عهد الأمويين حين وقع الخلاف بين أفراد البيت الأموي فنهد لهم شياطين الشيعة فلم يكذبوا بالسفياني بل صدقوا به. غير أنهم نحلوا النبي عليه السلام من الأحاديث ما يدل على أن السفياني بعد ظهوره وذيوع أمره وسلطانه وجوره في الناس سيأتي له المهدي من آل البيت فيقتله ويملأ الأرض عدلاً وأمناً كما ملأها السفياني جوراً وخوفاً فأسندوا بذلك إلى السفياني مهمة بلياره الفارسي وإلى مهديهم مهمة أشيزريكا، وفي ذلك ما فيه من الإشارة إلى قيام الدولة العباسية بعد الأموية، وللزنادقة مهديوهم المنتظرون كلما ساءت الأحوال واحتاج الأمر إلى مخلص، فمنهم ماني ومزدك وأبو مسلم الخراساني والمقنع صاحب الزنادقة المبيضة وعبد القهار صاحب المحمرة في عهد المهدي العباسي، ومنهم بعده بابك الخرمي صاحب الفتنة التي وقفت الخلافة عاجزة عن إطفائها نحو عشرين سنة. . . وقد كان لفكرة المنقذ أثر كبير في الزنادقة، وإن كان هذا الأثر فيما نرجح يرجع أكثر ما يرجع إلى إيحائه في النفوس كلما تعقدت الأمور الاجتماعية واحتاج الحال إلى منقذ. فأثر هذا الإيحاء أكثر من أثر الاطلاع على ما كتب زرادشت وغيره.
قدمنا أن زرادشت خلف مذهباً وكتاباً.
فأما المذهب فقد تحدثنا بما يهمنا منه فيما سبق بقدر ما يسع المقام، وقد اتضح لنا من بيان ما بينا منه أن زرادشت كان فيلسوفاً ومصلحاً ومشرعاً ولم يكن نبياً ولا متنبئاً ولا صاحب دين كما نفهم من معنى الدين بالرغم من أن مذهبه يحتوي على بعض الشعائر والآراء التي تحسب من الدين، فليس المقصود بتلك الآراء في الكون إلا أن تكون أساساً للآراء الفلسفية والتشريعات الإصلاحية التي هي عماد المذهب وأهم ما فيه، كما أن تلك الشعائر القليلة لم يقصد بها التعبد المحض بل الرياضة النفسية ومثلها في ذلك مثل نظيرتها في الفلسفة البوذية والبرهمية في الهند والكنفشيوسية في الصين، بدليل تفضيل زرادشت العمل في الحياة على الصلاة والصوم والأدعية والقرابين، فعنده أن من يصلح الأرض ويبذر فيها الحب ويرويها أفضل ممن يقرب ألف قربان ومن يصلي عشرة آلاف صلاة وممن يدعو عشرة آلاف دعاء، بل إنه حرم الصوم لأنه يضعف الإنسان.
وأما الكتاب الذي جاء به زرادشت فهو أفستا ويظهر أن هذا الكتاب كان يحتوي على آراء غامضة رفيعة لا قبل للعقول العادية حينذاك بفهمها وقبولها بدليل عجز الكثير منهم عن ذلك مما جعلهم يحيطونه بكثير من الخرافات، وبدليل ما أدى إليه غموضه عند الكثير من اضطرار زرادشت إلى شرحه بكتاب يسمى (زندافستا - ثم إلى شرحه الشرح بكتاب سماه (بازند) ثم إلى شرح علمائهم هذا الشرح بكتاب سموه يازده، وبدليل ثالث هو منع كيستاسب تعليمه العامة، وقد قدمنا الكلام في هذا التحريم وسداد رأى كيستاسب فيه، ولم يكن لزرادشت في هذا الكتاب الأفضل تقييد ما ارتضى هو وحكماء الفرس من آراء بعد الاستطلاع والمشاورة كما قدمنا في بيان مذهبه، ومن أجل ذلك نحن في غنى عن الخلاف الذي أشار الشهرستاني والمسعودى والقلقشندي فيما إذا كان هذا الكتاب من تصنيف زرادشت أم هو وحي نزل عليه من السماء، وقد كان لهذا الكتاب أثره في نشأة الزندقة واشتقاق لفظها نرجئ بيانه إلى موضعه من هذا البحث حيث الكلام في المانوية لأنه بهم أمس ولبيان مذهبهم ألزم، ونشير هنا إلى أن كيستاسب الملك صان هذا الكتاب في هيكل باصطخر ووكل به الهرابذة بعد كتابته بالذهب على جلود البقر ومن أجل ذلك سمي ذلك المكان (دزنبشت) أي حصن الكتاب و (كوه نبشت) أي جبل الكتاب، وهناك بناء فخم على هيئة برج ما يزال إلى اليوم يعرف بكعبة زرادشت في أطلال مدينة اصطخر عاصمة الفرس أيام الدولة الساسانية وهي بالقرب من مدينة برسبوليس عاصمتهم أيام الدولة الكيانية.
سادت الزرادشتية البلاد الفارسية ودان بها الملوك والعامة منذ ظهر زرادشت، فقد بذل كيستاسب جهداً جباراً لحمل الناس عليها وتعرض من أجلها لثورة من أحد عماله وفقد فيها ابنه وكادت تدك ملكه لولا أن أسعفه الحظ بموت غريمه، وقد بذل الملوك بعده جهدهم حتى استأثرت الزرادشتية بفارس وبقيت متسلطة عليها حتى كانت موقعة أربل بين الإسكندر الأكبر ودارا الثالث سنة 331 ق. م وانهزم دارا فضاع استقلال فارس وانهارت الوحدة الفارسية، وعم الاضطراب البلاد طوال حكم ملوك الطوائف الذين حكموا البلاد متفرقين أكثر من خمسة قرون ونصف قرن بدأت عقب هزيمة دارا آخر ملوك الكيانية سنة 331 ٌق. م وانتهت بقيام أردشير بن بابك بن ساسان أول ملوك الساسانية سنة 226 موران عليها طول تلك المدة الانحلال العقلي والخلقي والسياسي، وكان لذلك كله أثره في ضعف الزرادشتية، ويقال إن الإسكندر أحرق كثيراً من كتب الفرس العلمية وفيها جزء كبير من كتاب زرادشت وأحرق وهدم كثيراً من الآثار الفارسية المكتوبة على الخشب والمباني ونقل كثيراً منها إلى مصر وبلاد اليونان وكان قد أمر بترجمة بعض ما وجد من كتب فلما ترجمه أحرق أصوله، فلما قام أردشير ابن بابك سنة 226 مووحد البلاد الفارسية وحاول ما استطاع أن يجمع ما تفرق من هذه الذخائر وبعث في طلبها الرسل إلى الهند والصين ومصر وبلاد الروم، وجعلها أساس النهضة العلمية في فارس، كما جمع ما استطاع من كتب الزرادشتية واعتنقها وعمل بها فأرجع لها بعض سلطانها الذي فقدته أثناء ملوك الطوائف.
كان ضياع جزء من كتاب زرادشت إبان الفتح المقدوني مما أوهن الزرادشتية أيام ملوك الطوائف وهيأ لقوم الإتيان بآراء ومذاهب جديدة لم يأت بها زرادشت وحكماؤه، كما هيأ الفرصة لإحياء كثير من الخرافات والعقائد القديمة التي هي أدنى إلى عقول العامة من الصفوة التي اختارتها الزرادشتية، لكن ذلك لم يمحها ويستأصلها، فقد بقيت حية في فارس أثناء حكم ملوك الطوائف على ضعف واستحياء، فلما جاء بنو ساسان أنهضوها وشدوا سلطانها وجعلوها دينهم الرسمي، وظلت قائمة حتى بعد فتح المسلمين فارس، وكانت قد تسللت في الجاهلية إلى البلاد العربية ودانت بها بعض قبائلها النازلة على حدود فارس، وآمن بها بعض الصحابة قبل إسلامهم، وكان يدين بها كثير من الفرس في العصر الإسلامي عن رضا من المسلمين عندما سنوا بهم سنة أهل الكتاب كما بينا في مقال سابق فتركوهم عليها واكتفوا منهم بالجزية، وكان مما أيدها أن فرض المسلمون الجزية على من أسلم ومن بقي على عقيدته على السواء في أكثر سني الحكم الأموي والعباسي، وقد اصطنع المسلمون كثيراً من أهلها في الأعمال التي يجهلها الحكام المسلمون كأعمال الدواوين، بل كان لأهلها ضلع في انتصار العباسيين على الأمويين، ودارت بينهم وبين المسلمين مجادلات في العهدين معاً، وتبادلوا في ذلك كتب الجدل، وكانت لهم أياد على كثير من العلوم المحدثة في الإسلام إلى وقت متأخر، ويقول الأستاذ لينجوبرث (إن القصص التي يستطاع إرجاعها إلى أفستا بقيت معروفة في زرنكة حتى زمن الفردوسي سنة 1000 م) وكان لهذه القصص فضل على الفردوسي إذ كانت بعض مادته تأليف الشاهنامه، وقد انتشرت الزرادشتية حتى فيما وراء بلاد فارس كالصغد وبلاد الترك قديماً فيما وراء النهر في العصر الإسلامي فقد امتدت إلى هذه البلاد في القرن التاسع الميلادي، وكانت في الهند في القرن الرابع عشر الميلادي وأهلها يسمون هناك الإكنواطرية، بل لقد نشرها هؤلاء الهنود وإخوانهم من الفرس فيما حول باكو في القرن الثامن عشر، وهم لا يزالون إلى الآن بالهند ويسمون الفرسيين، وكان أولهم قد هاجروا إليها من فارس عندما فتحها المسلمون ولم يضعف شأن الزرادشتية - إلى ما قدمنا - إلا مرقيون وابن ديصان وماني.
محمد خليفة التونسي
مجلة الرسالة - العدد 675
بتاريخ: 10 - 06 - 1946
يروي الراغب الأصفهاني أن (زرادشت شرع زواج الأمهات) كما يروي القلقشندي أن المجوس (يستبيحون فروج المحارم من البنات والأمهات، ويرون جواز الجمع بين الأختين) كما يروي الجاحظ في أخباره في الحمقى أن ابن عوانة الكلبي قال: (استعمل معاوية رجلاً من كلب فذكر يوماً المجوس وعنده الناس، فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم! والله لو أعطيت مائة ألف درهم ما نكحت أمي! فبلغ ذلك معاوية فقال: قاتله الله! أترونه لو زاده على مائة ألف فعل! فعزله) وقال اليعقوبي عند كلامه في الفرس: إنها (تنكح الأمهات والبنات، وتذهب إلى أنها صلة لهن وبربهن وتقرب إلى الله فيهن، وينسب عبد القاهر البغدادي إلى المجوس هذه الأنواع وغيرها من الزواج كزواج بنات البنات وبنات البنين وقد ظلت ضروب الزواج هذه شائعة بين المجوس وغيرهم من الطوائف الأخرى حتى بعد فتح المسلمين فارس وظل المسلمون يعيبونهم بها، وينكرونها عليهم، وليس من همنا هنا أن نبين رأينا في هذه الأنواع بل نرجئه إلى الكلام في أثرها عند الزنادقة، وحسبنا أن نبين أن العرب قد عرفوا في جاهليتهم بعض هذه الأنواع وكانوا يستبيحونها ولا ينكرونها حتى جاء الإسلام فأنكرها عليهم وعلى غيرهم وحدد من يحل للإنسان أن يتزوجهن ومن يحرم عليه الزواج منهن.
عرف العرب في الجاهلية زواج الأم كما حكي عنهم المؤرخ اليوناني استرابو، وعرفوا زواج امرأة الأب فقد تزوج الصحابي الجليل عمرو بن معد يكرب الزبيدي امرأة أبيه في الجاهلية، ولم يكن راضياً عنها كما تزوجت باهلة أم القبيلة المعروفة بهذا الاسم زوجها معناً أبا قبيلة باهلة ثم تزوجت بعده ابنه، بل عرف العرب من ضروب الزواج ما يسمى نكاح الضمد وهو - كما جاء في السيرة الحلبية - أن تجتمع جماعة دون العشرة ويتزوجو امرأة واحدة ولذلك كله أسبابه الاجتماعية مما لا يعنينا هنا الخوض فيه، ويكفي أن نبين أنه من التعنت واللغو النظر إلى أنواع الزواج التي كانت تجري عند المجوس بالعين التي ننظر إليها بها لو أنها وقعت الآن، فقد تحولت أسبابها الاجتماعية، وصرنا الآن ننكرها ونعدها فاحشة ومقتاً، ونرجح أن زرادشت لا يسأل وحده عن هذه الأنواع من الزواج، فهو كما نرجح لم يشرعها، وكل ما عمل أن أقرها فبقيت سارية بين المجوس، وكان لها أثرها عند الزنادقة قبل عهد المهدي العباسي وأثناءه وبعده، فقد زاولها بعض الزنادقة في عهده على ما سنبينه إن شاء الله.
وقال الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) ما نصه: (ومما أخبر به زرادشت في زندوستا، قال: سيظهر في آخر الزمان رجل اسمه أشيزريكا ومعناها الرجل العالم بالدين والعدل، ثم يظهر في زمانه بلياره فيوقع الآفة في أمره وملكه عشرين سنة، ثم يظهر بعد ذلك أشيزريكا على أهل العالم ويحيي العدل ويميت الجور، ويرد السنن المغيرة إلى أوضاعها الأولى، وينقاد له الملوك وتتيسر له الأمور، وينصر الدين الحق ويحصل في زمانه الأمن والدعة وسكون الفتن وزوال المحن).
ونحن لا نعدم ملامح أشيزريكا هذه في كل المنقذين كما تصورتهم الفرق الفارسية والإسلامية التي آمنت بهم وانتظرتهم، وهذه الملامح تتضح لنا في المهدي الذي آمن به الشيعة العلويون على اختلاف طوائفهم ولا يزال باقياً فيهم حتى الآن وهو ركن من أركان مذهبهم، كما تتضح ملامحه في المهدي الذي اخترعه العباسيون وآمنوا به، ونحن نرجح - وسنبين الأسباب - أن أبا جعفر المنصور إنما سمى ابنه محمداً - المهدي حين رأى الشيعة العلويين ينادون بالمهدي منهم، واخترع أولئك وهؤلاء الأحاديث في المهدي ليشدوا بها أزرهم، كما اخترع الأمويون منقذاً سموه السفياني يعيد إليهم مجدهم وكان ذلك في أول عهد الأمويين حين وقع الخلاف بين أفراد البيت الأموي فنهد لهم شياطين الشيعة فلم يكذبوا بالسفياني بل صدقوا به. غير أنهم نحلوا النبي عليه السلام من الأحاديث ما يدل على أن السفياني بعد ظهوره وذيوع أمره وسلطانه وجوره في الناس سيأتي له المهدي من آل البيت فيقتله ويملأ الأرض عدلاً وأمناً كما ملأها السفياني جوراً وخوفاً فأسندوا بذلك إلى السفياني مهمة بلياره الفارسي وإلى مهديهم مهمة أشيزريكا، وفي ذلك ما فيه من الإشارة إلى قيام الدولة العباسية بعد الأموية، وللزنادقة مهديوهم المنتظرون كلما ساءت الأحوال واحتاج الأمر إلى مخلص، فمنهم ماني ومزدك وأبو مسلم الخراساني والمقنع صاحب الزنادقة المبيضة وعبد القهار صاحب المحمرة في عهد المهدي العباسي، ومنهم بعده بابك الخرمي صاحب الفتنة التي وقفت الخلافة عاجزة عن إطفائها نحو عشرين سنة. . . وقد كان لفكرة المنقذ أثر كبير في الزنادقة، وإن كان هذا الأثر فيما نرجح يرجع أكثر ما يرجع إلى إيحائه في النفوس كلما تعقدت الأمور الاجتماعية واحتاج الحال إلى منقذ. فأثر هذا الإيحاء أكثر من أثر الاطلاع على ما كتب زرادشت وغيره.
قدمنا أن زرادشت خلف مذهباً وكتاباً.
فأما المذهب فقد تحدثنا بما يهمنا منه فيما سبق بقدر ما يسع المقام، وقد اتضح لنا من بيان ما بينا منه أن زرادشت كان فيلسوفاً ومصلحاً ومشرعاً ولم يكن نبياً ولا متنبئاً ولا صاحب دين كما نفهم من معنى الدين بالرغم من أن مذهبه يحتوي على بعض الشعائر والآراء التي تحسب من الدين، فليس المقصود بتلك الآراء في الكون إلا أن تكون أساساً للآراء الفلسفية والتشريعات الإصلاحية التي هي عماد المذهب وأهم ما فيه، كما أن تلك الشعائر القليلة لم يقصد بها التعبد المحض بل الرياضة النفسية ومثلها في ذلك مثل نظيرتها في الفلسفة البوذية والبرهمية في الهند والكنفشيوسية في الصين، بدليل تفضيل زرادشت العمل في الحياة على الصلاة والصوم والأدعية والقرابين، فعنده أن من يصلح الأرض ويبذر فيها الحب ويرويها أفضل ممن يقرب ألف قربان ومن يصلي عشرة آلاف صلاة وممن يدعو عشرة آلاف دعاء، بل إنه حرم الصوم لأنه يضعف الإنسان.
وأما الكتاب الذي جاء به زرادشت فهو أفستا ويظهر أن هذا الكتاب كان يحتوي على آراء غامضة رفيعة لا قبل للعقول العادية حينذاك بفهمها وقبولها بدليل عجز الكثير منهم عن ذلك مما جعلهم يحيطونه بكثير من الخرافات، وبدليل ما أدى إليه غموضه عند الكثير من اضطرار زرادشت إلى شرحه بكتاب يسمى (زندافستا - ثم إلى شرحه الشرح بكتاب سماه (بازند) ثم إلى شرح علمائهم هذا الشرح بكتاب سموه يازده، وبدليل ثالث هو منع كيستاسب تعليمه العامة، وقد قدمنا الكلام في هذا التحريم وسداد رأى كيستاسب فيه، ولم يكن لزرادشت في هذا الكتاب الأفضل تقييد ما ارتضى هو وحكماء الفرس من آراء بعد الاستطلاع والمشاورة كما قدمنا في بيان مذهبه، ومن أجل ذلك نحن في غنى عن الخلاف الذي أشار الشهرستاني والمسعودى والقلقشندي فيما إذا كان هذا الكتاب من تصنيف زرادشت أم هو وحي نزل عليه من السماء، وقد كان لهذا الكتاب أثره في نشأة الزندقة واشتقاق لفظها نرجئ بيانه إلى موضعه من هذا البحث حيث الكلام في المانوية لأنه بهم أمس ولبيان مذهبهم ألزم، ونشير هنا إلى أن كيستاسب الملك صان هذا الكتاب في هيكل باصطخر ووكل به الهرابذة بعد كتابته بالذهب على جلود البقر ومن أجل ذلك سمي ذلك المكان (دزنبشت) أي حصن الكتاب و (كوه نبشت) أي جبل الكتاب، وهناك بناء فخم على هيئة برج ما يزال إلى اليوم يعرف بكعبة زرادشت في أطلال مدينة اصطخر عاصمة الفرس أيام الدولة الساسانية وهي بالقرب من مدينة برسبوليس عاصمتهم أيام الدولة الكيانية.
سادت الزرادشتية البلاد الفارسية ودان بها الملوك والعامة منذ ظهر زرادشت، فقد بذل كيستاسب جهداً جباراً لحمل الناس عليها وتعرض من أجلها لثورة من أحد عماله وفقد فيها ابنه وكادت تدك ملكه لولا أن أسعفه الحظ بموت غريمه، وقد بذل الملوك بعده جهدهم حتى استأثرت الزرادشتية بفارس وبقيت متسلطة عليها حتى كانت موقعة أربل بين الإسكندر الأكبر ودارا الثالث سنة 331 ق. م وانهزم دارا فضاع استقلال فارس وانهارت الوحدة الفارسية، وعم الاضطراب البلاد طوال حكم ملوك الطوائف الذين حكموا البلاد متفرقين أكثر من خمسة قرون ونصف قرن بدأت عقب هزيمة دارا آخر ملوك الكيانية سنة 331 ٌق. م وانتهت بقيام أردشير بن بابك بن ساسان أول ملوك الساسانية سنة 226 موران عليها طول تلك المدة الانحلال العقلي والخلقي والسياسي، وكان لذلك كله أثره في ضعف الزرادشتية، ويقال إن الإسكندر أحرق كثيراً من كتب الفرس العلمية وفيها جزء كبير من كتاب زرادشت وأحرق وهدم كثيراً من الآثار الفارسية المكتوبة على الخشب والمباني ونقل كثيراً منها إلى مصر وبلاد اليونان وكان قد أمر بترجمة بعض ما وجد من كتب فلما ترجمه أحرق أصوله، فلما قام أردشير ابن بابك سنة 226 مووحد البلاد الفارسية وحاول ما استطاع أن يجمع ما تفرق من هذه الذخائر وبعث في طلبها الرسل إلى الهند والصين ومصر وبلاد الروم، وجعلها أساس النهضة العلمية في فارس، كما جمع ما استطاع من كتب الزرادشتية واعتنقها وعمل بها فأرجع لها بعض سلطانها الذي فقدته أثناء ملوك الطوائف.
كان ضياع جزء من كتاب زرادشت إبان الفتح المقدوني مما أوهن الزرادشتية أيام ملوك الطوائف وهيأ لقوم الإتيان بآراء ومذاهب جديدة لم يأت بها زرادشت وحكماؤه، كما هيأ الفرصة لإحياء كثير من الخرافات والعقائد القديمة التي هي أدنى إلى عقول العامة من الصفوة التي اختارتها الزرادشتية، لكن ذلك لم يمحها ويستأصلها، فقد بقيت حية في فارس أثناء حكم ملوك الطوائف على ضعف واستحياء، فلما جاء بنو ساسان أنهضوها وشدوا سلطانها وجعلوها دينهم الرسمي، وظلت قائمة حتى بعد فتح المسلمين فارس، وكانت قد تسللت في الجاهلية إلى البلاد العربية ودانت بها بعض قبائلها النازلة على حدود فارس، وآمن بها بعض الصحابة قبل إسلامهم، وكان يدين بها كثير من الفرس في العصر الإسلامي عن رضا من المسلمين عندما سنوا بهم سنة أهل الكتاب كما بينا في مقال سابق فتركوهم عليها واكتفوا منهم بالجزية، وكان مما أيدها أن فرض المسلمون الجزية على من أسلم ومن بقي على عقيدته على السواء في أكثر سني الحكم الأموي والعباسي، وقد اصطنع المسلمون كثيراً من أهلها في الأعمال التي يجهلها الحكام المسلمون كأعمال الدواوين، بل كان لأهلها ضلع في انتصار العباسيين على الأمويين، ودارت بينهم وبين المسلمين مجادلات في العهدين معاً، وتبادلوا في ذلك كتب الجدل، وكانت لهم أياد على كثير من العلوم المحدثة في الإسلام إلى وقت متأخر، ويقول الأستاذ لينجوبرث (إن القصص التي يستطاع إرجاعها إلى أفستا بقيت معروفة في زرنكة حتى زمن الفردوسي سنة 1000 م) وكان لهذه القصص فضل على الفردوسي إذ كانت بعض مادته تأليف الشاهنامه، وقد انتشرت الزرادشتية حتى فيما وراء بلاد فارس كالصغد وبلاد الترك قديماً فيما وراء النهر في العصر الإسلامي فقد امتدت إلى هذه البلاد في القرن التاسع الميلادي، وكانت في الهند في القرن الرابع عشر الميلادي وأهلها يسمون هناك الإكنواطرية، بل لقد نشرها هؤلاء الهنود وإخوانهم من الفرس فيما حول باكو في القرن الثامن عشر، وهم لا يزالون إلى الآن بالهند ويسمون الفرسيين، وكان أولهم قد هاجروا إليها من فارس عندما فتحها المسلمون ولم يضعف شأن الزرادشتية - إلى ما قدمنا - إلا مرقيون وابن ديصان وماني.
محمد خليفة التونسي
مجلة الرسالة - العدد 675
بتاريخ: 10 - 06 - 1946