عادت الكاتبة الكبيرة مي زيادة إلى واجهة السجال مع صدور أعمال روائية تتناول سيرتها وشخصيتها ومنها رواية الكاتب الجزائري واسيني الأعرج «ليالي إيزيس كوبيا: ثلاث مئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية» (دار الآداب 2018). هنا عودة إلى صاحبة «ظلمات وأشعة» ولكن من وجهة الكاتب المصري عباس محمود العقاد الذي سعى في كتب عدة إلى حل ألغازها. هنا مقالة شاملة حذفت منها الهوامش.
< «سيبوني أموت. أرجوكم دعوني أرتاح». تلك كانت آخر عبارة كتبتها الآنسة ميّ، إنّما بصوتها لا بقلمها هذه المرّة.
جرى ذلك فيما كانت تغادر الدنيا ظهر اليوم الخامس (نهار الأحد 19 تشرين الأول - أكتوبر 1941) على الإتيان بها غائبة عن الوعي إلى مستشفى المعادي في القاهرة، بعد خَلْع باب بيتها الموصد من الداخل. لقد تأبّتْ، طيلة الأيّام الأربعة المنصرمة، تناول الطعام، وقاومت التجاوب مع الأطباء بعناد الفولاذ... إلى أن لَبَّى الموت استدعاءها بعد أن كانت أَعَدَّتْ لقدومه- على ما أرى- في بيتها الوحيدة فيه، متمدّدة على السرير: النوافذ مُغلقة. السّتائر مُسدلة. الإبريق بمحاذاة السرير وقد نضب ماؤه. وبالقرب منه سَكَتَتْ ثلاثة كتب: «غرازيللّا» للشاعر لامارتين بالفرنسيّة، ورواية «صورة دوريان غْراي» بالإنكليزية للكاتب أوسْكار وايْلد الذي عوقب بالسجن على مثليته، وكتابُها الذي وضعته هي في صديقتها ملك حفني ناصف بعنوان «باحثة البادية» بالعربية ثمّ مجلد من مجلّة «المقتطف» التي كان يصدرها شهرياً يعقوب صروف.
إنّه لأمر طبيعي أن يخطر في البال التساؤل عن البواعث التي حَدَتْ بميّ إلى أن تنتقي هذه المؤلّفات من دون سواها، العائدة إلى أولئك الكتاب الأعلام من دون سواهم، لتعبر بتصفحها الوقت اللازم لنفاذ قرارها بالرحيل عن الحياة الدنيا- على ما أحسب- فهل أنّ المكان لم يتسع لأيٍّ من كتب جبران خليل جبران لاسيّما منها تلك الأنضج التي وضعها واشتهر بها بالإنكليزية، ككتاب «النبي» مثالاً وليس حصراً؟
وعن "جريدة الحياة اللندنية" نصٌ واحدٌ من نصوص جبران، مقال واحد من مقالاتها المنشورة في جبران، كلاهما لم يحظَ بالمثول في سويعات الوداع تلك. ولا حتى رسالة واحدة من رسائله إليها!. ربّما وجدنا في رسالتها إلى أمين الريحاني «في منتصف آب - أغسطس1941» بوادر جنوح إلى يأسٍ مرير عبّرت عنه متسائلة: «أرأيت في حياتك إنساناً غيري في مثل هذه الغباوة؟ ومع ذلك لستُ أطيقُ أن يؤلمني أو يزعجني أحد، ولست أُنيل الناس ثقتي، شأني من قبل. وهذا دليل على أنّ في داخل نفسي شيئاً من الشَّيب أيضاً». لم يكن شَعْرُها وحده ما قد ابيضَّ في «ليالي العصفوريّة» ونهاراتها. لكأنّ بياض الشيب، قبل أوانه غزاها في ليلة ليلاء لينال من توقّد عينيها، ومن عافية حيويتها الفكريّة النفسانيّة الجسديّة، إنّما بحياكةٍ مدروسة دُبّرتْ للإيقاع بها. وكان هذا بتسديد النار على أعز ما امتلكته وحَقَّ لها أن تعتزَّ به: عقلُها النيّر، فكرها الحرّ، قماشتها الثقافية الباهرة، الموسوعية الطابع، وقلمها الذي خلّف غزارة تأليف فائق التنوّع، تميّز دائماً بسلاسة على الأخص: جوع للحب وعطش للحرية، وكآبة ربداء لا تفارق.
مُشيّعو ميّ إلى مثواها الأخير، في مدافن الطائفة المارونية في القاهرة، كانوا قِلّة: صديقتُها هدى شعراوي رئيسة الاتحاد النسائي المصري، وأستاذ الجيل أحمد لطفي السيّد، وشاعر القطرين خليل مطران، والصحافي أنطون الجميّل الذي كان قد حلّ رئيساً للتحرير في جريدة «الأهرام» عُقب وفاة رئيس تحريرها العريق المرموق السابق، وصديق ميّ الصدوق، داود بركات. وعند خروجهم من بوّابة المدافن بُعيد انتهاء مراسم الدفن، تفاجأوا بقدوم عبّاس محمود العقّاد المتأخّر، مهرولاً. لم يملك إلّا أن يقف ويبادرهم بنبرة مرّة واثقة، صادقة الأسى والحيرة: «عاشت لُغزاً وماتت لُغزاً». ثمّ تابع سيره إلى حيث الضريح، لا يلوي على شيء، ولا ينتظر من وجومهم ردّاً.
هند أم مي؟
من المعروف عن هذا الكاتب المفكّر، الأديب، الشاعر، المناضل السياسي، أنّه لا يلقي كلاماً جُزافاً. وهذا ما يستوثقه، أيضاً، قارئ رواية «سارة» التي وضعها العقّاد متوقّفاً فيها عند علاقته الغرامية المشبوبة مع اثنتين متعاكستين في آن: واحدة سماها سارة، والأخرى هند، قائلاً فيهما: «... كانت سارة وهند على مِثالين من الأنوثة متناقضين [...]: فإذا كانت سارة قد خُلقتْ وثنية في ساحة الطبيعة فَهندْ قد خُلقتْ راهبة في دير، من غير حاجة إلى الدير! تلك مشغولة بأنْ تحطِّم من القيود أكثرَ ما استطاعت، وهذه مشغولة بأن تصوغ حولها أكثر ما استطاعتْ من قيود ثمّ توشّيها بطلاء الذهب وترصّعها بفرائد الجوهر(ص 136). كلتاهما جميلة، ولكنّ الجمال فيهن كالحصن الذي يحيط به الخندق. أمّا الجمال في سارة فكالبستان يحيط بيه جدول من الماء النمير هو جزء من البستان، وهو للعبور أكثر مما يكون للصدّ والنفور. تلك تعطيك خير ما أعطت على البعد والحيطة، وهذه تعطيك على القرب والسَّرف (ص137)... كلتاهما ذات ثقافة وألمعية، لكن ثقافة هند إلى المعرفة، وثقافة سارة إلى الفطرة [...] إحداهما قائمة في محراب، والأخرى باثقة كالزهرة من زبد العُباب» (ص 138).
لعلّ العقّاد في ما قاله في هند- وهي، هنا، ميّ بلا منازع- أن يكون الوحيد، بين زملائه روّاد «ندوة الثلثاء» المسائيّة، الذي أفصح عن اعتباره ميّ لُغزاً في حياتها، وفي الممات. هل كان لهذا اللغز أن ينعقد وأن يتجلّى أصلاً، في غير القاهرة عهد ذاك؟
أحسَبُ أنه من دون القاهرة تستحيل مقاربة تتوخّى الإلمام أقلّه ببعض من حقائق (ألغاز، قيود، مُغلقات، سرائر!) تلك التي سماها والداها ماري عند ولادتها في بلدة الناصرة بفلسطين في 11 شباط (فبراير)1886؛ ثمّ لتهاجر معهما في الحادية والعشرين من العمر في النصف الثاني من العام 1907 إلى القاهرة؛ ولتخلع هناك، بقرار ذاتيّ اسم ماري الذي أُسقِطَ عليها وترتدي في العام 1911 اسم ميّ؛ ثمّ لتنضم في الخامسة والخمسين إلى رفاة والديها، بعد أن كانت تألّقت باكورة حداثة تلقائيّة القدرة على البرهنة أنّ الثقافة الخصيبة فِعْلُ تلاقح ثقافات وإن سُمِّيَ تحاورها.
مصر، في ذلك الحين، كانت قد تحرّرت من رِبق الخضوع للسلطنة العثمانية. وقد اقتصرت العلاقات معها على مجرّد الاعتراف بالآستانة عاصمةً للخلافة الإسلاميّة ليس أكثر. غير أنّ صيتها كان قد ذاع وشاع بكونها «مصر، أمّ الدنيا» دارجاً على شفة ولسان. فبرزت قبلة الطامحين من لبنانيين وسوريين، كانوا يُعْرَّفون جميعهم بالشّوام، إلى نيل الحريّة، وتحصيل الثروات وفرص العمل المجزية، فكلتاهما معدومتان في لبنان وسورية، البلدين الرازحيْن بكليّة تحت نير الاحتلال العثماني باستبداده المتحكّم بالأرزاق وبرقاب العباد.
مصر كانت قد شهدت، فعلاً، تطوّراً متصاعداً بادر إلى إرساء أُسسه الوالي الأوّل محمد علي باشا، وتابَعه عبّاس الأوّل وسعيد ثمّ في ما بعد، الخديوي إسماعيل بالأخصّ. وهذا ما توقّفتْ عنده ميّ في مطلع دراستها الرائدة التي وضعتها في «عائشة تيمور- شاعرة الطليعة». لم يفتها الانتباه إلى أنّ «الاندفاع الأكبر جاء في عهد الخديوي إسماعيل فعاد إلى معالجة مشروعات محمد علي مرسلاً البعثات إلى أوروبا، موجداً المكتبة الأهلية ومتحف الآثار المصرية، حافراً الترع ومجمّلاً المدن.
عندما حطّت عائلة إلياس زيادة رحالها في القاهرة، انكبَّت ماري على قراءة مصر بأُمّ العين. وهذا، بخاصة، بعدما انتقلت إلى والدها ملكيّة جريدة «المحروسة» وإصدارها يوميّاً في القاهرة. وقد لفت «انتباهها القاضي والمفكّر قاسم أمين»، منذ أوّل كتاب كان ألّفه ونشره باللغة الفرنسية سنة 1894 بعنوان: Les Egyptiens (المصريون) يردّ فيه على «الدوق الفرنسي داركور»، مشيراً إلى «أنّ الجميع في مصر يتوقون إلى العلم ويتعلّمون، معتبرين أنّ هذا هو السبيل الوحيد للنهوض. منذ ثورة عُرابي انتبه الشعب المصري لمكانته وكرامته. استنار ذهنه وجعل يهتم بنظام الحكم وبالشؤون العامّة. يقدّرها ويحكم لها أو عليها. وبالجملة، فإنّ مصر تيقّظت بالفعل».
الجماعة السورية
ميّ التي صاغت دراستها هذه في عائشة تيمور، في العقد الثاني من القرن العشرين، تبيّنت ما رأت إليه من «ازدياد حركة التطوّر، وقد أُضيفَت إليها عناصر فتية متنوعة [...]. فإلى جانب التحسين الزراعي والحربي والميكانيكي والمدرسي، ظهرت حركة أُخرى روّادها الغموض في البدء إنما جعلت تتسع وتنجلي مع الأيام. نشأت عن تواصل الاحتكاك بمدينة الغرب سواء بواسطة النزلاء المقيمين في هذه الديار، وبعوث الشباب العائدين من أوروبا، وقد تطعّمت نفوسهم بجديد النزعات وحديث الآراء، وجماعات خريجي المدارس المصرية وقد سرتْ إليهم عدوى الفكر العصري خلال ما تلقّنوا من الدروس الأوروباويّة».
في صدد هذا المناخ النوعي، لم يفت ميّ التوقّف عند عامل أساسي ثالث قلّما حفلت به الدراسات الوازنة بإيفائه حقّ قدره. إنّه ما سمته ميّ «قدوم جماعة من نوابغ السوريين وأحرارهم النازحين إثر النكبات، فكان صدم أفكارهم بأفكار المصريين جزيل النفع للفريقين وللفكر العربيّ عموماً».
في هذا السياق يتموضع، على ما أرى، انتقال إلياس زيادة مع عائلته من ناصرة الجليل في فلسطين إلى القاهرة. ولكن، ما الذي حمله حقّاً على القيام بذلك، وهو المعلّم المرموق في حقل اللغة العربيّة في مدرسة «راهبات الأرض المقدّسة» طيلة عشرين سنة متواصلة في الناصرة، ثمّ مديراً للمدرسة حتى نهاية العام 1906؟
إنّه لمن قبيل التعسّف، والحال هذه، اعتبار نزوح إلياس زيادة مع عائلته إلى مصر مجرّد ردّ فعل، ليس إلّا، على اكتشاف الصبيّة ماري أنَّ رسائل خطيبها نعوم إسكندر زيادة إليها (وهي بعد في المدرسة الداخليّة «لراهبات الزيارة» الملاصقة لمدرسة الصبيان في عينطورة. ثمّ في مدرسة راهبات العازارية في بيروت لسنة واحدة) لم تكن من بنات أفكاره ولا بقلمه. إنها رسائل صاغها، في حقيقة الأمر، بقسم متميّز فيها قلم يوسف الحويك قبيل أن يتكرّس فنّاناً تشكيليّاً لافتاً. أمّا القسم الآخر فبقلم جوزف زيادة، شقيق نعوم وزميل الحويك في مدرسة الحكمة ببيروت. وعلى هذا، فالخطوبة التي تمّت في حزيران(يونيو) 1905، فُسِخَتْ في أواخر صيف العام ذاته، إنّما بقرار شخصي أبلغته ماري برقيّاً إلى العم إسكندر والد العريس، من دون العودة إلى والديها في هذا الصدد. نص هذه البرقية أربع كلمات فرنسية ليس أكثر: Style Joseph fiançailles rompues «أُسلوب جوزف. خطوبة مفسوخة». ثمّ التحقت ماري معلّمة في مدرسة والدها، تُدرّس اللغة الفرنسية التي تجيدها أيّما إجادة.
لعلّ من اللّافت في ذلك التغازل البريدي، الفرنسي اللغة والقصير العمر، أن تكون الكتابة التي طرّزت بها ماري رسائلها إلى نعّوم ووقتّعها بأسماء مركّبة متعدّدة من اختراعها: كنار شهاب على سبيل المثال، والعديد غيره مستبعدة على الدوام اسمها ماري زيادة. أسلوبها في تلك الرسائل رفيع المستوى، أنيق المداعبة بل المغازلة: تتفنّن بصوغ مشاعرها تجاهه. تناجيه بتعابير محكمة البناء، وتشي بالأحاسيس المتجرئة. لكأنّها، بفيض كلامها وطول رسائلها، تمتحن قدرته على التحاور معها، وقياس مجاراته تفوّقها. بيْد أنّها لم تحظَ بغير الخيبة.
لَعوباً، استدعته إلى مبارزة ما كان ليفلح بها، لاسيّما أنّه كان قد توقّف، وقتها، عن متابعة الدراسة الفاشل فيها أصلاً؛ وتحوّل إلى بائع جوخ إنكليزي للألبسة الرجاليّة. فلم يبق لهذه الماري إلّا أن تخلع عليه لقب «التاجر الإنكليزي»، متأكّدة من أنّه عاجز عن الانتباه إلى أنّها قد أصدرت حكمها القاطع بكونه برودة فاقعة في ما هي في خضم المضمار الذي راح يكوّنها ناراً متّقدة في طلعتها وتساؤلاتها الميتافيزيائية الباكرة. فلا يبقى من خيار سوى الإعلان عن رسوب نعّوم في الامتحان.
هل يصحّ اعتبار انتكاسة هذه الخطوبة الدافع الأساس الذي حمل الياس زيادة على الانتقال بل الهجرة إلى مصر؟ [أبرز الباحثين والباحثات، س. ح. ألكزبري، في سفرها المرجعي الجامع عن ميّ زيادة تردّ هذه المسألة إلى «يقين الوالد بأنّ في القاهرة مجالات واسعة تطوّر نبوغ ابنته، وتحقيق طموحها وطموحه بعد أن ضاقت الناصرة بهما [...] فشدّ الرحال إلى القاهرة لمزاولة الصحافة فيها [...] أمّا السيدة نزهة الوالدة فكانت أشدّ حماسة منه للرحيل عن الناصرة إنقاذاً لابنتها الوحيدة ماري وأملاً بأن تجد في مصر مستقبلاً رغداً بعد الصدمة التي منيت بها [...] خشيتْ أمها أن تسيء ماري الظنّ بالحياة وبالشباب، وتنفر حتى من التفكير بالزواج بعد أن جرح كبرياءها خداع نعّوم [...] فقد لحظتْ أمّها وسائر أقربائها أنها كانت متألّمة، لا شيء يعزّيها عن تصرّف نعّوم النابي، ولا سيّما عن اغترارها به...».
ماري لم تكن مغترّة، يوماً، بالتاجر الإنكليزي، لا برسائله إليها، ولا في أوقات نزولها في بيت والده العم إسكندر في غزير، وهو الصديق الحميم لوالدها. أمّا والدها فما عُرف عنه يوماً سعي إلى، أو رغبة في، العمل الصحافي طيلة إقامته في فلسطين أكثر من عشرين عاماً. فما الذي حمله، إذن، إلى مصر ليتولى إصدار جريدة «المحروسة» في القاهرة بصفته صاحبها ومديرها المسؤول، وصاحب المطبعة التي تطبع فيها الجريدة كذلك؟ هل كان يملك أصلاً القدرات المالية اللّازمة لإصدار جريدة يوميّة، ناهيك عن امتلاك مطبعة؟
ربّما كان والد ماري صائباً في خياره بالانتقال وعائلته إلى مصر حيث تتوافر لابنته العناصر والأجواء المواتية لتفتّح ما تتحلّى به من مؤهّلات ومعارف وقدرات ذهنية، ولغوية، وأدبية، وعلمية، قلّما تَحَلَّتْ بها فتاة بعمرها منذ الصغر. أمّا القول بتألّم ماري من تصرّف نعّوم «النابي»- على ما ذهبت والدتها- بكونه السبب الأساس للهجرة إلى مصر، فمسألة فيها نظر. ماري، باحتكاكها المباشر بذلك «العريس» تلمّست لمْس العين والعقل سذاجة شخصيته، النائية شاسعاً عن بنيتها الذهنية، المفعمة بالشواغل والهواجس والتساؤلات المعرفية، الفكرية، النفسانية، الشاعرية، الكتابية، وقد تملّكتها باكراً جدّاً، وراحت تتعمّق التدارس والتناقش الذاتيين في شأنها، إنّما بذكاء قلّما توافر لصبيّة، ففتاة، بمثل هذا البكور.
ولكن، ومرّة أخرى، أنّى للوالد أن يُقْدِم والعائلة على مغادرة الناصرة بصورة نهائيّة إذا لم تتوافر كلّ العناصر والمعطيات التي تزلّل جملة من العقبات غير البسيطة!
إضاءات جرجي زيدان
الجواب على هذا السؤال أرشدني إليه جرجي زيدان في الجزء الرابع من كتابه المرجعي «تاريخ آداب اللغة العربيّة» الذي صدر في القاهرة عام 1914. منه استنتجتُ العامل الأساس الذي أحلَّ عائلة زيادة في مصر، وهيّأ لراعيها كلّ الأسباب المادّية الضروريّة لإعادة إصدار «المحروسة» في القاهرة، بعد أن كانت أُجبرت على الصمت سنين طويلة في مسقط رأسها، الإسكندريّة. يتضمّن هذا الجزء الرابع فصلاً بعنوان «الجمعيات العلمية والأدبيّة» التي اعتبرها زيدان «من ثمار التمدّن الحديث في أوروبا على أثر انتشار الحريّة الشخصية وتأييد حقوق الأفراد» ص 67: وفي هذا السياق، يتوقّف عند «المجمع العلمي الشرقي» كاتباً فيه:
«أُنشِئ في بيروت سنة 1882 للبحث في العلم والصناعة لما يعود على البلاد بالخير. أوّل من فكّر فيه الدكاترة صرّوف نمر وموصلي (باشا) ووليم فانديك. فشكّلوه ووضعوا قوانينه. وانضم إليهم طائفة من علماء سورية وخَدَمة العلم في ذلك العهد. منهم الدكتور وِرْتبات، والدكتور فانديك، والدكتور إسكندر بارودي، ومرادي البارودي، وسليم بطرس البستاني، والدكتور مخائيل مشاقة، والشيخ إبراهيم اليازجي، والمعلم إبراهيم الحوراني، وإسبر شقير، ومؤلف هذا الكتاب (المقصود جرجي زيدان بالطبع). وتولّى رئاسته الدكتور فانديك الكبير، والدكتور وِرْتبات. ومن أعضائه المراسلين شفيق (بك منصور)، وإدريس (بك) راغب. ولم يطل بقاء هذا المجمع بعد انتقال أصحاب هذا المقتطف إلى مصر. وقد جمعت أعمال سنته الأولى في مجلّد على حدة، وهي تشمل مقالات علمية ألقاها بعض الأعضاء فيه».
في مكان آخر من المرجع ذاته، يكتب جرجي زيدان بعنوان «الجمعيات العربية في مصر» في ما سماه «تأخر ظهور الجمعيات العربية بمصر إلى النصف الثاني من القرن الماضي (المقصود القرن التاسع عشر) على أثر تنبّه الأذهان إلى الأمور السياسية في زمن (الخديو) إسماعيل [...]. وقد تكاثر الأجانب وتزايد الاحتكاك بالمدنية الأوروبية، لا سيما بعد قدوم جمال الدين الأفغاني إلى وادي النيل، وانتشار السياسة الحرّة في نفوس الأدباء. فمالوا إلى الاجتماعات السرية لتلك الأغراض، واتخذوا الماسونية وسيلة للاجتماع (كانت مرخّصاً لها رسميّاً) ثم أنشأوا الجمعيات السياسية».
من بين ما يُلفِتُ، في نصّ زيدان هذا، اعتباره الماسونية، المرخّص لها رسميّاً في مصر آنذاك، إطاراً يُلجأُ إليه «لإنشاء الجمعيات السياسيّة». ومعلوم أنّ الماسونية، محافلها وبأنشطة كلّ منها، وبمنابرها، استمرّتْ علنيّة مرخّصاً لها في مصر حتى بعد انقلاب 23 تموز(يوليو) العسكري عام 1952، وإنْ لبضع من السنوات. لكنّما حضور إدريس راغب عضواً (وإنْ) مراسلاً، مع زميله المصري شفيق منصور في ذلك «المجمع العلمي الشرقي» المتأسَّس في بيروت، ينطوي على دلالات عميقة الأبعاد؛ ناهيك عن حضور إبراهيم الحوراني الذي سوف يتولّى رئاسة تحرير جريدة «المحروسة» منذ صدور عددها الأوّل في القاهرة في 11 كانون الثاني(يناير) 1909.
افتتاحية هذا العدد كتبها إلياس زيادة بكونه صاحب «المحروسة» ومديرها المسؤول، مستذكراً «المحروسة» الأولى عام 1875 في الإسكندرية، ومذكّراً بإيقافها ومنعها من الصدور بسبب مواقفها السياسية، محيّياً كتّابها آنذاك وفي عدادهم سليم أفندي النقاش، وجبران أفندي النقّاش، والشيخ محمد عبده، وأديب بك إسحق، وعزيز بك زند (...) مشيداً بدورها، متمسكاً بمتابعته.
هنا، لا بُدَّ من العقّاد وإن طال البعد عنه: أوّلاً لأنّه الوحيد من بين روّاد «ندوة الثلاثاء» الذي استقبلته ميّ مرّتين في منزل العائلة بدعوة منها، إنّما بحضور الوالدة نزهة. أمّا ثانياً فلأنّه كتب عن علاقة إدريس راغب بـ «محروسة» القاهرة في كتابه المعنون بـ («رجال عرفتهم»)، قائلاً فيه: «وبين الزائرين (زائري الندوة) الذين كانت لهم زلفى الرعاية الطويلة إدريس راغب، رئيس المحافل الماسونية على ما أعلم، ولكن إدريس راغب كان يملك مطبعة «المحروسة»، ويتنازل لوالد ميّ الياس زيادة عن حقّ إدارتها وإصدار الصحيفة منها. وكانت لإدريس راغب هواية صحافية تمكّنت منه على الخصوص بعد عزله من وظائف الإدارة على أثر القضية المعروفة بقضية «أرض المطرية» بين الخديوي عباس وحسن موسى العقّاد، فاقتنى المطابع لإصدار الصحف الفرنسية والعربية، وخصّ والد ميّ بالإشراف على المطبعة العربيّة، من دون أن يقيّده بسياسة يُمليها عليه. وكانت زيارته ندوة ميّ أشبه بالزيارات العائلية كلما اصطحب معه أحدى كريماته الفاضلات، وإنْ أبت عليهن محافظة الأسرة أن يجلسن مع الزوار. فإذا حضر منفرداً عرفنا ذلك من سؤال ميّ عن آل بيته السيدات، ومن جوابه بالاعتذار عنهنّ، أو دعوتها إلى زيارتهن في وقت قريب».
تُرى، هل حلّ العقّاد لغزاً أم أشعل ناراً من التساؤلات في شأن زيارات إدريس راغب العائليّة (!) «ندوة الثلاثاء» وإنْ لم تتكرر مراراً؟
سمير سعد مراد
* نقلا عن بوابة الحضارات
بوابة الحضارات | حكاية لغز مى زيادة الذى ماتت بعده وحير عباس العقاد
< «سيبوني أموت. أرجوكم دعوني أرتاح». تلك كانت آخر عبارة كتبتها الآنسة ميّ، إنّما بصوتها لا بقلمها هذه المرّة.
جرى ذلك فيما كانت تغادر الدنيا ظهر اليوم الخامس (نهار الأحد 19 تشرين الأول - أكتوبر 1941) على الإتيان بها غائبة عن الوعي إلى مستشفى المعادي في القاهرة، بعد خَلْع باب بيتها الموصد من الداخل. لقد تأبّتْ، طيلة الأيّام الأربعة المنصرمة، تناول الطعام، وقاومت التجاوب مع الأطباء بعناد الفولاذ... إلى أن لَبَّى الموت استدعاءها بعد أن كانت أَعَدَّتْ لقدومه- على ما أرى- في بيتها الوحيدة فيه، متمدّدة على السرير: النوافذ مُغلقة. السّتائر مُسدلة. الإبريق بمحاذاة السرير وقد نضب ماؤه. وبالقرب منه سَكَتَتْ ثلاثة كتب: «غرازيللّا» للشاعر لامارتين بالفرنسيّة، ورواية «صورة دوريان غْراي» بالإنكليزية للكاتب أوسْكار وايْلد الذي عوقب بالسجن على مثليته، وكتابُها الذي وضعته هي في صديقتها ملك حفني ناصف بعنوان «باحثة البادية» بالعربية ثمّ مجلد من مجلّة «المقتطف» التي كان يصدرها شهرياً يعقوب صروف.
إنّه لأمر طبيعي أن يخطر في البال التساؤل عن البواعث التي حَدَتْ بميّ إلى أن تنتقي هذه المؤلّفات من دون سواها، العائدة إلى أولئك الكتاب الأعلام من دون سواهم، لتعبر بتصفحها الوقت اللازم لنفاذ قرارها بالرحيل عن الحياة الدنيا- على ما أحسب- فهل أنّ المكان لم يتسع لأيٍّ من كتب جبران خليل جبران لاسيّما منها تلك الأنضج التي وضعها واشتهر بها بالإنكليزية، ككتاب «النبي» مثالاً وليس حصراً؟
وعن "جريدة الحياة اللندنية" نصٌ واحدٌ من نصوص جبران، مقال واحد من مقالاتها المنشورة في جبران، كلاهما لم يحظَ بالمثول في سويعات الوداع تلك. ولا حتى رسالة واحدة من رسائله إليها!. ربّما وجدنا في رسالتها إلى أمين الريحاني «في منتصف آب - أغسطس1941» بوادر جنوح إلى يأسٍ مرير عبّرت عنه متسائلة: «أرأيت في حياتك إنساناً غيري في مثل هذه الغباوة؟ ومع ذلك لستُ أطيقُ أن يؤلمني أو يزعجني أحد، ولست أُنيل الناس ثقتي، شأني من قبل. وهذا دليل على أنّ في داخل نفسي شيئاً من الشَّيب أيضاً». لم يكن شَعْرُها وحده ما قد ابيضَّ في «ليالي العصفوريّة» ونهاراتها. لكأنّ بياض الشيب، قبل أوانه غزاها في ليلة ليلاء لينال من توقّد عينيها، ومن عافية حيويتها الفكريّة النفسانيّة الجسديّة، إنّما بحياكةٍ مدروسة دُبّرتْ للإيقاع بها. وكان هذا بتسديد النار على أعز ما امتلكته وحَقَّ لها أن تعتزَّ به: عقلُها النيّر، فكرها الحرّ، قماشتها الثقافية الباهرة، الموسوعية الطابع، وقلمها الذي خلّف غزارة تأليف فائق التنوّع، تميّز دائماً بسلاسة على الأخص: جوع للحب وعطش للحرية، وكآبة ربداء لا تفارق.
مُشيّعو ميّ إلى مثواها الأخير، في مدافن الطائفة المارونية في القاهرة، كانوا قِلّة: صديقتُها هدى شعراوي رئيسة الاتحاد النسائي المصري، وأستاذ الجيل أحمد لطفي السيّد، وشاعر القطرين خليل مطران، والصحافي أنطون الجميّل الذي كان قد حلّ رئيساً للتحرير في جريدة «الأهرام» عُقب وفاة رئيس تحريرها العريق المرموق السابق، وصديق ميّ الصدوق، داود بركات. وعند خروجهم من بوّابة المدافن بُعيد انتهاء مراسم الدفن، تفاجأوا بقدوم عبّاس محمود العقّاد المتأخّر، مهرولاً. لم يملك إلّا أن يقف ويبادرهم بنبرة مرّة واثقة، صادقة الأسى والحيرة: «عاشت لُغزاً وماتت لُغزاً». ثمّ تابع سيره إلى حيث الضريح، لا يلوي على شيء، ولا ينتظر من وجومهم ردّاً.
هند أم مي؟
من المعروف عن هذا الكاتب المفكّر، الأديب، الشاعر، المناضل السياسي، أنّه لا يلقي كلاماً جُزافاً. وهذا ما يستوثقه، أيضاً، قارئ رواية «سارة» التي وضعها العقّاد متوقّفاً فيها عند علاقته الغرامية المشبوبة مع اثنتين متعاكستين في آن: واحدة سماها سارة، والأخرى هند، قائلاً فيهما: «... كانت سارة وهند على مِثالين من الأنوثة متناقضين [...]: فإذا كانت سارة قد خُلقتْ وثنية في ساحة الطبيعة فَهندْ قد خُلقتْ راهبة في دير، من غير حاجة إلى الدير! تلك مشغولة بأنْ تحطِّم من القيود أكثرَ ما استطاعت، وهذه مشغولة بأن تصوغ حولها أكثر ما استطاعتْ من قيود ثمّ توشّيها بطلاء الذهب وترصّعها بفرائد الجوهر(ص 136). كلتاهما جميلة، ولكنّ الجمال فيهن كالحصن الذي يحيط به الخندق. أمّا الجمال في سارة فكالبستان يحيط بيه جدول من الماء النمير هو جزء من البستان، وهو للعبور أكثر مما يكون للصدّ والنفور. تلك تعطيك خير ما أعطت على البعد والحيطة، وهذه تعطيك على القرب والسَّرف (ص137)... كلتاهما ذات ثقافة وألمعية، لكن ثقافة هند إلى المعرفة، وثقافة سارة إلى الفطرة [...] إحداهما قائمة في محراب، والأخرى باثقة كالزهرة من زبد العُباب» (ص 138).
لعلّ العقّاد في ما قاله في هند- وهي، هنا، ميّ بلا منازع- أن يكون الوحيد، بين زملائه روّاد «ندوة الثلثاء» المسائيّة، الذي أفصح عن اعتباره ميّ لُغزاً في حياتها، وفي الممات. هل كان لهذا اللغز أن ينعقد وأن يتجلّى أصلاً، في غير القاهرة عهد ذاك؟
أحسَبُ أنه من دون القاهرة تستحيل مقاربة تتوخّى الإلمام أقلّه ببعض من حقائق (ألغاز، قيود، مُغلقات، سرائر!) تلك التي سماها والداها ماري عند ولادتها في بلدة الناصرة بفلسطين في 11 شباط (فبراير)1886؛ ثمّ لتهاجر معهما في الحادية والعشرين من العمر في النصف الثاني من العام 1907 إلى القاهرة؛ ولتخلع هناك، بقرار ذاتيّ اسم ماري الذي أُسقِطَ عليها وترتدي في العام 1911 اسم ميّ؛ ثمّ لتنضم في الخامسة والخمسين إلى رفاة والديها، بعد أن كانت تألّقت باكورة حداثة تلقائيّة القدرة على البرهنة أنّ الثقافة الخصيبة فِعْلُ تلاقح ثقافات وإن سُمِّيَ تحاورها.
مصر، في ذلك الحين، كانت قد تحرّرت من رِبق الخضوع للسلطنة العثمانية. وقد اقتصرت العلاقات معها على مجرّد الاعتراف بالآستانة عاصمةً للخلافة الإسلاميّة ليس أكثر. غير أنّ صيتها كان قد ذاع وشاع بكونها «مصر، أمّ الدنيا» دارجاً على شفة ولسان. فبرزت قبلة الطامحين من لبنانيين وسوريين، كانوا يُعْرَّفون جميعهم بالشّوام، إلى نيل الحريّة، وتحصيل الثروات وفرص العمل المجزية، فكلتاهما معدومتان في لبنان وسورية، البلدين الرازحيْن بكليّة تحت نير الاحتلال العثماني باستبداده المتحكّم بالأرزاق وبرقاب العباد.
مصر كانت قد شهدت، فعلاً، تطوّراً متصاعداً بادر إلى إرساء أُسسه الوالي الأوّل محمد علي باشا، وتابَعه عبّاس الأوّل وسعيد ثمّ في ما بعد، الخديوي إسماعيل بالأخصّ. وهذا ما توقّفتْ عنده ميّ في مطلع دراستها الرائدة التي وضعتها في «عائشة تيمور- شاعرة الطليعة». لم يفتها الانتباه إلى أنّ «الاندفاع الأكبر جاء في عهد الخديوي إسماعيل فعاد إلى معالجة مشروعات محمد علي مرسلاً البعثات إلى أوروبا، موجداً المكتبة الأهلية ومتحف الآثار المصرية، حافراً الترع ومجمّلاً المدن.
عندما حطّت عائلة إلياس زيادة رحالها في القاهرة، انكبَّت ماري على قراءة مصر بأُمّ العين. وهذا، بخاصة، بعدما انتقلت إلى والدها ملكيّة جريدة «المحروسة» وإصدارها يوميّاً في القاهرة. وقد لفت «انتباهها القاضي والمفكّر قاسم أمين»، منذ أوّل كتاب كان ألّفه ونشره باللغة الفرنسية سنة 1894 بعنوان: Les Egyptiens (المصريون) يردّ فيه على «الدوق الفرنسي داركور»، مشيراً إلى «أنّ الجميع في مصر يتوقون إلى العلم ويتعلّمون، معتبرين أنّ هذا هو السبيل الوحيد للنهوض. منذ ثورة عُرابي انتبه الشعب المصري لمكانته وكرامته. استنار ذهنه وجعل يهتم بنظام الحكم وبالشؤون العامّة. يقدّرها ويحكم لها أو عليها. وبالجملة، فإنّ مصر تيقّظت بالفعل».
الجماعة السورية
ميّ التي صاغت دراستها هذه في عائشة تيمور، في العقد الثاني من القرن العشرين، تبيّنت ما رأت إليه من «ازدياد حركة التطوّر، وقد أُضيفَت إليها عناصر فتية متنوعة [...]. فإلى جانب التحسين الزراعي والحربي والميكانيكي والمدرسي، ظهرت حركة أُخرى روّادها الغموض في البدء إنما جعلت تتسع وتنجلي مع الأيام. نشأت عن تواصل الاحتكاك بمدينة الغرب سواء بواسطة النزلاء المقيمين في هذه الديار، وبعوث الشباب العائدين من أوروبا، وقد تطعّمت نفوسهم بجديد النزعات وحديث الآراء، وجماعات خريجي المدارس المصرية وقد سرتْ إليهم عدوى الفكر العصري خلال ما تلقّنوا من الدروس الأوروباويّة».
في صدد هذا المناخ النوعي، لم يفت ميّ التوقّف عند عامل أساسي ثالث قلّما حفلت به الدراسات الوازنة بإيفائه حقّ قدره. إنّه ما سمته ميّ «قدوم جماعة من نوابغ السوريين وأحرارهم النازحين إثر النكبات، فكان صدم أفكارهم بأفكار المصريين جزيل النفع للفريقين وللفكر العربيّ عموماً».
في هذا السياق يتموضع، على ما أرى، انتقال إلياس زيادة مع عائلته من ناصرة الجليل في فلسطين إلى القاهرة. ولكن، ما الذي حمله حقّاً على القيام بذلك، وهو المعلّم المرموق في حقل اللغة العربيّة في مدرسة «راهبات الأرض المقدّسة» طيلة عشرين سنة متواصلة في الناصرة، ثمّ مديراً للمدرسة حتى نهاية العام 1906؟
إنّه لمن قبيل التعسّف، والحال هذه، اعتبار نزوح إلياس زيادة مع عائلته إلى مصر مجرّد ردّ فعل، ليس إلّا، على اكتشاف الصبيّة ماري أنَّ رسائل خطيبها نعوم إسكندر زيادة إليها (وهي بعد في المدرسة الداخليّة «لراهبات الزيارة» الملاصقة لمدرسة الصبيان في عينطورة. ثمّ في مدرسة راهبات العازارية في بيروت لسنة واحدة) لم تكن من بنات أفكاره ولا بقلمه. إنها رسائل صاغها، في حقيقة الأمر، بقسم متميّز فيها قلم يوسف الحويك قبيل أن يتكرّس فنّاناً تشكيليّاً لافتاً. أمّا القسم الآخر فبقلم جوزف زيادة، شقيق نعوم وزميل الحويك في مدرسة الحكمة ببيروت. وعلى هذا، فالخطوبة التي تمّت في حزيران(يونيو) 1905، فُسِخَتْ في أواخر صيف العام ذاته، إنّما بقرار شخصي أبلغته ماري برقيّاً إلى العم إسكندر والد العريس، من دون العودة إلى والديها في هذا الصدد. نص هذه البرقية أربع كلمات فرنسية ليس أكثر: Style Joseph fiançailles rompues «أُسلوب جوزف. خطوبة مفسوخة». ثمّ التحقت ماري معلّمة في مدرسة والدها، تُدرّس اللغة الفرنسية التي تجيدها أيّما إجادة.
لعلّ من اللّافت في ذلك التغازل البريدي، الفرنسي اللغة والقصير العمر، أن تكون الكتابة التي طرّزت بها ماري رسائلها إلى نعّوم ووقتّعها بأسماء مركّبة متعدّدة من اختراعها: كنار شهاب على سبيل المثال، والعديد غيره مستبعدة على الدوام اسمها ماري زيادة. أسلوبها في تلك الرسائل رفيع المستوى، أنيق المداعبة بل المغازلة: تتفنّن بصوغ مشاعرها تجاهه. تناجيه بتعابير محكمة البناء، وتشي بالأحاسيس المتجرئة. لكأنّها، بفيض كلامها وطول رسائلها، تمتحن قدرته على التحاور معها، وقياس مجاراته تفوّقها. بيْد أنّها لم تحظَ بغير الخيبة.
لَعوباً، استدعته إلى مبارزة ما كان ليفلح بها، لاسيّما أنّه كان قد توقّف، وقتها، عن متابعة الدراسة الفاشل فيها أصلاً؛ وتحوّل إلى بائع جوخ إنكليزي للألبسة الرجاليّة. فلم يبق لهذه الماري إلّا أن تخلع عليه لقب «التاجر الإنكليزي»، متأكّدة من أنّه عاجز عن الانتباه إلى أنّها قد أصدرت حكمها القاطع بكونه برودة فاقعة في ما هي في خضم المضمار الذي راح يكوّنها ناراً متّقدة في طلعتها وتساؤلاتها الميتافيزيائية الباكرة. فلا يبقى من خيار سوى الإعلان عن رسوب نعّوم في الامتحان.
هل يصحّ اعتبار انتكاسة هذه الخطوبة الدافع الأساس الذي حمل الياس زيادة على الانتقال بل الهجرة إلى مصر؟ [أبرز الباحثين والباحثات، س. ح. ألكزبري، في سفرها المرجعي الجامع عن ميّ زيادة تردّ هذه المسألة إلى «يقين الوالد بأنّ في القاهرة مجالات واسعة تطوّر نبوغ ابنته، وتحقيق طموحها وطموحه بعد أن ضاقت الناصرة بهما [...] فشدّ الرحال إلى القاهرة لمزاولة الصحافة فيها [...] أمّا السيدة نزهة الوالدة فكانت أشدّ حماسة منه للرحيل عن الناصرة إنقاذاً لابنتها الوحيدة ماري وأملاً بأن تجد في مصر مستقبلاً رغداً بعد الصدمة التي منيت بها [...] خشيتْ أمها أن تسيء ماري الظنّ بالحياة وبالشباب، وتنفر حتى من التفكير بالزواج بعد أن جرح كبرياءها خداع نعّوم [...] فقد لحظتْ أمّها وسائر أقربائها أنها كانت متألّمة، لا شيء يعزّيها عن تصرّف نعّوم النابي، ولا سيّما عن اغترارها به...».
ماري لم تكن مغترّة، يوماً، بالتاجر الإنكليزي، لا برسائله إليها، ولا في أوقات نزولها في بيت والده العم إسكندر في غزير، وهو الصديق الحميم لوالدها. أمّا والدها فما عُرف عنه يوماً سعي إلى، أو رغبة في، العمل الصحافي طيلة إقامته في فلسطين أكثر من عشرين عاماً. فما الذي حمله، إذن، إلى مصر ليتولى إصدار جريدة «المحروسة» في القاهرة بصفته صاحبها ومديرها المسؤول، وصاحب المطبعة التي تطبع فيها الجريدة كذلك؟ هل كان يملك أصلاً القدرات المالية اللّازمة لإصدار جريدة يوميّة، ناهيك عن امتلاك مطبعة؟
ربّما كان والد ماري صائباً في خياره بالانتقال وعائلته إلى مصر حيث تتوافر لابنته العناصر والأجواء المواتية لتفتّح ما تتحلّى به من مؤهّلات ومعارف وقدرات ذهنية، ولغوية، وأدبية، وعلمية، قلّما تَحَلَّتْ بها فتاة بعمرها منذ الصغر. أمّا القول بتألّم ماري من تصرّف نعّوم «النابي»- على ما ذهبت والدتها- بكونه السبب الأساس للهجرة إلى مصر، فمسألة فيها نظر. ماري، باحتكاكها المباشر بذلك «العريس» تلمّست لمْس العين والعقل سذاجة شخصيته، النائية شاسعاً عن بنيتها الذهنية، المفعمة بالشواغل والهواجس والتساؤلات المعرفية، الفكرية، النفسانية، الشاعرية، الكتابية، وقد تملّكتها باكراً جدّاً، وراحت تتعمّق التدارس والتناقش الذاتيين في شأنها، إنّما بذكاء قلّما توافر لصبيّة، ففتاة، بمثل هذا البكور.
ولكن، ومرّة أخرى، أنّى للوالد أن يُقْدِم والعائلة على مغادرة الناصرة بصورة نهائيّة إذا لم تتوافر كلّ العناصر والمعطيات التي تزلّل جملة من العقبات غير البسيطة!
إضاءات جرجي زيدان
الجواب على هذا السؤال أرشدني إليه جرجي زيدان في الجزء الرابع من كتابه المرجعي «تاريخ آداب اللغة العربيّة» الذي صدر في القاهرة عام 1914. منه استنتجتُ العامل الأساس الذي أحلَّ عائلة زيادة في مصر، وهيّأ لراعيها كلّ الأسباب المادّية الضروريّة لإعادة إصدار «المحروسة» في القاهرة، بعد أن كانت أُجبرت على الصمت سنين طويلة في مسقط رأسها، الإسكندريّة. يتضمّن هذا الجزء الرابع فصلاً بعنوان «الجمعيات العلمية والأدبيّة» التي اعتبرها زيدان «من ثمار التمدّن الحديث في أوروبا على أثر انتشار الحريّة الشخصية وتأييد حقوق الأفراد» ص 67: وفي هذا السياق، يتوقّف عند «المجمع العلمي الشرقي» كاتباً فيه:
«أُنشِئ في بيروت سنة 1882 للبحث في العلم والصناعة لما يعود على البلاد بالخير. أوّل من فكّر فيه الدكاترة صرّوف نمر وموصلي (باشا) ووليم فانديك. فشكّلوه ووضعوا قوانينه. وانضم إليهم طائفة من علماء سورية وخَدَمة العلم في ذلك العهد. منهم الدكتور وِرْتبات، والدكتور فانديك، والدكتور إسكندر بارودي، ومرادي البارودي، وسليم بطرس البستاني، والدكتور مخائيل مشاقة، والشيخ إبراهيم اليازجي، والمعلم إبراهيم الحوراني، وإسبر شقير، ومؤلف هذا الكتاب (المقصود جرجي زيدان بالطبع). وتولّى رئاسته الدكتور فانديك الكبير، والدكتور وِرْتبات. ومن أعضائه المراسلين شفيق (بك منصور)، وإدريس (بك) راغب. ولم يطل بقاء هذا المجمع بعد انتقال أصحاب هذا المقتطف إلى مصر. وقد جمعت أعمال سنته الأولى في مجلّد على حدة، وهي تشمل مقالات علمية ألقاها بعض الأعضاء فيه».
في مكان آخر من المرجع ذاته، يكتب جرجي زيدان بعنوان «الجمعيات العربية في مصر» في ما سماه «تأخر ظهور الجمعيات العربية بمصر إلى النصف الثاني من القرن الماضي (المقصود القرن التاسع عشر) على أثر تنبّه الأذهان إلى الأمور السياسية في زمن (الخديو) إسماعيل [...]. وقد تكاثر الأجانب وتزايد الاحتكاك بالمدنية الأوروبية، لا سيما بعد قدوم جمال الدين الأفغاني إلى وادي النيل، وانتشار السياسة الحرّة في نفوس الأدباء. فمالوا إلى الاجتماعات السرية لتلك الأغراض، واتخذوا الماسونية وسيلة للاجتماع (كانت مرخّصاً لها رسميّاً) ثم أنشأوا الجمعيات السياسية».
من بين ما يُلفِتُ، في نصّ زيدان هذا، اعتباره الماسونية، المرخّص لها رسميّاً في مصر آنذاك، إطاراً يُلجأُ إليه «لإنشاء الجمعيات السياسيّة». ومعلوم أنّ الماسونية، محافلها وبأنشطة كلّ منها، وبمنابرها، استمرّتْ علنيّة مرخّصاً لها في مصر حتى بعد انقلاب 23 تموز(يوليو) العسكري عام 1952، وإنْ لبضع من السنوات. لكنّما حضور إدريس راغب عضواً (وإنْ) مراسلاً، مع زميله المصري شفيق منصور في ذلك «المجمع العلمي الشرقي» المتأسَّس في بيروت، ينطوي على دلالات عميقة الأبعاد؛ ناهيك عن حضور إبراهيم الحوراني الذي سوف يتولّى رئاسة تحرير جريدة «المحروسة» منذ صدور عددها الأوّل في القاهرة في 11 كانون الثاني(يناير) 1909.
افتتاحية هذا العدد كتبها إلياس زيادة بكونه صاحب «المحروسة» ومديرها المسؤول، مستذكراً «المحروسة» الأولى عام 1875 في الإسكندرية، ومذكّراً بإيقافها ومنعها من الصدور بسبب مواقفها السياسية، محيّياً كتّابها آنذاك وفي عدادهم سليم أفندي النقاش، وجبران أفندي النقّاش، والشيخ محمد عبده، وأديب بك إسحق، وعزيز بك زند (...) مشيداً بدورها، متمسكاً بمتابعته.
هنا، لا بُدَّ من العقّاد وإن طال البعد عنه: أوّلاً لأنّه الوحيد من بين روّاد «ندوة الثلاثاء» الذي استقبلته ميّ مرّتين في منزل العائلة بدعوة منها، إنّما بحضور الوالدة نزهة. أمّا ثانياً فلأنّه كتب عن علاقة إدريس راغب بـ «محروسة» القاهرة في كتابه المعنون بـ («رجال عرفتهم»)، قائلاً فيه: «وبين الزائرين (زائري الندوة) الذين كانت لهم زلفى الرعاية الطويلة إدريس راغب، رئيس المحافل الماسونية على ما أعلم، ولكن إدريس راغب كان يملك مطبعة «المحروسة»، ويتنازل لوالد ميّ الياس زيادة عن حقّ إدارتها وإصدار الصحيفة منها. وكانت لإدريس راغب هواية صحافية تمكّنت منه على الخصوص بعد عزله من وظائف الإدارة على أثر القضية المعروفة بقضية «أرض المطرية» بين الخديوي عباس وحسن موسى العقّاد، فاقتنى المطابع لإصدار الصحف الفرنسية والعربية، وخصّ والد ميّ بالإشراف على المطبعة العربيّة، من دون أن يقيّده بسياسة يُمليها عليه. وكانت زيارته ندوة ميّ أشبه بالزيارات العائلية كلما اصطحب معه أحدى كريماته الفاضلات، وإنْ أبت عليهن محافظة الأسرة أن يجلسن مع الزوار. فإذا حضر منفرداً عرفنا ذلك من سؤال ميّ عن آل بيته السيدات، ومن جوابه بالاعتذار عنهنّ، أو دعوتها إلى زيارتهن في وقت قريب».
تُرى، هل حلّ العقّاد لغزاً أم أشعل ناراً من التساؤلات في شأن زيارات إدريس راغب العائليّة (!) «ندوة الثلاثاء» وإنْ لم تتكرر مراراً؟
سمير سعد مراد
* نقلا عن بوابة الحضارات
بوابة الحضارات | حكاية لغز مى زيادة الذى ماتت بعده وحير عباس العقاد