لنحلل هذا المذهب أولا، ولنحاول بعد ذلك أن نتعرف على مختلف الاتجاهات للإجابة على هذه الأسئلة الحائرة.
الإسماعيلية إحدى فرق الشيعة، وتسمى أيضا الإمامة، لان أنصارها كانوا يسندون الإمامة بعد الإمام السادس جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل الذي نسبوا إليه، وأحيانا تدعى الباطنية التزاما لمذهب النقية الذي كان له دور فعال في نجاحهم في مختلف المراحل التي مروا بها، فالإمامة عندهم مختفية، وليس في وسع كل إمام منهم الظهور، إلا بعد أن يأنس من نفسه الاستعداد وحين انس عبد الله المهدي أن جانبا من القوة يسنده أعلن نفسه وأسس الدولة الفاطمية...
وقد بني المذهب الاسماعيلي عل أسس هي نفس الأسس التي بني عليها المذهب الشيعي بصفة عامة، وهي المهدية والرجعة والتقية والعصمة... وكان للإسماعيلية اتجاه خاص في التشريع الإسلامي، لان المصادر التي كانوا يعتمدون عليها في هذا التشريع هي القرآن بالتأويلات والتفسيرات التي يختارونها، والتي يتلاءم مع أهدافهم، والسنة برواية الشيعة، وحديث الإمام المعصوم الذي يتلقى الوحي والإلهام، وقد وضعوا نظاما اشتراكيا خاصا يهدف إلى نزع الملكية الكبيرة، وتوزيعها، كما كانت لهم آراء خاصة في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة.
وقد نشا المذهب الشيعي بصفة عامة في أول خلاف على إسناد الخلافة بعد وفاة الرسول عليه السلام، وكان من رأي أنصاره أحقية علي بالخلافة وفي أعقاب خلافة عثمان ظهر هذا المذهب إلى حيز الوجود بعد أن ساعدت عوامل كثيرة على ارساء دعائمه.
ونستطيع أن نلمح من خلال هذه النظرة السريعة على المذهب الاسماعيلي، آثار بعض الديانات والمذاهب التي كانت منتشرة لدى الفرس، مثل الزرادشتية والمزدكية والمانوية وغيرها، ويسود هذا المذهب كثير من التناقض، لأنه مر بمراحل مختلفة في تكوينه، فلم يستقر في أول هذه المراحل على اتجاه معين، كما يسوده الغموض أيضا، لان الأدوار التي مر بها كانت تحتم على الدعاة إليه إحاطته بسياج من الكتمان.
وليس يهمنا أن نتعمق في تحليل مختلف العناصر التي تكون منها هذا المذهب، وإرجاعها إلى مصادرها الأولى التي انحدرت منها، وإنما المهم أن نحاول استجلاء هذه الحقيقة. وهي :
هل كان نجاح الفاطميين في إقامة دولتهم بافريقية الشمالية نتيجة انتشار هذا المذهب، أم أن هناك عوامل أخرى حققت هذا النجاح ؟.
حول بعض المؤرخين بحث هذا الموضوع ولكنهم لم ينفذوا إلى أغواره، ولم يكشفوا مجاهله، فخرجوا بنتائج فجة متهافتة لا يسندها منطق ولا يعززها برهان، وسنعرض هذه النتائج بعد أن نلقي بعض الضوء على الظروف التي عاصرت المذاهب، والنحل التي أخذت تفد من المشرق في الفترة التي تمكن فيها الإسلام من نفوس البربر، لنستشف من خلال أشعته بعض الحقائق التي نرجو أن تقودنا إلى رأي سديد.
بعد صراع مرير تغلغل الإسلام في نفوس البربر، حينما لمست مبادئه شغاف قلوبهم، واختفى ما كان يبدو عليهم من نفور من العرب، وأصبحوا يشعرون شعورا صادقا انه لا فرق بينهم وبين العرب، على الرغم من طموحهم إلى الاستقلال، وتبنى الرسالة التي حملوها إليهم، وهكذا أصبح الإسلام يربط بينهم وبين العرب في المشرق، وأخذت أصداء أحداث المشرق تتردد في مجتمعاتهم، ومن جملة هذه الأحداث حركة الخوارج، فقد رن صداها في مجتمعاتهم وسرعان ما اقبلوا عليها في أواخر القرن الأول للهجرة، وكانت خوارج افريقية الشمالية اباضية وصفرية، ويبدو أن بعض أذكياء البربر كانوا قد اندفعوا إليها لحمل رايه العصيان في وجه حكومتهم، ولكن الباقين كانوا قد اندفعوا إليها لأنها توائم طبائعهم الثورية النزاعة إلى الحرية.
ولم يتبلور المذهب الشيعي عندهم في صورة معتقدات، غير أن ما تناقل إلى أسماع البربر عن النكبات التي حلت بالعلويين من جانب الأمويين والعباسيين، جعلهم يعطفون على العلويين، وقد بدت مظاهر هذا العطف حينما هاجر إدريس العلوي إلى المغرب، اثر نجاته من وقعة فخ، اجل بدت في الحفاوة البالغة التي استقبله بها البربر، وفي موقفهم من مبايعته على الإمارة.
هذا الموقف الكريم يبرهن على أن التشيع للعلويين، كان قد ظهر قبل رحيل داعية الاسماعيليين أبي عبد الله الشيعي إلى افريقية الشمالية، لنشر دعوة الفاطميين، وانه كان مجرد عطف وحب لسلالة فاطمة للأسباب السالفة.
وفي أعقاب الدولتين؛ الأغلبية بتونس، والادريسية بالمغرب، وحل أبو عبد الله الشيعي إلى افريقية الشمالية، وقد استطاع بحذقه ودهائه أن يؤسس فيها دولة الفاطميين أو العبديين، وهنا بحق لنا أن نتساءل : هل انتشر المذهب الاسماعيلي بخطوطه حقيقة بين البربر، وعلى أساسه قامت دولة الفاطميين بافريقية الشمالية ؟ أم أن هذه الدولة قامت على أساس العطف والحب كما رأينا أثناء قيام الدولة الادريسية بالمغرب ؟.
يرى الدكتور حسن إبراهيم في كتابه (الفاطميون في مصر) أن من الغريب، أن أكثر سكان البلاد التي قام فيها الاسماعيليون بنشر مذهبهم لا يزالون متمسكين بعقائد هذا المذهب، إلا سكان بلاد المغرب، حيث لم يبق للاسماعيليين بقية، وقد علل اختفاء هذا المذهب بينهم اعتمادا على رأي للأستاذ ماسينيون : بجهل البربر، وعدم استعدادهم لفهم درجاته المختلفة المندرجة في الصعوبة، كغيرهم من أهالي الأقطار الأخرى، كفارس، ومصر، التي يمتاز أهلها بالحضارة وسمو الفكر، ويرى أيضا أن البربر لم يكن لهم السبيل والاستعداد للأخذ بأهداف الحضارة الإسلامية التي أوجدها الصرب في صدر الإسلام، ولو اخذ البربر بحضارة العرب لكان في ذلك قبول لحضارة الفاتحين.
تلك هي النتائج التي انتهى إليها المؤرخون لتعليل اختفاء المذهب الاسماعيلي في افريقية الشمالية، وتتلخص في جهل البربر وعدم استعدادهم لفهمه وعدم قدرتهم على هضم الحضارة العربية، ولو أننا انسقنا مع الرأي القائل : أن الحضارة عبارة عن الظواهر الثقافية والفنية والمعنوية لحياة المجتمع مع اشتراط عمق هذه الظواهر في أغوار التاريخ-لجردنا العرب من حضارتهم إذ ليست جذورها ممتدة في أعماق الزمن، وإنما استمدوا بعضها من جوهر الإسلام بعد ظهور الرسالة المحمدية، واستمدوا الباقي من الهند وفارس واليونان، بعد أن قطعت الفتوحات الإسلامية شوطا بعيدا في تاريخهم، ولو أننا اتجهنا على المعنى المتعارف للحضارة وإنها من شيمة المجتمع الإنساني، وبها يتميز عن مجتمع الحيوانات، وإنها فضلا عن ذلك مجهود أنساني ضخم تضافرت أجيال الإنسانية على تشييده منذ فجر تاريخ الإنسانية- لو أننا اتجهنا إلى هذا المعنى المتعارف للحضارة، لوجودنا البربر لهم حضارتهم أيضا، على أننا نعلم من تاريخ البربر لنهم لم يهضموا الحضارة العربية وحدها، بل تمثلوا حضارات أخرى قديمة قبل اتصالهم بالعرب، ومن بينها حضارات الفينيقيين والرومان...
ويبدو أن التعليل السليم لإخفاء المذهب الاسماعيلي من افريقية الشمالية، انه كان يحتوي على نظريات اشتراكية متطرفو، ترمي إلى نزع الأملاك الكبيرة من أيدي أصحابها وتوزيعها بالتساوي، ولم يكن للبربر استعداد لتطبيق هذه النظرية، ومن المعروف أن الإقطاعية كانت منتشرة بينهم ومستقرة في بيئتهم.
ويضاف على هذا العامل، أن المذهب الخارجي كان اسبق إلى ظهور بين البربر من المذهب لاسماعيلي، فكان مناهضا له، لأنه كان مذهبا موافقا لأمزجة البربر ونزعاتهم الحرة.
على أن الفاطميين لم يبرعوا في الدعوة لمذهبهم، إلا بعد أن استقرت خلافتهم في مصر، وإذ ذاك سلكوا المناهج العلمية لنشر مذهبهم، فحين شيد الأزهر اتخذوا منه ناديا لنشر دعوتهم بأسلوب علمي منظم...
وقد كان للتصرفات التي كانت تصدر عن الدعاة لهذا المذهب اثر سيء بين البربر، لأنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الناس عليه بالقوة، وبأساليب شتى من الإرهاب والاستبداد، ومما لا شك فيه أن المذاهب والمبادئ لا تنتشر بالإرهاب والقوة، بل بالتبشير والإقناع، وقد كان إرهاب هؤلاء الدعاة منفرا البربر من هذا المذهب، ويروى التاريخ أمثلة كثيرة لهذا الإرهاب، ففي خلال سنة 306 هـ قتل هؤلاء في القيروان (عروسا) المؤذن بعد أن ضربوه بالسياط وقطعوا لسانه، حين علموا انه لم يذكر في أذانه (حي على خير العمل) وهي إحدى شعارات الاسماعيليين.
ثم أن ما كان يبدو على المذهب من تناقض ومخالفة لتعاليم الإسلام التي ألفوها، ومن ادعاء أنصاره أن أمامهم محيط بأسرار المغيبات، كل هذه الأشياء جعلت البربر يتخذون منه ومن دعاته مادة لسخريتهم، فقد وقف يوما (على المروزي) والناس حوله، وقال لأبي عبد الله الشيعي في إحدى مجالس دعوته (لقد لطفت لنا-أصلحك الله- في قطع قيام رمضان، فهلا احتلت لنا في ترك صيامه وكفيتنا مئونته) وقد كتب بعض احداث القيروان هذين البيتين، وتلطفوا في وصولهما إلى عبيد الله المهدي من حيث لا يعلم :
الجور قد رضينا = لا الكفر والحماقة
يا مدعي الغيوب = من كاتب البطاقة
فاشتد ذلك عليه، وبحث سرا عن كاتبه فلم يعثر عليه.
وهكذا نرى أن اختفاء المذهب الاسماعيلي لا يرجع إلى قصور البربر عن الإحاطة بما يحتوي عليه من نظريات متدرجة في الصعوبة، على أننا نجد كثيرا من البربر قد تعمقوا في فهم هذا المذهب، بل وتأثروا به، لعل في الحركات المتكررة التي قام بها مدعو المهدية-وهي إحدى أصول المذهب الشيعي- ما يلقي ضوءا على هذه الحقيقة، ففي مختلف ادوار تاريخ البربر نجد الكثير منهم قد انتحلوا لأنفسهم اسم المهدي المنتظر الذي خرج ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا.
* دعوة الحق
ع/10
الإسماعيلية إحدى فرق الشيعة، وتسمى أيضا الإمامة، لان أنصارها كانوا يسندون الإمامة بعد الإمام السادس جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل الذي نسبوا إليه، وأحيانا تدعى الباطنية التزاما لمذهب النقية الذي كان له دور فعال في نجاحهم في مختلف المراحل التي مروا بها، فالإمامة عندهم مختفية، وليس في وسع كل إمام منهم الظهور، إلا بعد أن يأنس من نفسه الاستعداد وحين انس عبد الله المهدي أن جانبا من القوة يسنده أعلن نفسه وأسس الدولة الفاطمية...
وقد بني المذهب الاسماعيلي عل أسس هي نفس الأسس التي بني عليها المذهب الشيعي بصفة عامة، وهي المهدية والرجعة والتقية والعصمة... وكان للإسماعيلية اتجاه خاص في التشريع الإسلامي، لان المصادر التي كانوا يعتمدون عليها في هذا التشريع هي القرآن بالتأويلات والتفسيرات التي يختارونها، والتي يتلاءم مع أهدافهم، والسنة برواية الشيعة، وحديث الإمام المعصوم الذي يتلقى الوحي والإلهام، وقد وضعوا نظاما اشتراكيا خاصا يهدف إلى نزع الملكية الكبيرة، وتوزيعها، كما كانت لهم آراء خاصة في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة.
وقد نشا المذهب الشيعي بصفة عامة في أول خلاف على إسناد الخلافة بعد وفاة الرسول عليه السلام، وكان من رأي أنصاره أحقية علي بالخلافة وفي أعقاب خلافة عثمان ظهر هذا المذهب إلى حيز الوجود بعد أن ساعدت عوامل كثيرة على ارساء دعائمه.
ونستطيع أن نلمح من خلال هذه النظرة السريعة على المذهب الاسماعيلي، آثار بعض الديانات والمذاهب التي كانت منتشرة لدى الفرس، مثل الزرادشتية والمزدكية والمانوية وغيرها، ويسود هذا المذهب كثير من التناقض، لأنه مر بمراحل مختلفة في تكوينه، فلم يستقر في أول هذه المراحل على اتجاه معين، كما يسوده الغموض أيضا، لان الأدوار التي مر بها كانت تحتم على الدعاة إليه إحاطته بسياج من الكتمان.
وليس يهمنا أن نتعمق في تحليل مختلف العناصر التي تكون منها هذا المذهب، وإرجاعها إلى مصادرها الأولى التي انحدرت منها، وإنما المهم أن نحاول استجلاء هذه الحقيقة. وهي :
هل كان نجاح الفاطميين في إقامة دولتهم بافريقية الشمالية نتيجة انتشار هذا المذهب، أم أن هناك عوامل أخرى حققت هذا النجاح ؟.
حول بعض المؤرخين بحث هذا الموضوع ولكنهم لم ينفذوا إلى أغواره، ولم يكشفوا مجاهله، فخرجوا بنتائج فجة متهافتة لا يسندها منطق ولا يعززها برهان، وسنعرض هذه النتائج بعد أن نلقي بعض الضوء على الظروف التي عاصرت المذاهب، والنحل التي أخذت تفد من المشرق في الفترة التي تمكن فيها الإسلام من نفوس البربر، لنستشف من خلال أشعته بعض الحقائق التي نرجو أن تقودنا إلى رأي سديد.
بعد صراع مرير تغلغل الإسلام في نفوس البربر، حينما لمست مبادئه شغاف قلوبهم، واختفى ما كان يبدو عليهم من نفور من العرب، وأصبحوا يشعرون شعورا صادقا انه لا فرق بينهم وبين العرب، على الرغم من طموحهم إلى الاستقلال، وتبنى الرسالة التي حملوها إليهم، وهكذا أصبح الإسلام يربط بينهم وبين العرب في المشرق، وأخذت أصداء أحداث المشرق تتردد في مجتمعاتهم، ومن جملة هذه الأحداث حركة الخوارج، فقد رن صداها في مجتمعاتهم وسرعان ما اقبلوا عليها في أواخر القرن الأول للهجرة، وكانت خوارج افريقية الشمالية اباضية وصفرية، ويبدو أن بعض أذكياء البربر كانوا قد اندفعوا إليها لحمل رايه العصيان في وجه حكومتهم، ولكن الباقين كانوا قد اندفعوا إليها لأنها توائم طبائعهم الثورية النزاعة إلى الحرية.
ولم يتبلور المذهب الشيعي عندهم في صورة معتقدات، غير أن ما تناقل إلى أسماع البربر عن النكبات التي حلت بالعلويين من جانب الأمويين والعباسيين، جعلهم يعطفون على العلويين، وقد بدت مظاهر هذا العطف حينما هاجر إدريس العلوي إلى المغرب، اثر نجاته من وقعة فخ، اجل بدت في الحفاوة البالغة التي استقبله بها البربر، وفي موقفهم من مبايعته على الإمارة.
هذا الموقف الكريم يبرهن على أن التشيع للعلويين، كان قد ظهر قبل رحيل داعية الاسماعيليين أبي عبد الله الشيعي إلى افريقية الشمالية، لنشر دعوة الفاطميين، وانه كان مجرد عطف وحب لسلالة فاطمة للأسباب السالفة.
وفي أعقاب الدولتين؛ الأغلبية بتونس، والادريسية بالمغرب، وحل أبو عبد الله الشيعي إلى افريقية الشمالية، وقد استطاع بحذقه ودهائه أن يؤسس فيها دولة الفاطميين أو العبديين، وهنا بحق لنا أن نتساءل : هل انتشر المذهب الاسماعيلي بخطوطه حقيقة بين البربر، وعلى أساسه قامت دولة الفاطميين بافريقية الشمالية ؟ أم أن هذه الدولة قامت على أساس العطف والحب كما رأينا أثناء قيام الدولة الادريسية بالمغرب ؟.
يرى الدكتور حسن إبراهيم في كتابه (الفاطميون في مصر) أن من الغريب، أن أكثر سكان البلاد التي قام فيها الاسماعيليون بنشر مذهبهم لا يزالون متمسكين بعقائد هذا المذهب، إلا سكان بلاد المغرب، حيث لم يبق للاسماعيليين بقية، وقد علل اختفاء هذا المذهب بينهم اعتمادا على رأي للأستاذ ماسينيون : بجهل البربر، وعدم استعدادهم لفهم درجاته المختلفة المندرجة في الصعوبة، كغيرهم من أهالي الأقطار الأخرى، كفارس، ومصر، التي يمتاز أهلها بالحضارة وسمو الفكر، ويرى أيضا أن البربر لم يكن لهم السبيل والاستعداد للأخذ بأهداف الحضارة الإسلامية التي أوجدها الصرب في صدر الإسلام، ولو اخذ البربر بحضارة العرب لكان في ذلك قبول لحضارة الفاتحين.
تلك هي النتائج التي انتهى إليها المؤرخون لتعليل اختفاء المذهب الاسماعيلي في افريقية الشمالية، وتتلخص في جهل البربر وعدم استعدادهم لفهمه وعدم قدرتهم على هضم الحضارة العربية، ولو أننا انسقنا مع الرأي القائل : أن الحضارة عبارة عن الظواهر الثقافية والفنية والمعنوية لحياة المجتمع مع اشتراط عمق هذه الظواهر في أغوار التاريخ-لجردنا العرب من حضارتهم إذ ليست جذورها ممتدة في أعماق الزمن، وإنما استمدوا بعضها من جوهر الإسلام بعد ظهور الرسالة المحمدية، واستمدوا الباقي من الهند وفارس واليونان، بعد أن قطعت الفتوحات الإسلامية شوطا بعيدا في تاريخهم، ولو أننا اتجهنا على المعنى المتعارف للحضارة وإنها من شيمة المجتمع الإنساني، وبها يتميز عن مجتمع الحيوانات، وإنها فضلا عن ذلك مجهود أنساني ضخم تضافرت أجيال الإنسانية على تشييده منذ فجر تاريخ الإنسانية- لو أننا اتجهنا إلى هذا المعنى المتعارف للحضارة، لوجودنا البربر لهم حضارتهم أيضا، على أننا نعلم من تاريخ البربر لنهم لم يهضموا الحضارة العربية وحدها، بل تمثلوا حضارات أخرى قديمة قبل اتصالهم بالعرب، ومن بينها حضارات الفينيقيين والرومان...
ويبدو أن التعليل السليم لإخفاء المذهب الاسماعيلي من افريقية الشمالية، انه كان يحتوي على نظريات اشتراكية متطرفو، ترمي إلى نزع الأملاك الكبيرة من أيدي أصحابها وتوزيعها بالتساوي، ولم يكن للبربر استعداد لتطبيق هذه النظرية، ومن المعروف أن الإقطاعية كانت منتشرة بينهم ومستقرة في بيئتهم.
ويضاف على هذا العامل، أن المذهب الخارجي كان اسبق إلى ظهور بين البربر من المذهب لاسماعيلي، فكان مناهضا له، لأنه كان مذهبا موافقا لأمزجة البربر ونزعاتهم الحرة.
على أن الفاطميين لم يبرعوا في الدعوة لمذهبهم، إلا بعد أن استقرت خلافتهم في مصر، وإذ ذاك سلكوا المناهج العلمية لنشر مذهبهم، فحين شيد الأزهر اتخذوا منه ناديا لنشر دعوتهم بأسلوب علمي منظم...
وقد كان للتصرفات التي كانت تصدر عن الدعاة لهذا المذهب اثر سيء بين البربر، لأنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الناس عليه بالقوة، وبأساليب شتى من الإرهاب والاستبداد، ومما لا شك فيه أن المذاهب والمبادئ لا تنتشر بالإرهاب والقوة، بل بالتبشير والإقناع، وقد كان إرهاب هؤلاء الدعاة منفرا البربر من هذا المذهب، ويروى التاريخ أمثلة كثيرة لهذا الإرهاب، ففي خلال سنة 306 هـ قتل هؤلاء في القيروان (عروسا) المؤذن بعد أن ضربوه بالسياط وقطعوا لسانه، حين علموا انه لم يذكر في أذانه (حي على خير العمل) وهي إحدى شعارات الاسماعيليين.
ثم أن ما كان يبدو على المذهب من تناقض ومخالفة لتعاليم الإسلام التي ألفوها، ومن ادعاء أنصاره أن أمامهم محيط بأسرار المغيبات، كل هذه الأشياء جعلت البربر يتخذون منه ومن دعاته مادة لسخريتهم، فقد وقف يوما (على المروزي) والناس حوله، وقال لأبي عبد الله الشيعي في إحدى مجالس دعوته (لقد لطفت لنا-أصلحك الله- في قطع قيام رمضان، فهلا احتلت لنا في ترك صيامه وكفيتنا مئونته) وقد كتب بعض احداث القيروان هذين البيتين، وتلطفوا في وصولهما إلى عبيد الله المهدي من حيث لا يعلم :
الجور قد رضينا = لا الكفر والحماقة
يا مدعي الغيوب = من كاتب البطاقة
فاشتد ذلك عليه، وبحث سرا عن كاتبه فلم يعثر عليه.
وهكذا نرى أن اختفاء المذهب الاسماعيلي لا يرجع إلى قصور البربر عن الإحاطة بما يحتوي عليه من نظريات متدرجة في الصعوبة، على أننا نجد كثيرا من البربر قد تعمقوا في فهم هذا المذهب، بل وتأثروا به، لعل في الحركات المتكررة التي قام بها مدعو المهدية-وهي إحدى أصول المذهب الشيعي- ما يلقي ضوءا على هذه الحقيقة، ففي مختلف ادوار تاريخ البربر نجد الكثير منهم قد انتحلوا لأنفسهم اسم المهدي المنتظر الذي خرج ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا.
* دعوة الحق
ع/10