أمل الكردفاني (بانياسيس) - تخوم المعنى - قصة قصيرة

- كيف كانت رحلتك إلى البرازيل..اؤكد أنك استمتعت جدا وتخلصت من سوداويتك على نحو مؤقت..اليس كذلك؟
سرح بعيدا وعدسات النظارة الطبية توسعان من حدقتيه:
- والله يا دكتورة إحسان نصيحتك جيدة... لكن النتيجة لم تكن جيدة..
نظرت له بصمت فاضاف:
- إنه شعب فرائحي .. خاصة لمن كان ثريا مثلي ويستطيع تجنب مناطق الفقراء...شعب يفرح بكثرة..يغني دائما..يقيم مهرجانات مبهرة..
قالت:
- هذا جيد.. اليس جيدا؟
ضغط عمامته من الخلف وحركها للأمام فغطت جزءا من جبهته:
- لا ليس جيدا يا دكتورة.. انهم فرحون أكثر مما يمكنني تحمله..ربما لا استطيع شرح ذلك..لكنني كنت ازداد شعورا بالاغتراب وسط ضجيج ابتساماتهم وقهقهاتهم...في الواقع كنت ازداد كآبة...ولم أفهم ذلك الشعور حتى الآن..
نظرت الى الأسفل بحيرة:
- شعور غريب... أنت رجل ثري يا عكاشة..تمتلك معاصر زيت ومطاحن غلال ضخمة...الخ..لكن أعتقد أن بحثك الدؤوب منذ الطفولة عن المال جعلك متمركزا في ذاتك...وذاتك تمركزت في فكرة التملك...ربما لأنك ترى فرحة لا يمكنك تملكها زادت كآبتك وربما كان شعوراً بالاغتراب عن عالم يبدو مختلفا عنك...
- لا أعرف إنها حالة غريبة...
ثم أضاف بالانجليزية:
Case study-
- ليست غريبة جداً فقد قابلتني حالات ربما لا يمكنك تصديقها..في الواقع قابلتني حالة واحدة دفعتني الى تغيير منهج تفكيري..رغم صعوبة أن يفعل الانسان ذلك...
- لو كان الوقت لا يضايقك فأرجوا أن تقصي علي قصتها..
- حسنا... أنت تعلم أن مهنتي كطبيبة نفسية مهنة شيقة وشاقة في نفس الوقت. رغم أنهم يأتونني بعد رحلة طويلة نهايتها الفشل المحتوم مع السحرة والمشعوذين. كانت عيادتي بمنطقة شعبية ، والغرض من ذلك لم يكن بريئاً كل البراءة ، لكن في بداية حياتي العملية ، قررت أن أتحرر من ربقة العمل الوظيفي ، وأن أشرع في أداء عملي الخاص في منطقة يكون استئجار شقة صغيرة فيها ممكنا بأجر قليل.
(لن تنجحي يا إحسان قبل أخذ خبرة كافية)..
أستاذي قال لي ذلك محاولاً تثبيط همتي ، أعرف أنه حسود ، بل وقد تحول حسده إلى حقد حينما أعتذرت له ورفضت الاقتران به. وكطبيبة نفسية من المفترض أن أغوص في أعماق النفس البشرية ، من خلال تصرفاتها المادية ومن خلال أفكارها ، فكل التفاتة وحركة بل وسكون له معناه ، هزُّ القدم له معناه ، الجلوس بتصلب له معناه ، اتساع حدقتي العينين له معناه ، الضحك بصوت عال له معناه ، الانفعال والغضب وتوترات الحبال الصوتية ، كل شيء في هذا الانسان ينبعث من الداخل ، من القعر المظلم والقيعان المشوهة. لكنني سأحكي لك عن حالة غريبة ، حالة لم استطع أن أحكم عليها رغم خبرتي الطويلة ، وشهرتي التي طبقت الآفاق. لقد كان ذلك في يوم الاثنين الساعة الحادية عشر صباحا ..، أتذكر ذلك التاريخ بوضوح بل أتذكر أن باب مكتبي انفتح لتلج منه سيدة طويلة ورشيقة ، سيدة جميلة جدا ، ثلاثينية يتلألأ وجهها ذو البشرة السمراء النقية. كانت ترتدي ثوبا أبيضاً تتوزع عليه زهرات لوز بنية ، شفاهها رقيقة وعيناها واسعتان وناعستان في نفس الوقت ، انحدر من رقبتها الطويلة عقد ذهبي بسيط ومن حيث أعلى الجبهة بانت خصلة شعر سوداء. لم تكن تضع مساحيق تجميل. كانت تحمل حقيبة بنية صغيرة بيمناها ومفاتيح سيارتها بيسراها. تتحرك ببطء وبهاء وتجلس كظل عصفور.
تبادلنا التحية بلطف ثم صمتُّ منتظرة أن تحكي لي عن مشكلتها ، هزت رأسها هزة صغيرة عابرة ونظرت إلى الأفق وقالت:
- ابنتي يا دكتورة...
أهم ما تتعلمه من هذه المهنة هو أن الاهتمام بحديث الآخر هو أول ما يمنحه ثقة الاستمرار . لذلك قلت:
- ماذا بها؟ من أي شيء تعاني؟
قالت:
- لا أعرف يا دكتورة.. لا استطيع أن أشرح شيئا..لكن كل ما يمكنني قوله أن ابنتي لا تستطيع التمييز بي طبائع الأشياء...أنا لست مثقفة لقد تزوجت قبل أن أدخل الى الجامعة..لذلك لا أعرف كيف أشرح لك الأمر على نحو علمي.
- النحو العلمي هو تخصصي فقط اشرحي سلوكها وكلماتها وأفكارها وقبل كل شيء كم عمرها.
دون أن تنظر لي قالت:
- في الثامنة ..يمكنك أن تلتقيها فهي في الخارج.
- حسناً..
تحركت بذات البطء الوقور وفتحت الباب ونادت بصوت خفيض:
- أيثر...تعالي حبيبتي...
رأيت يدها تلتقط كفاً صغيراً ثم لتقود طفلة بشوشة وباسمة المحيا... نهضتُّ ودرت حول مكتبي وانحنيت والتقطت كفها فلم اشعر إلا بعاطفة جياشة نحوها حينها رمقتني بعينين واسعتين وناعستين كعيني أمها وقالت بصوت طفولي عذب:
- شكرا ..
سألتها:
- على أي شيء تشكرينني..
قالت:
- كل الأشياء هنا تشكرك...
لم أفهم شيئا وعدت الى مقعدي ثم نظرت الى أمها في انتظار تفسير.
قالت الأم:
- أيثر تعتقد أن كل الأشياء حية يا دكتورة..
نظرت الىَّ أيثر وسألتها:
- هل الأشياء كلها تشكرني فعلا يا أيثر؟
هزت رأسها مبتسمة بجزل...قلت:
- لماذا مالذي فعلته من أجلها؟
جمعت قبضتيهة الصغيرتين أمام فمها كأنما تحاول التفكير ثم قالت ضاحكة:
- لأنك تعاملينها برقة...
-كيف ذلك...
نظرت الى السقف وقالت:
- تنظفينها .. وتعطرينها ولا تضربينها... انها سعيدة...
- ما هي هذه الأشياء بالتحديد؟..
نزلت من كرسيها وهرولت نحو الجدار وقالت وهي تضحك:
- كل شيء هنا.. الحوائط..الكرسي..الستائر .. الطاولة..المكتب .. المروحة ..
ثم نظرت الى الأرض وغمغمت بصوت خافت:
- السجادة فقط...
سألتها:
- ماذا بها...
أخذت تدور حول نفسها راقصةً وتقول في نفس الوقت:
- السجادة تشتكي من ثقل أقدام رجل سمين..سمييييين...
قالت ذلك وهي ترفع ذراعيها وشفتاها تنبعجان...
حينها تذكرت الساعي الذي ينظف العيادة... فضغطت على زر الجرس ورأيته يدلف .. كان سمينا حقا .. لم الاحظ ذلك إلا الآن...
تقدم الرجل فصرخت الطفلة:
- لا . لا ارجوك ..انها تتألم...
توقف الرجل مبهوتا ..لكن الطفلة صرخت:
- ارجع..ارجع ..ابتعد عنها..ابتعد..لا تقف فوقها هكذا..ارجوك..
ثم انفجرت باكية...فأشرت اليه بالخروج..حينها ولىَّ مذعوراً إلى الخارج ثم عاد وأغلق باب المكتب...
توقفت أيثر عن البكاء .. وسقطت في حجر أمها وهي تنشق بحزن...
طبطبت الأم عليها محاولة تهدأتها...ونظرت نحوي بفزع.
كانت مفاجأة بالنسبة لي.. لم استطع أن أحدد ماذا أصاب هذي الفتاة... هل شيزوفرينيا..هل اضطراب ثنائي القطب... فقد كانت هناك حقيقة ماثلة أمام ناظري..وهي أن الساعي كان سميناً حقاً كما وصفته الفتاة قبل أن تراه...
كان عكاشة يستمع بكامل جوارحه...؛ مقطب الجبين ، وكأنه كان بدوره يحاول إيجاد تفسير لحالة الفتاة..
- هذه الحالة غيرتني تماما يا عكاشة...لقد بدأت انا نفسي أتعامل مع الجمادات وكأنها كائنات حية... عندما يمتلئ المصعد أحاول باستماتة اقناع بعض الصاعدين عليه بالنزول...ليس خوفاً من تجاوز الحمل المطلوب ولكن حتى لا يتألم المصعد من الثقل الزائد..كنت أقضم أطراف أقلام الحبر البلاستيكية ، فتوقفت عن ذلك لأنني بت اشعر بألاقلام تتألم من ذلك العض....
صمتت وظل عكاشة صامتاً لبرهة ثم رفع حاجبيه بتعجب.
- قصة مدهشة...
ران صمت نسبي بينهما ، كانا يتساءلان نفس السؤال.
- وماذا فعلتِ للطفلة؟
سأل بصوت قلق.
- أعدت ثمن الفحص لوالدتها وأخبرتها أن الأمر يتجاوز قدراتي كطبيبة...
- ولم تلتق بها مرة أخرى...؟
- لا واعتقد أن هذا كان أفضل... وقبل أن تسألني لماذا .. أجيبك بأنني لا أتمنى معرفة أن الكرسي الذي أجلس عليه كائنٌ حي أو أن مشدات الصدر كائن حي... حينها سنتعرى تماما ...
ثقبها بنظرة مرتعبة وقال:
- صحيح...
ثم أدخل يده في جيب جلبابه وأخرج كتلة مفاتيح وهو يقول:
- حسناً يا دكتورة... سأذهب الآن إلى عملي.
حينما جلس أمام مقود سيارته أخذ يتنفس بعمق ، كاد أن يغلق باب سيارته بعنف كما هي عادته لكنه وفي منتصف سحبه للباب تريث وأغلقه ببطء..ثم قاد سيارته وتاه في تأملاته حتى وجد نفسه أمام مدخل معصرة الزيت الضخمة.
تحرك الحارس بسرعة وفتح له الأبواب .. فاستقبلته أصوات آلات المكابس الضخمة .. لم يلق التحية على العمال كما هي عادته بل سار حتى دلف إلى جملون المعصرة...كانت الاصوات صاخبة جدا ، حبات السمسم تهتز وتتراقص وهي تزحف نحو الأنبوب المفضي الى المكابس ، ضاقت عيناه حين نما الى سمعه صوت غريب .. صوت تأوهات.. أخذت تتصاعد لتتحول إلى صرخات... كانت كل حبة من حبات السمسم تصرخ وهي تنسحق تحت ضربات المكابس ، تروس المكابس نفسها كانت تصرخ كلما اصطدمت ببعضها ، الزيت وهو ينساب من فوهة الأنابيب كان يصرخ..الأوعية الضخمة التي تستقبله كانت تصرخ... كان كل شيء من حوله يتألم... حاول إغلاق أذنيه لكن الأصوات كانت تنبعث من أعماقه ، تعرق وجهه وجزعت عيناه ، أخذ يصرخ:
- أوقفوا هذه الآلات اللعينة.. أوقفوها فوراً.. اوقفوها...
لم يتبين العمال ماذا يقول فتجمع ثلاثة منهم حوله وشاهدوه وهو يرتجف بعنف ، فأخرجوه وهو لا يزال يصرخ...
- اوقفوا الآلات فورا... أوقفوا هذا الألم...
وفي الخارج تجمهر العمال من حوله وقد أصابهم الارتباك...
قال أحدهم بذعر:
- لقد جُنَّ السيد..
اشمئز آخر وقال بغضب:
- ليس الآن.. لم يتبق على نهاية الشهر سوى بضعة أيام...هكذا ستتأخر أجورنا...
فجأة انتفض عكاشة وأزاحهم عنه وانطلق الى غرفة الكهرباء .. وأخذ يدفع بسكاكين المحولات الكهربية إلى أسفل بكل عنف وجنون...
بعدها توقف كل شيء...
ساد صمت مريب...ظل الجميع صامتين.. مسح عكاشة عينيه من العرق من تحت نظارته...ثم أجهش بالبكاء...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...