رأيتها أثناء عرض المسرحية، وفي رد على إشارة منها، توجهت أثناء فترة الأستراحة أليها، ودعتني لمشاطرتها المقعد. مضى على لقائنا الأول زمن طويل. ولو لم يٌذكر أسمها أمامي، لما تمكنت من التعرف عليها. تحدثت معي بحماس، (( حسناً ، مضت عدة سنوات على لقائنا الأول، أوه ! ما أسرع مرور الوقت. سنوات الشباب تمضي الى غير رجعة. هل تذكر لقائنا الأول ؟ لقد دعوتني لتناول الغذاء؟))
((وكيف لي أن أنساه!؟))، قت في نفسي.
عشرون عاماً مضت وما يزال الحدث محفوراً في ذاكرتي. كنت أسكن وقتذاك في شقة صغيرة تطل على مقبرة في الحي اللاتيني في باريس، وكنت بالكاد أكسب ما يكفي لسد الرمق. كانت قد قرأت أحد كتبي وأرسلت، في خطابها لي، تعليقاً حوله شكرتها عليه وأردفته بأخر تقول فيه أنها ستقضي بعض الوقت في باريس وتود تبادل الحديث معي. ولأن وقتها محدود ، فقد حددت ضيفتي الخميس التالي بوصفه اليوم الأنسب للقائي. قضت ضيفتي فترة الصباح في لوكسمبورغ، ولكن ماذا عن دعوتي لها للغذاء في مطعم فيوتس، ربما؟ هذا المطعم ، حسب علمي يرتاده السيناتورات الفرنسيون لتناول الطعام. وبصراحة ،ولارتفاع كلفة وجباته لم يسبق لي أن فكرت في تناول الطعام فيه. ولكني كنت مزهواً بنفسي وصغير السن على قول ((كلا)) لسيدة ( قلة من الرجال يفعلون ذلك حتى يتقادم بهم العمر، عندئذ لا يعيرون أهمية كبيرة لما يقولونه للسيدات). كانت بحوزتي ثمانين فرنكاً ذهبياً، وهي جل مصروفي لما تبقى من الشهر. وفكرت أن وجبة غذاء متواضعة لن تكلف، حسب ظني، أكثر من خمسين فرنكاً، وسأتدبر الأمر حتماً إن امتنعت عن تناول القهوة خلال الأسبوعين القادمين.
أخبرتها أني سألتقي أحد أصدقائي بالمراسلة في المطعم الساعة الثانية عشر والنصف ظهراً من يوم الخميس. التقينا في الموعد المحدد، إلا أن ضيفتي ، بخلاف توقعاتي ، لم تكن في ريعان الشباب، وكان مظهرها يوحي بالهيبة أكثر منه بالجاذبية!. في واقع الأمر ، كانت ضيفتي تناهز الأربعين من العمر( مرحلة عمريه رائعة ولكنها عاجزة عن أثارة العواطف الجامحة المتوقعة من النظرة الأولى). أما حديثها فدفعني إلى الاعتقاد أن، لديها عدد من الأسنان البيضاء والكبيرة أكثر مما كان ضرورياً للأغراض العملية. لم تكف ضيفتي عن الكلام، إنها حقاً ثرثارة، ولكن بما أنها تميل الى التحدث عني، كنت مستعداً للإصغاء إليها بانتباه.
جلب النادل قائمة الطعام التي ما أن وقعت عيناي على أسعار الوجبات فيها حتى انتابني الشعور بالذهول. فالأسعار مرتفعة جداً ، ولكن ضيفتي طمأنتني قائلة:
((لا أتناول شيئاً في وجبة الغداء)).
((أوه، لا تقولي ذلك))، أجبتها بكرم.
((لا أتناول أكثر من نوع واحد من الطعام. أعتقد أن الناس يفرطون في تناول الطعام هذه الأيام. ربما سأكتفي بسمكة صغيرة. سأرى، هل يتوفر لدى المطعم سمك السالمون؟)).
حسناُ ، كان الوقت مبكراً على توفر السالمون ، فهذا ليس موسمه، ناهيك عن غيابه عن قائمة الطعام. فقلت في نفسي ((لا بأس في سؤال النادل عنه اظهاراً للكرم)).
((نعم ، وصلتنا تواً سمكة سالمون طازجة وشهية. أنها الأولى من نوعها في المطعم)).
((حسناً، أحضرها))، طلبت من النادل الذي سأل ضيفتي عن رغبتها بتناول شيء ما في أثناء انتظارها إعداد السمكة.
((كلا، لا أتناول سوى نوع واحد من الطعام ما لم يتوفر لديكم الكافيير. لا أمانع قط تناول الكافيير))، قالت ضيفتي والابتسامة تعلو وجهها.
غاص قلبي قليلاً. الكافيير باهض الثمن، أدرك تماما عجزي عن دفع كلفته. ولكن ما باليد حيلة، فليس بمقدوري أخبارها بذلك. وبكل امتنان، طلبت من النادل أن يجلب لضيفتي الكافيير. أما أنا فوقع اختياري على الطبق الأرخص في قائمة الطعام: شريحة صغيرة من لحم الضأن المثروم.
((أعتقد أن تناول لحم الضأن غير مناسب لك))، قالت ضيفتي وأردفت: ((لا أدري كيف ستواصل عملك بعد تناول وجبة دسمة كاللحم، لا أحبذ الإفراط في تناول الطعام، هذا غير صحيح)).
ثم، جاء دور اختيار الشراب.
(لا أتناول المشروبات مع وجبة الغداء))، قالت ضيفتي.
((وأنا كذلك))، أجبت بسرعة.
ولكنها أردفت وكأني لم أكن قد تفوهت بكلمة ((باستثناء الخمر الأبيض، هل تعرف! هذا النوع من الخمور خفيف ومفيد جداً وسهل الهضم)).
((ما الشراب الذي تودين تناوله؟))، سألتها وأنا ما زلت أحاول التسلح بكرم الضيافة، ولكن من دون إظهار القدر المتوقع من السرور.
وبابتسامة ودودة ومتأنقة من أسنانها البيضاء الكبيرة، قالت:
((طبيبي منعني من تناول أكثرية المشروبات خلا الشمبانيا)). خال لي حال تناهي هذه الكلمات الى مسامعي أن الشحوب قد اعتلى وجهي قليلاً. طلبت لها نصف قنينة، وبلامبالاة أخبرتها أن طبيبي منعني منعاً باتاً من شرب هذا النوع من الشراب.
((حسناً، ما الشراب الذي ستختاره ؟))
((الماء!))
التهمت ضيفتي الكافيير والسالمون ، وتحدثت بمرح عن الفن والموسيقى بينما استغرقت في التفكير: ((ترى كم سيكون المبلغ في قائمة الحساب؟)).
وصلت شريحة اللحم التي طلبتها، وما أن بدأت تناولها حتى خاطبتني ضيفتي بجدية تامة وهي توسعني توبيخاً:
((أرى أنك متعود على تناول وجبة دسمة. إن هذا خطأ بالتأكيد! لماذا لا تفعل مثلي وتأكل شيئاً واحداً فحسب؟ أنا على يقين أنك ستشعر بتحسن كبير لذلك)).
((سألتزم بنصيحتك وأتناول نوعاً واحداً من الطعام فحسب))، قلت ذلك وأنا أشاهد النادل يتجه مرة أخرى بقائمة الطعام صوب مائدتنا. ولكن، وبحركة رشيقة من يدها قامت ضيفتي بتنحية النادل جانباً وهي تؤكد:
((أوه ، كلا لا أتناول شيئاً في وجبة الغداء. لقمة واحدة تكفي. ليس بي رغبة بتناول المزيد. أما استمراري في تناول الطعام فهو مجرد عذر لمواصلة الحوار. ربما لن أتمكن من تناول المزيد ما لم يتوفر لديكم أسبارجس كبير الحجم. سأشعر بالأسف لمغادرتي باريس دون تذوقه)).
ومرة أخرى، غاص قلبي. كنت قد شاهدت الأسبارجس هذا في واجهات المحلات وعادة ما سال لعابي لرؤيته دون أن أتمكن من تناوله، إذ أنه غالي الثمن.
((المدام تسأل هل يتوفر لديكم الأسبارجس))، سألت النادل ولكني حاولت ، بكل ما أوتيت من قوة أن أوحي له بقول ((كلا!)). ولكنه أكد ، بابتسامة مشرقة علت وجهه العريض الوقور كوجه راهب أن لديهم ’أسبارجس‘ ((كبير الحجم جداً ورائع جداَ ورقيق جداً، وباختصار، أنه مذهل حقاً)).
تنهدت ضيفتي قائلة: ((لست جائعة إطلاقا، ولكن أذا كنت مصراً، فلا مانع من تناول القليل منها)).
طلبت الأسبارجس لها.
((ألن تتناول شيئاً منها؟))
((كلا ، لا أكل الأسبارجس قط)).
((العديد من الأشخاص لا يفضلونه . في الحقيقة أرى أن تناول اللحوم قد أضر بحاسة التذوق لديك)).
تملكني الذعر طوال مدة انتظارنا وصول الأسبارجس. المسألة في تلك اللحظة لم تكن تتعلق بمقدار المبلغ الذي ينبغي لي تركه لما تبقى من أيام الشهر، بل بهل يكفي ما معي من نقود لدفع فاتورة الحساب؟. سأشعر بحرج بالغ إذ ما اكتشفت حاجتي لعشر فرنكات. سأضطر عندها إلى الاستدانة من ضيفتي. لا أكاد أطيق فكرة القيام بذلك. أعرف تماماً مقدار المبلغ الذي بحوزتي، أعرفه سنتاً سنتاً وعقدت العزم أذ ما فاق المبلغ المطلوب قدرتي على دس يدي في جيبي وبحركة دراماتيكية مؤثرة انهض من مكاني مدعياً أن محفظتي سرقت. بالطبع سيكون الموقف محرجاً تماماً لو لم يكن لدى ضيفتي ما يكفي لدفع بقية الحساب. عندئذ ، وكخيار وحيد أمامي سأترك ساعتي رهينة وأخبر أصحاب المطعم أني سأعود لاحقاً لاستردادها، بالطبع بعد دفع بقية الحساب.
وأخيراً ها هي قطعة الأسبارجس. كانت كبيرة الحجم وطازجة وشهية، يسيل اللعاب لمرآها. رائحة الزبدة المذابة عليها دغدغت خياشيم أنفي تماماً كما دغدغت القرابين المحروقة للساميين الفضلاء خياشيم يهوه الرب. راقبت المرأة الخبيثة وقطع الأسبارجس الشهية تتدافع متتالية في فمها. وبأدب جم تحدثت معها عن أوضاع الدراما في منطقة البلقان . وها هي الأن تنتهي من تناول وجبة الغداء.
((قهوة؟))، سألت ضيفتي.
((نعم، أيس كريم وقهوة من فضلك))، أجابت.
لم أعد أبالي ، ولذا طلبت لنفسي القهوة ولها ما أرادت.
((أتعلم، هناك أمر واحد أومن به تماماً))، قالت ذلك وهي تتناول الأيس كريم ((ينبغي على المرء دوماً اختيار اللحظة المناسبة للكف عن تناول الطعام . ينبغي أن يكف وهو يشعر بقدرته على تناول المزيد).
عندها سألتها بوهن ((هل ما زلت جائعة؟))
((أوه، كلا ، لست جائعة، ها أنت ترى ،أنا لا أتناول الغداء، بل نوع واحد من الطعام فحسب. أنا أتحدث عنك)).
((أوه ، حسناً، أدرك ما تعنين)).
ولكن ما هي آلا بضع لحظات حتى حدث أمر رهيب! أذ وبينما نحن في انتظار القهوة، جاء رئيس الخدم ، بابتسامة عريضة متملقة ارتسمت على وجهه المخادع وهو يحمل سلة كبيرة مزدانة بثمر الخوخ كبير الحجم. نظرت الى ثمر الخوخ الشهي وقلت في نفسي ((ما أشبه احمراره بخدود فتاة خجلة بريئة وما أروع منظره الذي بز بجماله جمال المناظر الطبيعية في إيطاليا. ولكن هذا ليس موسم الخوخ حسب علمي! الله وحده يعلم كم سيكلفني ذلك . بيد أن انتظاري لم يطل، إذ تناولت ضيفتي التي واصلت حديثها، وبشكل عفوي تماماً، ثمرة خوخ كانت تتربع بيدها.
((حسناً، هل أدركت الأن ،لقد أتخمت معدتك باللحم))– أه، قطعة اللحم الصغيرة البائسة الوحيدة التي تناولتها- ولذا لن يكون بمقدورك تناول المزيد. أما أنا فاكتفيت بتناول وجبة خفيفة جداً وها أنا أستمتع بتناول الخوخ اللذيذ.
أخيراً جاء النادل بفاتورة الحساب ، فدفعتها وأعطيت النادل بقشيشاً متواضعاً هو كل ما تبقى لدي. استقرت عينا ضيفتي للحظة على الفرنكات الثلاث التي أعطيتها للنادل وهي كما أظن تحدث نفسها عن بخلي. خرجت من المطعم وأنا خالي الوفاض ليس في جيبي فلساً واحداً لما تبقى من أيام الشهر التي امتدت بطولها أمامي.
((أفعل مثلي))، قالت وأنا أصافحها: ((لا تأكل أكثر من نوع واحد من الطعام في الغداء)).
(سأفعل ما هو أفضل من ذلك! لن أتناول العشاء هذه الليلة)).
(فكاهي!))، علقت ضيفتي بمرح وهي تستقل سيارة الأجرة، ((أنت خفيف الظل فعلاً)).
وها أنا أخيراً أحظى بفرصة للانتقام .لا أظن أني حقود أو لئيم. فليس بقدرة المرء آلا أن يراقب ما سوف يسفر عنه تدخل الآلهة العظام في أمورنا. ولقد فعلت ذلك عن طيب خاطر. إنها تزن اليوم مائة وعشرين كيلو غراماً!
((وكيف لي أن أنساه!؟))، قت في نفسي.
عشرون عاماً مضت وما يزال الحدث محفوراً في ذاكرتي. كنت أسكن وقتذاك في شقة صغيرة تطل على مقبرة في الحي اللاتيني في باريس، وكنت بالكاد أكسب ما يكفي لسد الرمق. كانت قد قرأت أحد كتبي وأرسلت، في خطابها لي، تعليقاً حوله شكرتها عليه وأردفته بأخر تقول فيه أنها ستقضي بعض الوقت في باريس وتود تبادل الحديث معي. ولأن وقتها محدود ، فقد حددت ضيفتي الخميس التالي بوصفه اليوم الأنسب للقائي. قضت ضيفتي فترة الصباح في لوكسمبورغ، ولكن ماذا عن دعوتي لها للغذاء في مطعم فيوتس، ربما؟ هذا المطعم ، حسب علمي يرتاده السيناتورات الفرنسيون لتناول الطعام. وبصراحة ،ولارتفاع كلفة وجباته لم يسبق لي أن فكرت في تناول الطعام فيه. ولكني كنت مزهواً بنفسي وصغير السن على قول ((كلا)) لسيدة ( قلة من الرجال يفعلون ذلك حتى يتقادم بهم العمر، عندئذ لا يعيرون أهمية كبيرة لما يقولونه للسيدات). كانت بحوزتي ثمانين فرنكاً ذهبياً، وهي جل مصروفي لما تبقى من الشهر. وفكرت أن وجبة غذاء متواضعة لن تكلف، حسب ظني، أكثر من خمسين فرنكاً، وسأتدبر الأمر حتماً إن امتنعت عن تناول القهوة خلال الأسبوعين القادمين.
أخبرتها أني سألتقي أحد أصدقائي بالمراسلة في المطعم الساعة الثانية عشر والنصف ظهراً من يوم الخميس. التقينا في الموعد المحدد، إلا أن ضيفتي ، بخلاف توقعاتي ، لم تكن في ريعان الشباب، وكان مظهرها يوحي بالهيبة أكثر منه بالجاذبية!. في واقع الأمر ، كانت ضيفتي تناهز الأربعين من العمر( مرحلة عمريه رائعة ولكنها عاجزة عن أثارة العواطف الجامحة المتوقعة من النظرة الأولى). أما حديثها فدفعني إلى الاعتقاد أن، لديها عدد من الأسنان البيضاء والكبيرة أكثر مما كان ضرورياً للأغراض العملية. لم تكف ضيفتي عن الكلام، إنها حقاً ثرثارة، ولكن بما أنها تميل الى التحدث عني، كنت مستعداً للإصغاء إليها بانتباه.
جلب النادل قائمة الطعام التي ما أن وقعت عيناي على أسعار الوجبات فيها حتى انتابني الشعور بالذهول. فالأسعار مرتفعة جداً ، ولكن ضيفتي طمأنتني قائلة:
((لا أتناول شيئاً في وجبة الغداء)).
((أوه، لا تقولي ذلك))، أجبتها بكرم.
((لا أتناول أكثر من نوع واحد من الطعام. أعتقد أن الناس يفرطون في تناول الطعام هذه الأيام. ربما سأكتفي بسمكة صغيرة. سأرى، هل يتوفر لدى المطعم سمك السالمون؟)).
حسناُ ، كان الوقت مبكراً على توفر السالمون ، فهذا ليس موسمه، ناهيك عن غيابه عن قائمة الطعام. فقلت في نفسي ((لا بأس في سؤال النادل عنه اظهاراً للكرم)).
((نعم ، وصلتنا تواً سمكة سالمون طازجة وشهية. أنها الأولى من نوعها في المطعم)).
((حسناً، أحضرها))، طلبت من النادل الذي سأل ضيفتي عن رغبتها بتناول شيء ما في أثناء انتظارها إعداد السمكة.
((كلا، لا أتناول سوى نوع واحد من الطعام ما لم يتوفر لديكم الكافيير. لا أمانع قط تناول الكافيير))، قالت ضيفتي والابتسامة تعلو وجهها.
غاص قلبي قليلاً. الكافيير باهض الثمن، أدرك تماما عجزي عن دفع كلفته. ولكن ما باليد حيلة، فليس بمقدوري أخبارها بذلك. وبكل امتنان، طلبت من النادل أن يجلب لضيفتي الكافيير. أما أنا فوقع اختياري على الطبق الأرخص في قائمة الطعام: شريحة صغيرة من لحم الضأن المثروم.
((أعتقد أن تناول لحم الضأن غير مناسب لك))، قالت ضيفتي وأردفت: ((لا أدري كيف ستواصل عملك بعد تناول وجبة دسمة كاللحم، لا أحبذ الإفراط في تناول الطعام، هذا غير صحيح)).
ثم، جاء دور اختيار الشراب.
(لا أتناول المشروبات مع وجبة الغداء))، قالت ضيفتي.
((وأنا كذلك))، أجبت بسرعة.
ولكنها أردفت وكأني لم أكن قد تفوهت بكلمة ((باستثناء الخمر الأبيض، هل تعرف! هذا النوع من الخمور خفيف ومفيد جداً وسهل الهضم)).
((ما الشراب الذي تودين تناوله؟))، سألتها وأنا ما زلت أحاول التسلح بكرم الضيافة، ولكن من دون إظهار القدر المتوقع من السرور.
وبابتسامة ودودة ومتأنقة من أسنانها البيضاء الكبيرة، قالت:
((طبيبي منعني من تناول أكثرية المشروبات خلا الشمبانيا)). خال لي حال تناهي هذه الكلمات الى مسامعي أن الشحوب قد اعتلى وجهي قليلاً. طلبت لها نصف قنينة، وبلامبالاة أخبرتها أن طبيبي منعني منعاً باتاً من شرب هذا النوع من الشراب.
((حسناً، ما الشراب الذي ستختاره ؟))
((الماء!))
التهمت ضيفتي الكافيير والسالمون ، وتحدثت بمرح عن الفن والموسيقى بينما استغرقت في التفكير: ((ترى كم سيكون المبلغ في قائمة الحساب؟)).
وصلت شريحة اللحم التي طلبتها، وما أن بدأت تناولها حتى خاطبتني ضيفتي بجدية تامة وهي توسعني توبيخاً:
((أرى أنك متعود على تناول وجبة دسمة. إن هذا خطأ بالتأكيد! لماذا لا تفعل مثلي وتأكل شيئاً واحداً فحسب؟ أنا على يقين أنك ستشعر بتحسن كبير لذلك)).
((سألتزم بنصيحتك وأتناول نوعاً واحداً من الطعام فحسب))، قلت ذلك وأنا أشاهد النادل يتجه مرة أخرى بقائمة الطعام صوب مائدتنا. ولكن، وبحركة رشيقة من يدها قامت ضيفتي بتنحية النادل جانباً وهي تؤكد:
((أوه ، كلا لا أتناول شيئاً في وجبة الغداء. لقمة واحدة تكفي. ليس بي رغبة بتناول المزيد. أما استمراري في تناول الطعام فهو مجرد عذر لمواصلة الحوار. ربما لن أتمكن من تناول المزيد ما لم يتوفر لديكم أسبارجس كبير الحجم. سأشعر بالأسف لمغادرتي باريس دون تذوقه)).
ومرة أخرى، غاص قلبي. كنت قد شاهدت الأسبارجس هذا في واجهات المحلات وعادة ما سال لعابي لرؤيته دون أن أتمكن من تناوله، إذ أنه غالي الثمن.
((المدام تسأل هل يتوفر لديكم الأسبارجس))، سألت النادل ولكني حاولت ، بكل ما أوتيت من قوة أن أوحي له بقول ((كلا!)). ولكنه أكد ، بابتسامة مشرقة علت وجهه العريض الوقور كوجه راهب أن لديهم ’أسبارجس‘ ((كبير الحجم جداً ورائع جداَ ورقيق جداً، وباختصار، أنه مذهل حقاً)).
تنهدت ضيفتي قائلة: ((لست جائعة إطلاقا، ولكن أذا كنت مصراً، فلا مانع من تناول القليل منها)).
طلبت الأسبارجس لها.
((ألن تتناول شيئاً منها؟))
((كلا ، لا أكل الأسبارجس قط)).
((العديد من الأشخاص لا يفضلونه . في الحقيقة أرى أن تناول اللحوم قد أضر بحاسة التذوق لديك)).
تملكني الذعر طوال مدة انتظارنا وصول الأسبارجس. المسألة في تلك اللحظة لم تكن تتعلق بمقدار المبلغ الذي ينبغي لي تركه لما تبقى من أيام الشهر، بل بهل يكفي ما معي من نقود لدفع فاتورة الحساب؟. سأشعر بحرج بالغ إذ ما اكتشفت حاجتي لعشر فرنكات. سأضطر عندها إلى الاستدانة من ضيفتي. لا أكاد أطيق فكرة القيام بذلك. أعرف تماماً مقدار المبلغ الذي بحوزتي، أعرفه سنتاً سنتاً وعقدت العزم أذ ما فاق المبلغ المطلوب قدرتي على دس يدي في جيبي وبحركة دراماتيكية مؤثرة انهض من مكاني مدعياً أن محفظتي سرقت. بالطبع سيكون الموقف محرجاً تماماً لو لم يكن لدى ضيفتي ما يكفي لدفع بقية الحساب. عندئذ ، وكخيار وحيد أمامي سأترك ساعتي رهينة وأخبر أصحاب المطعم أني سأعود لاحقاً لاستردادها، بالطبع بعد دفع بقية الحساب.
وأخيراً ها هي قطعة الأسبارجس. كانت كبيرة الحجم وطازجة وشهية، يسيل اللعاب لمرآها. رائحة الزبدة المذابة عليها دغدغت خياشيم أنفي تماماً كما دغدغت القرابين المحروقة للساميين الفضلاء خياشيم يهوه الرب. راقبت المرأة الخبيثة وقطع الأسبارجس الشهية تتدافع متتالية في فمها. وبأدب جم تحدثت معها عن أوضاع الدراما في منطقة البلقان . وها هي الأن تنتهي من تناول وجبة الغداء.
((قهوة؟))، سألت ضيفتي.
((نعم، أيس كريم وقهوة من فضلك))، أجابت.
لم أعد أبالي ، ولذا طلبت لنفسي القهوة ولها ما أرادت.
((أتعلم، هناك أمر واحد أومن به تماماً))، قالت ذلك وهي تتناول الأيس كريم ((ينبغي على المرء دوماً اختيار اللحظة المناسبة للكف عن تناول الطعام . ينبغي أن يكف وهو يشعر بقدرته على تناول المزيد).
عندها سألتها بوهن ((هل ما زلت جائعة؟))
((أوه، كلا ، لست جائعة، ها أنت ترى ،أنا لا أتناول الغداء، بل نوع واحد من الطعام فحسب. أنا أتحدث عنك)).
((أوه ، حسناً، أدرك ما تعنين)).
ولكن ما هي آلا بضع لحظات حتى حدث أمر رهيب! أذ وبينما نحن في انتظار القهوة، جاء رئيس الخدم ، بابتسامة عريضة متملقة ارتسمت على وجهه المخادع وهو يحمل سلة كبيرة مزدانة بثمر الخوخ كبير الحجم. نظرت الى ثمر الخوخ الشهي وقلت في نفسي ((ما أشبه احمراره بخدود فتاة خجلة بريئة وما أروع منظره الذي بز بجماله جمال المناظر الطبيعية في إيطاليا. ولكن هذا ليس موسم الخوخ حسب علمي! الله وحده يعلم كم سيكلفني ذلك . بيد أن انتظاري لم يطل، إذ تناولت ضيفتي التي واصلت حديثها، وبشكل عفوي تماماً، ثمرة خوخ كانت تتربع بيدها.
((حسناً، هل أدركت الأن ،لقد أتخمت معدتك باللحم))– أه، قطعة اللحم الصغيرة البائسة الوحيدة التي تناولتها- ولذا لن يكون بمقدورك تناول المزيد. أما أنا فاكتفيت بتناول وجبة خفيفة جداً وها أنا أستمتع بتناول الخوخ اللذيذ.
أخيراً جاء النادل بفاتورة الحساب ، فدفعتها وأعطيت النادل بقشيشاً متواضعاً هو كل ما تبقى لدي. استقرت عينا ضيفتي للحظة على الفرنكات الثلاث التي أعطيتها للنادل وهي كما أظن تحدث نفسها عن بخلي. خرجت من المطعم وأنا خالي الوفاض ليس في جيبي فلساً واحداً لما تبقى من أيام الشهر التي امتدت بطولها أمامي.
((أفعل مثلي))، قالت وأنا أصافحها: ((لا تأكل أكثر من نوع واحد من الطعام في الغداء)).
(سأفعل ما هو أفضل من ذلك! لن أتناول العشاء هذه الليلة)).
(فكاهي!))، علقت ضيفتي بمرح وهي تستقل سيارة الأجرة، ((أنت خفيف الظل فعلاً)).
وها أنا أخيراً أحظى بفرصة للانتقام .لا أظن أني حقود أو لئيم. فليس بقدرة المرء آلا أن يراقب ما سوف يسفر عنه تدخل الآلهة العظام في أمورنا. ولقد فعلت ذلك عن طيب خاطر. إنها تزن اليوم مائة وعشرين كيلو غراماً!