فنّ القصّة القصيرة جدًّا من الفنون السّردية، التي يحاول كاتبها تقديم نصٍّ سرديٍّ مكتنزٍ بعدد قليل من الأسطر وبشكل دلالي مكثّف، من خلال توظيفه لعناصر القصّ، من شخصيّات وأحداث وحبكة ضمن زمان ومكان محدّدين، تثير لدى القارئ تأويلات تتمثّل في اكتشاف الذّات والوعي بالآخر؛ حيث يحاول الكاتب إبرازها بوعي ليعيش المتلقي حالة الشّخصيّة الواردة في القصّة، ليختبر شعوره ويعيش حالته النفسيّة،...
ومن بين كتّابها الكاتبة اللبنانية المتألقة نهى الموسوي والتي تحاول في قصصها توظيف تكنيك خاصّ في الشّكل والبناء، لما تمتاز به من مهارة في سبك اللغة واختزال الحدث المروي بأقل ما يمكن من الجمل المعبّرة عن الموضوع، كي تثير الإدهاش والرّوعة الفنيّة لدى المتلقي ...
منذ الوهلة الأولى تثير عنونة قصصها الرّغبة في اقتحام أغوار نصوصها القصصيّة والولوج في أعماقها كما في ( طفلة في قعر النّار، برقه كاذب... ، خيـــوط النعاس.. ، غرباء في أعياد المدينة ، حلم طفلة، غفوة الجسد ، طريق ذات عودة ، في الأرض القاحلة لا تخصب النبوءات، ساكنة في لاوعيه ، ...)
إذ يمكن للمتلقي أن يتكشف وجود الآخر وعلاقته بالذّات بدءً من العتبة الاولى (العنوان ) ومن ثمّ عبر مداخل بنيويّة جماليّة تشكّل في مجملها البنية الفنية العامّة كاختيار الرّاوي/ السارد وطبيعة بناء الحدث القصصي، ومن ثم تشكيل المكان والشخصيّات وبشكل ضمني.
فقد اختارت القاصّة نهى عناوين قصصها بدقّة وحمّلتها دلالت كاشفة تظهر مدى اهتمام القاصة بقضية الذات في علاقتها بالآخر ( الرجل ) ، حيث تحاول تحديد الفكرة أولًا ومن ثمّ تقوم بمعالجتها "من خلال أحداث مركّزة تتدفّق عبر جمل سرديّة معيّنة ، ضمن قالب زمني متسلسل .
وما يؤهلها للخوض في تجربتها هذه هو ما تملكه من مخزون إجتماعي ولغة تمتلك انزياحاتها التأويليّة، لاعتمادها في أكثر الأحيان على لغة شعريّة تؤهلها المحافظة على توازن البناء السّردي في القصة.
فهذه الانزياحات هي التي قادتها للتّأويل عن الدلالة للواقع الحقيقي الذي تعيشه . فنجحت في اقتناص اللّحظات الومضيّة العابرة قبل تلاشيها، لتثبتها في مخيلة القارئ نصًّا مكثّفًا بشاعريّة تكشف عن إشعاعها الدّلالي في أكثر من اتّجاه .
ففي قصتها (طفلة في قعر النّار ) تستخدم جملًا ذات تكثيف عالٍ من خلال استخدامها مشاهد صوريّة جميلة كقولها ( كانت تبادل الزّهرة أول الغرام، وتغازل ضلع الفجر لهفة لهفة، و ترسم من مهرجان الأطفال ظلّاً ... ) هنا تبني المقطع السّردي على سيل من الجمل السردية المتوالية والمتعاقبة والتي تساهم في تحبيك قصّتها لتصل الى البؤرة فتقول ( حاولت أن تكون في دفتر الزمان أنثى عشق .. فخانتها العتمة بين مقدّس وعيب...وطالبوها أن تواري سوءتها... فأسقطوها طفلة في قعر النّار ) ومن ثم تفصح الكاتبة عن النهاية المأساوية لبطلتها بسبب الواقع الإجتماعي المؤلم الذي يفرضه المجتمع على المرأة من خلال تقرير مصيرها ( وزوّجوها لتابوت أزلي...حتى صارت ثوباً عتيقاً مشنوقاً على مجزرة التقاليد )
نجد الكاتبة في قصّتها هذه وغيرها من القصص القصيرة جدًّا ارتكزت في البداية على صيغة الأفعال المضارعة ( تتبادل ، تغازل ، ترسم ) تمنح قصتها بعدًا حركيًّا فيه حيوية وقوة. ومن ثم تعود لأستخدام الفعل الماضي (حاولت ، خانتها ، طالبوها ، أسقطوها ) لتوحي لنا بإفرازات الماضي المُثقل بالعادات والتّقاليد ومحاولتها للتّخلص من ثقله ممّا يجذب القارئ كونه يشعر وكأنه يعيش حكاية ماثلة أمامه. فالأفعال المضارعة تمنح القصّة الحركة والزمن والأفعال الماضية تكشف عن التركة الثقيلة التي تركتها العادات على كاهل المرأة.
إلا أنّها في قصّتها خيـــوط النّعاس .. والتي تقول فيها ( على مصطبة أودعت أنوثتها عشرين عاماً...فذبلت أوراقها في قبو الغياب...وطوت صفحات في أقباء النسيان.... هبّت ريح نثرت عطررجل ...هزّها صهيل الشوق ...وسحب خيـــوط النعاس.. وأعاد لجســـدها نسغ الحياة ) تعيش في زمن الماضي وحده، لتفرز لنا ثقل تركاته على المرأة، وتدعونا للتّمرد عليه لنعيش حاضرنا .
وفي قصتها (دعاء ) أستخدمت عدد كبير من الأفعال بصيغ متنوعة ماضٍ ومضارع ونهي وأمر (...فاح دعاء ...فتنشقت بخورًا يدعوها...لا تخافي ... افتحي هذه النّافذة ...قالت أخاف من صدأ الإفريز ...ردّد الصوت افتحي ...فكي القيود وابحثي عن طاقة نور...واستسلمي ...لترانيمِ العشق...) لتعطي لقصتها ديمومة ومحاكاة للواقع بشكل مباشر. حيث استعانت القاصة بالقلق التي تعيشه والصراع الذي يلازمها بين البقاء على الماضي أو الأنتقال الى حاضر لا بد من تغييره، لتوضيح رؤيتها للحياة ، والانتصار لها.
إنها تسعى في قصصها تلك، تحقيق قدر من المتعة الفنيّة عن طريق انكشاف الذّات والتي هي في الوقت نفسه "أنا" القاريء التي تشتاق دومًا إلى التّعرّف على لحظات القلق ومواقف التّحدي التي يتعرّض لها الآخر ( المرأة ) في مجتمعاتنا الشّرقيّة التي تواجه أزمة إنسانيّة ، لا تستطيع المرأة التّصدّي لها بسبب العادات والتّقاليد، مما يؤدي بالأنثى تذبل أوراقها في سن متقدم من مسيرتها لذا ختمت قصّتها بما يتوافق مع نظرة مجتمعها ، فيجب أن تصادر من قبل رجل كي يعيد لأوراقها الحياة .
وقصّتها ( برقه كاذب ...) تتميّز بالبنية السّرديّة ..كونها تنطوي على مكوناتها التي تنحصر في راو يقصّ لنا الحكاية (رجل يتكيء على ذراعه، تجرُّه شهوة سحرها... يسألها : من أنتِ؟ تردّ: أنا الطالعة من أغوار اهملها الطلاء ... الملاصقة لميتات الوحدة... المتيممة برهيف القصيدة ...) وحدَثْ (هذا الأمل برقه كاذب... تخرج صبية من أصداف الماء......ضباب يزوغل عينيها.. تشدّ وتر المسافات...) وشخصية زمكانية مع ضربة مفاجئة في نهايتها تكشف عن عملية أغتيالها وما تعقبه من مأساة ... (... ويغتال ثغرها حتى أصبح الياسمين في الضلع أنين... وتلاشى في الضباب بعد أن خذلَ أحلام قصيدتها... ومضت كمأة تنتظر رجفة البرق..) وبهذه المقوّمات تشكّل لديها نصًّا متحرّكًا يعتمد على لغة شعريّة تتطلّب موهبة ومخزونًا معرفيًّا وخيالًا ابداعيًّا خصبا.
ونظرا لدخول الحكاية كمكوّن أساسي في بناء القصة السردية، فإن الحوار يأخذ حيّزا مهمًّا في قصصها ، وبشكل مكثف وقصير كي لا يضعف الفعل القصصي لديها ، وهو الذي يولد الحركة والحيوية في النص لذا نجد القاصة تركز كثيرا على الحكاية والتي هي من المقومات الأساسية في فن القصة وبأسلوبٍ شيّقٍ غير مملٍّ من خلال مشاهد حواريّة منحت القصة الحركة والحيويّة والواقعيّة وبشكل مكثف وأحيانا يكون السبب في ظم هذه القصص الى فن القصة القصيرة لوجود أسهاب في الحكاية كما في قصتها (عتاب ) :
(...نظر اليها قال لها :ما أشدّ الوجع الذي يحتاج إلى جرعة كبيرة من فقدان الشعور كي يواجه الحقيقة ...! نظرت اليه بشفقة...وبقيت صامتة سقطت ورقته وكان علينا أن نتكلم ... )
إلا أن الحوار هنا كان عنصرًا إيجابيًّا في تصوير الصراع العاطفي و الحالة النّفسيّة التي تكشف عن معاناة الإنسان كنتيجة لاتخاذه قرارًا متسرّعًا فيعيش في دوّامة الصراع.
( ... تدفّق بطيء مكتسح بالخوف والقلق... في داخله وجعان : :وجع يُسكّنه الدّواء ،و وجع مكتسح بالنّدم ...) كي يعود الى نقطة ما قبل الفراق ... فيختلط الندم بالرغبة والكبرياء ( وحدي رأيت الحواس تتّجه نحوي في نزق خبييء . وقميصه يرتعش على أغصان الرّجاء ... في هذه الكأس الدّاكنة ،أودية ماؤها يهتف للجسد أمطرني توبة ،أخاف من عتمة الأسئلة ... ) قصص كهذه هي صورة للعديد من الحالات التي تحدث في يومنا كنتيجة للتسرع في الحكم على الآخر ....
إلا اني أرى أنّ هذا النصّ ، تنقصه ضربة مفاجئة في نهايته يكشف لنا عن حدث ومضويٍّ مكتمل، يشير ولا يصرح... حتى يصير النص قصة قصيرة جدًّا، وصدمة النهاية هي من أبرز ما تمتاز به القصة القصيرة جدّا.
فالقصّة القصيرة جداً لا تستغني عن الحدث ولكنّها تحيل إليه، ولا تتخلّص من الشّخصيّة ولكنّها قد ترمز إليها، ولا تستبعد الزمن ولكنّها قد تضمره ، فبلاغة القصّة القصيرة جداً هي التّكثيف ووسيلتها في ذلك اللغة.
وهكذا في قصتها (في الأرض القاحلة لا تخصب النبوءات) والتي تعالج فيها من خلال سيل من الجمل السردية المفهوم الخاطئ للتدين والذي يكون السبب في صراعاتنا ومآسينا وبطريقة ذكية تقول (... أنصب عمود الدين الملفوف بالميزان... سقط الفتى ... صاحت العجوز الثرثارة بالعة المحكمة وآكلة خبز القربان يحيا الدين... انحنى الإله اعتذراً وقال في الأرض القاحلة لا تخصب النبوءات إنه رعد القرون المتآكلة ) وهذه أيضا تعتبر من القصص القصيرة ...
أما فيما يخص البناء الشكلي لقصصها القصيرة جدا نجد نصوصها القصيرة تبنى على مرتكزات رئيسية مهمة تميزها عن القصة الطويلة والمتوسطة الطول، وذلك من خلال براعة القاصة في الإختزال والتّكثيف في الحدث السّردي من خلال الاكتفاء بأقلّ ما يمكن من الشّخصيّات، وزمكانيّة مقننة، إذ أنها تقفز مباشرة الى الحدث المركزي بعد عرضها لمشاهد قصيرة يوفّرها لها ذلك المركز لخلق أجواء القصة. إذ أنها تعتمد على حبكة بسيطة في فضاء زمكاني مختزل .
فنصوصها القصصية تكون غنيّة بإشراقات تسلّط الضّوء على دلالات الحدث ، فإنّه بطبيعة تشكّله الفنّي يُثبِت في طبيعة تكشف الذات أمام نفسها وإنبهارها لترينا ما غرسته العادات البالية في مجتمعاتنا الشّرقية والتي جعلت من الرجل سيدا على المرأة ...
القاصة نهى الموسوي تكتب بأسلوب أدبيّ شيّق، تصوّر فيه إحباطات الإنسان وهمومه الكثيرة، وأفراحه الصغيرة، لتدعونا من خلال نصوصها القصصية والتي تزهو بفنيّتها وقدرتها على التّعبير السردي المحمّل بحوارات مكتملة وموجزة . للتّضامن مع همّ الإنسان و صراعه مع قيود زمنه ...
إنّ الكاتبة كغيرها من النّساء لا تزال في بحثها المستمر عن أناها التي ضاعت مع حلمها المفقود .... عن ذاتها المتشظية والتي تمثّل ذاتّ كلّ إمرأةٍ شرقيّة، وهي تسعى بجديّة الى فهم كنّه حياتِها الممزّقة، لذا تراها تتأرجح بين الوهم الحلمي والحقيقة الواقعيّة. وهذا ما تجسّده قصتها (حلم طفلة ) :
( ...! طفلة خرجت من بين الرّكام ...تلملم يسير أمانيها من تحت الأحقاد...تهرب خائفة تدمدم ... )
القاصة تنطلق من رؤية خاصة للعالم قائمة على الرؤية الحلمية، والتي ترتكز بدورها على الهروب من عالم الواقع والحقيقة الزائفة (وإذا سألت ربي فهو يهدين...) إلى عالم الأحلام المثالية للتلذذ بالسعادة المنشودة عبر فعل التخييل البلاغي، والإسترسال السردي (...تركض وتجمع أكوام الحطب ومن بين الرّكام تلمح زهرة ...فتقطفها وتهرب...وتضعها في معبد ...على ضريح الطفل المظلوم ...) وتقوم ببناء عالمها الوهمي من خلال (...تتذكر جدّتها وقصص ندور البخور وأغنية فيروز ...) فتقيم تصوراتها على أنقاض مأساوية الواقع المترنح بالكآبة واليأس والملل والسأم القاتل (... وكبرت الطفلة وما زال المشهد لون دم طري وما زالت الطفلة تبحث عن ولي جديد يعيد لأطفال وطنها مواويل شجر الدفلى والطيّون ...)
وهكذا في قصص أخرى حيث تنتقل الكاتبة من ذاتها الأنويّة البؤريّة إلى الرؤية الفجائعيّة السّوداويّة عبر رصد مشاكل المرأة تشخيصَا وإنتقادًا لمجتمعها الذي لا يزال الآخر يطاردها بسيل من أسئلته ( أين كنت ؟ ماذا كنت تفعلين و؟؟؟) وكما في قصتها (حكاية غاليانو ) وهي قصة ربما حقيقية فكانت معالجتها بطريقة ذكيّة وسريعة كالبرق الذي يأتي من السّماء ويصيب الهدف بدقة (أنتِ ؟! “نعم !!! أين كنت طيلة هذه الايّام؟ فتجيبه: في الظل الساكن في لا وعيك وهو يجلد جثامين عمرك بالنسيان )
ومن خلال كل ذلك توجه القارئ للثورة على هذا الواقع المأساوي والذي يدفع ثمنه لا المرأة وحدها بل حتى الطفل مما يدعوها الى دق ناقوس الخطر في قصتها الجميلة جداً (بندقية) :
( في تلك البلاد المفتوحة على كل الرياح الهوجاء ، والعدو أكوام أحقاد باردة ، قدم الوالد لابنه في عيد ميلاده دراجة ... رمى الهدية ، كان ينتظر بندقيّة.... ربت الوالد على كتف صغيره وابتسم مقبّلًا جبينه، ومضى مستشهدًا ...غطى رأسه النّازف بالعلم.... ومضى .. وعلى حافة العاشرة ...وفي زحمة الوطن الضائع ... قدّم له الوطن كومة خيبات وبندقية كبيرة ) إنه تصوير رائع لمستقبل الطفولة في عالم الصناعات الحربيّة والحروب التّدميريّة .
وهكذا في قصتيها (حوافر خيول غريبة، و كش ملك! ) حيث تعالج فيه الواقع المأساوي لما آلت عليه السياسة من انتاج دكتاتوريّات وقادة ينتهكون الأعراف الإنسانيّة فكانت معالجاتها ذكيّة. وختمتها بنهاية معبّرة، كما في قصّتها (كش ملك!) التي أنهتها بلوحة جميلة (وعندما اطمأنت أن لا أحد يراقبها قالت له: "إنّها عيون الطّيور الّتي أحضرتُها لك، مختبئة بين الأشجار" )
وفي قصتها ( طريق ذات عودة ) تبحث القاصة عن سعادتها الضائعة من خلال التلذذ بالأحلام الطوباوية عبر ممارسة فعل الحلم، وإستشراف العوالم التخييلية الممكنة.
( أنثى على رصيف الانتظار...تتذكّر سراجاً أشعلاه نذراً لسهر طويل وطال وطال الغياب خافت إنطفاء الحواس...وتململ الحظ... أخذت منديلها نفخت فيه من روحها، وربطته بحبل السّحاب هبّت ريح حركت زيت النّذر في السّراج ورمت يمين الحنين ثلاثاً لو أضعت الحكاية في الغياب لمع وميض برق رسم ملامح طريق ذات عودة )
تستعمل الكاتبة في قصتها هذه وكغيرها من قصصها الوصف التعبيري الذي يتناول وقع الشيء والإحساس الذي يثيره هذا الشيء في نفس المتلقي وبإيقاع سردي حركي متعاقب وسريع ينسجم مع وتيرة الأفعال المضارعة الدالة على زمن الحاضر، زمن الهزيمة إلا أنها دائما تنيرنا ببصيص أمل في المستقبل ...
وكما في قصتها ( غفوة الجسد ) حيث يأتي بصيص الأمل من قولها :
( ... فتتعثر...بعِطْرِه الْسَّاكِن صَدْرَها بحنانه يتسلّل جسدها فَيُثِير بِدَاخِلِها رُوْح انْثَى... فتغمره ..وَتَهْرُب مَعَه الَى أَرْض لَا يَسْكُنُهَا إلاّه… وهناك ترتديه روحاً...و تُلْقِي بِرَأْسِهَا وَتُضَمُّه الَيْهَا وَتَغْفو ) .
وفي الختام نقول :
إنّ السّرد الحكائي في النص القصصي لدى القاصة نهى الموسوي هو الذي نقل تجربتها القصصية الى خارج الطابع الغنائي الذاتي.
فنصوصها ليست تعبيرًا عن تجربة ذاتيّة بقدر ما هي تصوير لتفاعل أحداث، وصراع شخصيّات، فتحوّلت التّجربة الذاتيّة لديها إلى تجربة إنسانية. فإنّ المتأمّل في تجربتها يجدها غنيّة بالطابع السّردي والمشهدي والتّوظيفي من خلال توظيفها لغة مكثفة، وأحداث متسارعة مشحونة بالألم، تنقل لنا الكاتبة من خلالها واقعًا زاخرًا بالتّناقضات الجدليّة السلبيّة التي تغرق الإنسان في دوّامة من الأزمات النفسيّة المحبطة، وتخضعه لمجموعة من الانهيارات الشّعورية الخطيرة التي تهدّد كيانه النّفسي والبدني وهي لا تستخدم في قصصها القصيرة جدا مساحة كبيرة من الوصف لتضع يدك على الجرح، كونها تقدّمه إليك كومضة لتتشكّل لديك صورة مرئيّة للواقع الذي تعيشه المرأة في المجتمعات الشرقيّة.
القاصة نهى تحاول دائما أن تزاوج في قصصها بين الواقعيّ والحلمي المبني على الفعل الإنسانيّ الخالد، بين الماضي المكتظ بعادات بالية والحاضر المنشود ، فتنفتح القصّة على تأمّل لتنتهي الى ما يشبه الحلم. القاصة نهى ستكون نجمة منيرة في عالم القصة القصيرة .
ومن بين كتّابها الكاتبة اللبنانية المتألقة نهى الموسوي والتي تحاول في قصصها توظيف تكنيك خاصّ في الشّكل والبناء، لما تمتاز به من مهارة في سبك اللغة واختزال الحدث المروي بأقل ما يمكن من الجمل المعبّرة عن الموضوع، كي تثير الإدهاش والرّوعة الفنيّة لدى المتلقي ...
منذ الوهلة الأولى تثير عنونة قصصها الرّغبة في اقتحام أغوار نصوصها القصصيّة والولوج في أعماقها كما في ( طفلة في قعر النّار، برقه كاذب... ، خيـــوط النعاس.. ، غرباء في أعياد المدينة ، حلم طفلة، غفوة الجسد ، طريق ذات عودة ، في الأرض القاحلة لا تخصب النبوءات، ساكنة في لاوعيه ، ...)
إذ يمكن للمتلقي أن يتكشف وجود الآخر وعلاقته بالذّات بدءً من العتبة الاولى (العنوان ) ومن ثمّ عبر مداخل بنيويّة جماليّة تشكّل في مجملها البنية الفنية العامّة كاختيار الرّاوي/ السارد وطبيعة بناء الحدث القصصي، ومن ثم تشكيل المكان والشخصيّات وبشكل ضمني.
فقد اختارت القاصّة نهى عناوين قصصها بدقّة وحمّلتها دلالت كاشفة تظهر مدى اهتمام القاصة بقضية الذات في علاقتها بالآخر ( الرجل ) ، حيث تحاول تحديد الفكرة أولًا ومن ثمّ تقوم بمعالجتها "من خلال أحداث مركّزة تتدفّق عبر جمل سرديّة معيّنة ، ضمن قالب زمني متسلسل .
وما يؤهلها للخوض في تجربتها هذه هو ما تملكه من مخزون إجتماعي ولغة تمتلك انزياحاتها التأويليّة، لاعتمادها في أكثر الأحيان على لغة شعريّة تؤهلها المحافظة على توازن البناء السّردي في القصة.
فهذه الانزياحات هي التي قادتها للتّأويل عن الدلالة للواقع الحقيقي الذي تعيشه . فنجحت في اقتناص اللّحظات الومضيّة العابرة قبل تلاشيها، لتثبتها في مخيلة القارئ نصًّا مكثّفًا بشاعريّة تكشف عن إشعاعها الدّلالي في أكثر من اتّجاه .
ففي قصتها (طفلة في قعر النّار ) تستخدم جملًا ذات تكثيف عالٍ من خلال استخدامها مشاهد صوريّة جميلة كقولها ( كانت تبادل الزّهرة أول الغرام، وتغازل ضلع الفجر لهفة لهفة، و ترسم من مهرجان الأطفال ظلّاً ... ) هنا تبني المقطع السّردي على سيل من الجمل السردية المتوالية والمتعاقبة والتي تساهم في تحبيك قصّتها لتصل الى البؤرة فتقول ( حاولت أن تكون في دفتر الزمان أنثى عشق .. فخانتها العتمة بين مقدّس وعيب...وطالبوها أن تواري سوءتها... فأسقطوها طفلة في قعر النّار ) ومن ثم تفصح الكاتبة عن النهاية المأساوية لبطلتها بسبب الواقع الإجتماعي المؤلم الذي يفرضه المجتمع على المرأة من خلال تقرير مصيرها ( وزوّجوها لتابوت أزلي...حتى صارت ثوباً عتيقاً مشنوقاً على مجزرة التقاليد )
نجد الكاتبة في قصّتها هذه وغيرها من القصص القصيرة جدًّا ارتكزت في البداية على صيغة الأفعال المضارعة ( تتبادل ، تغازل ، ترسم ) تمنح قصتها بعدًا حركيًّا فيه حيوية وقوة. ومن ثم تعود لأستخدام الفعل الماضي (حاولت ، خانتها ، طالبوها ، أسقطوها ) لتوحي لنا بإفرازات الماضي المُثقل بالعادات والتّقاليد ومحاولتها للتّخلص من ثقله ممّا يجذب القارئ كونه يشعر وكأنه يعيش حكاية ماثلة أمامه. فالأفعال المضارعة تمنح القصّة الحركة والزمن والأفعال الماضية تكشف عن التركة الثقيلة التي تركتها العادات على كاهل المرأة.
إلا أنّها في قصّتها خيـــوط النّعاس .. والتي تقول فيها ( على مصطبة أودعت أنوثتها عشرين عاماً...فذبلت أوراقها في قبو الغياب...وطوت صفحات في أقباء النسيان.... هبّت ريح نثرت عطررجل ...هزّها صهيل الشوق ...وسحب خيـــوط النعاس.. وأعاد لجســـدها نسغ الحياة ) تعيش في زمن الماضي وحده، لتفرز لنا ثقل تركاته على المرأة، وتدعونا للتّمرد عليه لنعيش حاضرنا .
وفي قصتها (دعاء ) أستخدمت عدد كبير من الأفعال بصيغ متنوعة ماضٍ ومضارع ونهي وأمر (...فاح دعاء ...فتنشقت بخورًا يدعوها...لا تخافي ... افتحي هذه النّافذة ...قالت أخاف من صدأ الإفريز ...ردّد الصوت افتحي ...فكي القيود وابحثي عن طاقة نور...واستسلمي ...لترانيمِ العشق...) لتعطي لقصتها ديمومة ومحاكاة للواقع بشكل مباشر. حيث استعانت القاصة بالقلق التي تعيشه والصراع الذي يلازمها بين البقاء على الماضي أو الأنتقال الى حاضر لا بد من تغييره، لتوضيح رؤيتها للحياة ، والانتصار لها.
إنها تسعى في قصصها تلك، تحقيق قدر من المتعة الفنيّة عن طريق انكشاف الذّات والتي هي في الوقت نفسه "أنا" القاريء التي تشتاق دومًا إلى التّعرّف على لحظات القلق ومواقف التّحدي التي يتعرّض لها الآخر ( المرأة ) في مجتمعاتنا الشّرقيّة التي تواجه أزمة إنسانيّة ، لا تستطيع المرأة التّصدّي لها بسبب العادات والتّقاليد، مما يؤدي بالأنثى تذبل أوراقها في سن متقدم من مسيرتها لذا ختمت قصّتها بما يتوافق مع نظرة مجتمعها ، فيجب أن تصادر من قبل رجل كي يعيد لأوراقها الحياة .
وقصّتها ( برقه كاذب ...) تتميّز بالبنية السّرديّة ..كونها تنطوي على مكوناتها التي تنحصر في راو يقصّ لنا الحكاية (رجل يتكيء على ذراعه، تجرُّه شهوة سحرها... يسألها : من أنتِ؟ تردّ: أنا الطالعة من أغوار اهملها الطلاء ... الملاصقة لميتات الوحدة... المتيممة برهيف القصيدة ...) وحدَثْ (هذا الأمل برقه كاذب... تخرج صبية من أصداف الماء......ضباب يزوغل عينيها.. تشدّ وتر المسافات...) وشخصية زمكانية مع ضربة مفاجئة في نهايتها تكشف عن عملية أغتيالها وما تعقبه من مأساة ... (... ويغتال ثغرها حتى أصبح الياسمين في الضلع أنين... وتلاشى في الضباب بعد أن خذلَ أحلام قصيدتها... ومضت كمأة تنتظر رجفة البرق..) وبهذه المقوّمات تشكّل لديها نصًّا متحرّكًا يعتمد على لغة شعريّة تتطلّب موهبة ومخزونًا معرفيًّا وخيالًا ابداعيًّا خصبا.
ونظرا لدخول الحكاية كمكوّن أساسي في بناء القصة السردية، فإن الحوار يأخذ حيّزا مهمًّا في قصصها ، وبشكل مكثف وقصير كي لا يضعف الفعل القصصي لديها ، وهو الذي يولد الحركة والحيوية في النص لذا نجد القاصة تركز كثيرا على الحكاية والتي هي من المقومات الأساسية في فن القصة وبأسلوبٍ شيّقٍ غير مملٍّ من خلال مشاهد حواريّة منحت القصة الحركة والحيويّة والواقعيّة وبشكل مكثف وأحيانا يكون السبب في ظم هذه القصص الى فن القصة القصيرة لوجود أسهاب في الحكاية كما في قصتها (عتاب ) :
(...نظر اليها قال لها :ما أشدّ الوجع الذي يحتاج إلى جرعة كبيرة من فقدان الشعور كي يواجه الحقيقة ...! نظرت اليه بشفقة...وبقيت صامتة سقطت ورقته وكان علينا أن نتكلم ... )
إلا أن الحوار هنا كان عنصرًا إيجابيًّا في تصوير الصراع العاطفي و الحالة النّفسيّة التي تكشف عن معاناة الإنسان كنتيجة لاتخاذه قرارًا متسرّعًا فيعيش في دوّامة الصراع.
( ... تدفّق بطيء مكتسح بالخوف والقلق... في داخله وجعان : :وجع يُسكّنه الدّواء ،و وجع مكتسح بالنّدم ...) كي يعود الى نقطة ما قبل الفراق ... فيختلط الندم بالرغبة والكبرياء ( وحدي رأيت الحواس تتّجه نحوي في نزق خبييء . وقميصه يرتعش على أغصان الرّجاء ... في هذه الكأس الدّاكنة ،أودية ماؤها يهتف للجسد أمطرني توبة ،أخاف من عتمة الأسئلة ... ) قصص كهذه هي صورة للعديد من الحالات التي تحدث في يومنا كنتيجة للتسرع في الحكم على الآخر ....
إلا اني أرى أنّ هذا النصّ ، تنقصه ضربة مفاجئة في نهايته يكشف لنا عن حدث ومضويٍّ مكتمل، يشير ولا يصرح... حتى يصير النص قصة قصيرة جدًّا، وصدمة النهاية هي من أبرز ما تمتاز به القصة القصيرة جدّا.
فالقصّة القصيرة جداً لا تستغني عن الحدث ولكنّها تحيل إليه، ولا تتخلّص من الشّخصيّة ولكنّها قد ترمز إليها، ولا تستبعد الزمن ولكنّها قد تضمره ، فبلاغة القصّة القصيرة جداً هي التّكثيف ووسيلتها في ذلك اللغة.
وهكذا في قصتها (في الأرض القاحلة لا تخصب النبوءات) والتي تعالج فيها من خلال سيل من الجمل السردية المفهوم الخاطئ للتدين والذي يكون السبب في صراعاتنا ومآسينا وبطريقة ذكية تقول (... أنصب عمود الدين الملفوف بالميزان... سقط الفتى ... صاحت العجوز الثرثارة بالعة المحكمة وآكلة خبز القربان يحيا الدين... انحنى الإله اعتذراً وقال في الأرض القاحلة لا تخصب النبوءات إنه رعد القرون المتآكلة ) وهذه أيضا تعتبر من القصص القصيرة ...
أما فيما يخص البناء الشكلي لقصصها القصيرة جدا نجد نصوصها القصيرة تبنى على مرتكزات رئيسية مهمة تميزها عن القصة الطويلة والمتوسطة الطول، وذلك من خلال براعة القاصة في الإختزال والتّكثيف في الحدث السّردي من خلال الاكتفاء بأقلّ ما يمكن من الشّخصيّات، وزمكانيّة مقننة، إذ أنها تقفز مباشرة الى الحدث المركزي بعد عرضها لمشاهد قصيرة يوفّرها لها ذلك المركز لخلق أجواء القصة. إذ أنها تعتمد على حبكة بسيطة في فضاء زمكاني مختزل .
فنصوصها القصصية تكون غنيّة بإشراقات تسلّط الضّوء على دلالات الحدث ، فإنّه بطبيعة تشكّله الفنّي يُثبِت في طبيعة تكشف الذات أمام نفسها وإنبهارها لترينا ما غرسته العادات البالية في مجتمعاتنا الشّرقية والتي جعلت من الرجل سيدا على المرأة ...
القاصة نهى الموسوي تكتب بأسلوب أدبيّ شيّق، تصوّر فيه إحباطات الإنسان وهمومه الكثيرة، وأفراحه الصغيرة، لتدعونا من خلال نصوصها القصصية والتي تزهو بفنيّتها وقدرتها على التّعبير السردي المحمّل بحوارات مكتملة وموجزة . للتّضامن مع همّ الإنسان و صراعه مع قيود زمنه ...
إنّ الكاتبة كغيرها من النّساء لا تزال في بحثها المستمر عن أناها التي ضاعت مع حلمها المفقود .... عن ذاتها المتشظية والتي تمثّل ذاتّ كلّ إمرأةٍ شرقيّة، وهي تسعى بجديّة الى فهم كنّه حياتِها الممزّقة، لذا تراها تتأرجح بين الوهم الحلمي والحقيقة الواقعيّة. وهذا ما تجسّده قصتها (حلم طفلة ) :
( ...! طفلة خرجت من بين الرّكام ...تلملم يسير أمانيها من تحت الأحقاد...تهرب خائفة تدمدم ... )
القاصة تنطلق من رؤية خاصة للعالم قائمة على الرؤية الحلمية، والتي ترتكز بدورها على الهروب من عالم الواقع والحقيقة الزائفة (وإذا سألت ربي فهو يهدين...) إلى عالم الأحلام المثالية للتلذذ بالسعادة المنشودة عبر فعل التخييل البلاغي، والإسترسال السردي (...تركض وتجمع أكوام الحطب ومن بين الرّكام تلمح زهرة ...فتقطفها وتهرب...وتضعها في معبد ...على ضريح الطفل المظلوم ...) وتقوم ببناء عالمها الوهمي من خلال (...تتذكر جدّتها وقصص ندور البخور وأغنية فيروز ...) فتقيم تصوراتها على أنقاض مأساوية الواقع المترنح بالكآبة واليأس والملل والسأم القاتل (... وكبرت الطفلة وما زال المشهد لون دم طري وما زالت الطفلة تبحث عن ولي جديد يعيد لأطفال وطنها مواويل شجر الدفلى والطيّون ...)
وهكذا في قصص أخرى حيث تنتقل الكاتبة من ذاتها الأنويّة البؤريّة إلى الرؤية الفجائعيّة السّوداويّة عبر رصد مشاكل المرأة تشخيصَا وإنتقادًا لمجتمعها الذي لا يزال الآخر يطاردها بسيل من أسئلته ( أين كنت ؟ ماذا كنت تفعلين و؟؟؟) وكما في قصتها (حكاية غاليانو ) وهي قصة ربما حقيقية فكانت معالجتها بطريقة ذكيّة وسريعة كالبرق الذي يأتي من السّماء ويصيب الهدف بدقة (أنتِ ؟! “نعم !!! أين كنت طيلة هذه الايّام؟ فتجيبه: في الظل الساكن في لا وعيك وهو يجلد جثامين عمرك بالنسيان )
ومن خلال كل ذلك توجه القارئ للثورة على هذا الواقع المأساوي والذي يدفع ثمنه لا المرأة وحدها بل حتى الطفل مما يدعوها الى دق ناقوس الخطر في قصتها الجميلة جداً (بندقية) :
( في تلك البلاد المفتوحة على كل الرياح الهوجاء ، والعدو أكوام أحقاد باردة ، قدم الوالد لابنه في عيد ميلاده دراجة ... رمى الهدية ، كان ينتظر بندقيّة.... ربت الوالد على كتف صغيره وابتسم مقبّلًا جبينه، ومضى مستشهدًا ...غطى رأسه النّازف بالعلم.... ومضى .. وعلى حافة العاشرة ...وفي زحمة الوطن الضائع ... قدّم له الوطن كومة خيبات وبندقية كبيرة ) إنه تصوير رائع لمستقبل الطفولة في عالم الصناعات الحربيّة والحروب التّدميريّة .
وهكذا في قصتيها (حوافر خيول غريبة، و كش ملك! ) حيث تعالج فيه الواقع المأساوي لما آلت عليه السياسة من انتاج دكتاتوريّات وقادة ينتهكون الأعراف الإنسانيّة فكانت معالجاتها ذكيّة. وختمتها بنهاية معبّرة، كما في قصّتها (كش ملك!) التي أنهتها بلوحة جميلة (وعندما اطمأنت أن لا أحد يراقبها قالت له: "إنّها عيون الطّيور الّتي أحضرتُها لك، مختبئة بين الأشجار" )
وفي قصتها ( طريق ذات عودة ) تبحث القاصة عن سعادتها الضائعة من خلال التلذذ بالأحلام الطوباوية عبر ممارسة فعل الحلم، وإستشراف العوالم التخييلية الممكنة.
( أنثى على رصيف الانتظار...تتذكّر سراجاً أشعلاه نذراً لسهر طويل وطال وطال الغياب خافت إنطفاء الحواس...وتململ الحظ... أخذت منديلها نفخت فيه من روحها، وربطته بحبل السّحاب هبّت ريح حركت زيت النّذر في السّراج ورمت يمين الحنين ثلاثاً لو أضعت الحكاية في الغياب لمع وميض برق رسم ملامح طريق ذات عودة )
تستعمل الكاتبة في قصتها هذه وكغيرها من قصصها الوصف التعبيري الذي يتناول وقع الشيء والإحساس الذي يثيره هذا الشيء في نفس المتلقي وبإيقاع سردي حركي متعاقب وسريع ينسجم مع وتيرة الأفعال المضارعة الدالة على زمن الحاضر، زمن الهزيمة إلا أنها دائما تنيرنا ببصيص أمل في المستقبل ...
وكما في قصتها ( غفوة الجسد ) حيث يأتي بصيص الأمل من قولها :
( ... فتتعثر...بعِطْرِه الْسَّاكِن صَدْرَها بحنانه يتسلّل جسدها فَيُثِير بِدَاخِلِها رُوْح انْثَى... فتغمره ..وَتَهْرُب مَعَه الَى أَرْض لَا يَسْكُنُهَا إلاّه… وهناك ترتديه روحاً...و تُلْقِي بِرَأْسِهَا وَتُضَمُّه الَيْهَا وَتَغْفو ) .
وفي الختام نقول :
إنّ السّرد الحكائي في النص القصصي لدى القاصة نهى الموسوي هو الذي نقل تجربتها القصصية الى خارج الطابع الغنائي الذاتي.
فنصوصها ليست تعبيرًا عن تجربة ذاتيّة بقدر ما هي تصوير لتفاعل أحداث، وصراع شخصيّات، فتحوّلت التّجربة الذاتيّة لديها إلى تجربة إنسانية. فإنّ المتأمّل في تجربتها يجدها غنيّة بالطابع السّردي والمشهدي والتّوظيفي من خلال توظيفها لغة مكثفة، وأحداث متسارعة مشحونة بالألم، تنقل لنا الكاتبة من خلالها واقعًا زاخرًا بالتّناقضات الجدليّة السلبيّة التي تغرق الإنسان في دوّامة من الأزمات النفسيّة المحبطة، وتخضعه لمجموعة من الانهيارات الشّعورية الخطيرة التي تهدّد كيانه النّفسي والبدني وهي لا تستخدم في قصصها القصيرة جدا مساحة كبيرة من الوصف لتضع يدك على الجرح، كونها تقدّمه إليك كومضة لتتشكّل لديك صورة مرئيّة للواقع الذي تعيشه المرأة في المجتمعات الشرقيّة.
القاصة نهى تحاول دائما أن تزاوج في قصصها بين الواقعيّ والحلمي المبني على الفعل الإنسانيّ الخالد، بين الماضي المكتظ بعادات بالية والحاضر المنشود ، فتنفتح القصّة على تأمّل لتنتهي الى ما يشبه الحلم. القاصة نهى ستكون نجمة منيرة في عالم القصة القصيرة .