يكتسب المضمون الفني الآن أهمية كبيرة في تحديد قيمة النص، بعد أن استوعبت القصة القصيرة حظها كاملا في التجريب، والغوص في العديد من الأشكال الفنية التي حاولت ابتكار أثواب متعددة ومختلفة للتميز الشكلي، وبدأتْ مرة أخرى في الالتفات إلي أهمية الرسالة التي يجب أن تقولها، وقد تمثل هذا الالتفات في البحث عن أفكار جديدة، وإن لم يكن فالبحث عن منظور جديد لقولها، ولأن الأفكار في السرد القصصي تأتي عبر الحدث الذي يشكل مضمون النص، فقد استعاد المضمون أهميته مرة أخرى عبر هذين السياقين، الأول أن يكون مضمونا جديدا يتشكل في أجواء مغايرة بعيدا عن الواقع المعروف، تَحُدها الأسطورة أو الفانتازيا أو الفلسفة، والثاني أن يكون مضمونا يحمل منظورا جديدا لرؤية الأشياء التي تمت رؤيتها من قبل.
وإذا كان للواقع الخارجي منطقه الخاص والمعروف، الذي يحده الزمان والمكان، وتحكمه قوانين الطبيعة، ويسير في علاقاته الإنسانية وفق ما تعارف عليه البشر، وارتضوه لأنفسهم من قوانين، سواء أكانت وضعية أو دينية، يُعد الخارج عنها خارجا عن السياق ومستحقا للعقاب، فإن للواقع الفني للنصوص الإبداعية منطقه الخاص أيضا، الذي تحكمه أشكال وسياقات فنية تم التعارف عليها مع مرور الزمن، وهي تتطور فيه، غير أن الخارج عنها لا يُعد أبدا خارجا عن السياق، بل متجاوزا له، لا يستحق العقاب أبدا، بل المكافأة والريادة التي تضعه في مكانة رفيعة، وتُخلده في تاريخ الفن، لأن اتكاء الكاتب علي المتخيل، بأكثر من لجوئه إلي مفردات الواقع الخارجي، كفيل بأن يدع لحظة الكتابة تنساب بين يديه حرة وطليقة لتكتفي بذاتها وهي تخلق منطقها الخاص الداخلي، وتزيد من مسافة بُعد متخيلها السردي عن الواقع المرصود الذي ينطلق منه، فتشبعنا إلي حد الثمالة السردية، من خلال أفق تخيلي قادر علي أن يجبرنا علي تصديقه، واستبطان داخلي للشخصيات أو لمفردات المكان التي تتحرك داخله، وما يعتريها من تغيرات زمنية ونفسية، وهو ما اعتمده محمد عبد المنعم زهران في مجموعته القصصية ” بجوارك بينما تمطر ” من خلال اتكائه علي السياقين الأساسيين لمصدر الأفكار الجديدة، تمثل الأول في استخدامه للفانتازيا كفضاء تدور فيه الأحداث والشخصيات، وتمثل الثاني في رؤية الواقع المألوف بمنظور مغاير.
الفانتازيا
تتلخص الصفات المميزة للفانتازيا في إدراج الوقائع والأحداث الخيالية، والمتجاوزة للواقع المألوف، داخل إطار متماسك ذاتيا، كما تتميز بقدرتها على التشويق والإثارة القائمين على قدر من الغموض الذي لا يعوق الوصول إلي رؤية النص، ولا يكشفها أيضا، من هنا لعبت الفانتازيا دورا مهما في تعميق الحدث عند محمد عبد المنعم زهران، واكسابه قدرا عاليا من التشويق، وقدرا كبيرا من العمق الفني، وصولا إلي إحداث التأثير المرجو من عملية الإبداع، لقد أتاحت الفانتازيا في نصوص ” لم أكن هناك.. لأنه ” ” المتجول في الأحلام ” ” هناك.. يا صاحبي ” ” المتظاهر ” ” اهتزاز الشوارع ” ” حياة الأحلام ” مساحات غير محدودة لحرية الحكي، تمثلت في القدرة علي اختراق حدود المكان والزمان، والتحرك داخل لاوعي الشخصيات، بحيث يصبح واقعا له منطقه الخاص، وقابل للتصديق.
ففي قصة ” لم أكن هناك.. لأنه ” نقف أمام قصة عادية للتناقض المجتمعي الذي يجعل للبطل الرياضي قيمة أكبر من قيمة الكاتب المبدع، لكن الفضاء الفانتازي الذي دار فيه الصراع بين البطل والمبدع يهب المبدع القدرة علي تبديل حظه مع البطل الرياضي في غفلة منه، حين يكون الاثنان هناك علي رف الكتب الخاص بـ ” حسن باشا “، البطل الرياضي في صفحة جريدة تفرش الرف، والمبدع في كتاب علي الرف أعلي الجريدة، وفي اللحظة الإنسانية العميقة التي تتساقط فيها دموع المبدع حسرة علي حظه العسر، وتمتد يد البطل لتمسح البلل عن وجهه، تقع الحيلة ويُبدل المبدع حظه بحظ البطل الرياضي، ليصبح مع مرور الوقت كاتبا مشهورا، بينما ينتهي الحال بالبطل الرياضي ليصبح بائعا للطعمية في إحدى الحارات الفقيرة.
إن المساحة الشاسعة التي خلقتها الفانتازيا هنا بين الواقعي والمتخيل هي التي صنعت منطق السرد الخاص بالنص، وجعلتنا نصدق الحيلة، ونتقبل بإعجاب شديد تفتت الزمن، والتحرك في اللا مكان وداخل الأشياء، والقدرة علي تبديل المصائر أيضا.
منظور الرؤية
يكشف لنا المنظور عن مستويات عرض الحكاية من خلال موقع الراوي إزاء الحدث والشخصيات، فالرواة يختلفون أمام الحدث الواحد، حيث ينقل لنا كل راوي كما شاهد هو، لا كما حدث في الواقع، لذا يمثل ” منظور الرؤية ” الطريقة التي ينظر بها الراوي إلي الأحداث والشخصيات عند تقديمها، وتُحدد وجهة نظره لها، وموضعه من الحكي، يمكن القول إذن أنه كلما كانت نظرة الكاتب مختلفة ومغايرة كلما كان بإمكانه أن يهبنا قصة ذات قيمة، هنا قد لا يهم الكاتب كثيرا أن تكون الحكاية التي بين يديه واقعية أو أسطورية أو فانتازية أو أي شيء آخر، طالما قرر أن ينظر إليها بشكل مغاير وقادر علي توليد الأفكار، وهو ما اعتمده أيضا محمد عبد المنعم زهران في قصص ” بجواركَ.. بينما تمطر ” ” في شارع ” ” صورة السيد عبد القادر ” ” الجد يتذكر القرآن ” ” عمق الأشجار ” ” عجوزان “، إن حكايات هذه القصص تبدو عادية جدا لو أننا قصصناها علي بعضنا البعض، لكن الرؤية الفنية المغايرة التي نظر بها زهران إليها أكسبتها قدرا عاليا من التشويق أثناء عملية التلقي، وقدرا كبيرا من العمق الفني القادر علي التأثير، فقصة ” بجواركَ.. بينما تمطر ” تكشف لنا عن علاقة ملتبسة بين أخوين، لكن منظور الرؤية يُحملها تناقض العالم كله، الشمال والغرب في مقابل الجنوب والشرق، الغيم في مقابل السماء الصافية، الغني في مقابل الفقر، الكبير في مقابل الصغير، وأخيرا الحياة بحرص وانتظام شديد في مقابل الرغبة في الحياة بحرية مطلقة، وقتل كل المخاوف التي يتجنبها الآخر، سواء كانت حقيقة أو وهما، فالرغبة في الحياة بشكل سليم ومنتظم تشبه تماما الحياة وفق تعليمات الأبراج، هكذا يخبرنا السرد أن كل المخاوف إنما هي وهم من نبت مجهول، فالنظام سيتحول بمرور الزمن إلي عمليات حسابية دقيقة لتجنب كافة الأخطار حتى قبل حدوثها، هكذا ينشأ الخوف من المطر والمرض والموت، فيضطر الأخ الأصغر إلي البقاء إلي جوار الأخ الأكبر حبا وواجبا، لكنهما يتحولان بالعلاقة، مع الوقت والاجهاد والمغالاة، لتصبح علاقة تبعية لا أخوة، عاجزة عن تقديم المقابل، ورافضة دوما للنصح، بحيث لا يجد الأخ الأصغر أمامه سوي قتل الأخ الأكبر للتخلص من أوهامه ومخاوفه التي تتجه نحو تكبيل حياته هو أيضا، ومنعه حتى من الاستمتاع بالوجود في الشارع بينما يهطل المطر.
يتبقى لنا القول بأهمية القدرة التخييلية للكاتب، فهي التي تتيح له القدرة كي يقنعنا برؤيته، ويجعلنا نتعاطف مع شخصياته، ونُعجب بأماكنه، ونندهش لتصوراته ولقدرته علي إخراج كلمة ” الله ” من دواخلنا تعبيرا عن الجمال الذي يجسده لنا، هذه القدرة التخيلية هي التي تهبه منطق السرد الذي يمثل المسافة التي يصنعها الكاتب بين الواقع وقدرته علي تخيل هذا الواقع بشكل فني، ويخبرنا من خلالها بإمكانية حدوث هذا المتخيل السردي، ويدفعنا إلى تصديقه بعد أن يمزجه بالواقع الذي انطلق منه، صانعا حالة إنسانية عامة يمكن تمثلها وتجسيدها، وخالقا لإنسانية النص، التي هي روحه التي تهبه البسمة والخِفة والنظرة العميقة والخلود.
وإذا كان للواقع الخارجي منطقه الخاص والمعروف، الذي يحده الزمان والمكان، وتحكمه قوانين الطبيعة، ويسير في علاقاته الإنسانية وفق ما تعارف عليه البشر، وارتضوه لأنفسهم من قوانين، سواء أكانت وضعية أو دينية، يُعد الخارج عنها خارجا عن السياق ومستحقا للعقاب، فإن للواقع الفني للنصوص الإبداعية منطقه الخاص أيضا، الذي تحكمه أشكال وسياقات فنية تم التعارف عليها مع مرور الزمن، وهي تتطور فيه، غير أن الخارج عنها لا يُعد أبدا خارجا عن السياق، بل متجاوزا له، لا يستحق العقاب أبدا، بل المكافأة والريادة التي تضعه في مكانة رفيعة، وتُخلده في تاريخ الفن، لأن اتكاء الكاتب علي المتخيل، بأكثر من لجوئه إلي مفردات الواقع الخارجي، كفيل بأن يدع لحظة الكتابة تنساب بين يديه حرة وطليقة لتكتفي بذاتها وهي تخلق منطقها الخاص الداخلي، وتزيد من مسافة بُعد متخيلها السردي عن الواقع المرصود الذي ينطلق منه، فتشبعنا إلي حد الثمالة السردية، من خلال أفق تخيلي قادر علي أن يجبرنا علي تصديقه، واستبطان داخلي للشخصيات أو لمفردات المكان التي تتحرك داخله، وما يعتريها من تغيرات زمنية ونفسية، وهو ما اعتمده محمد عبد المنعم زهران في مجموعته القصصية ” بجوارك بينما تمطر ” من خلال اتكائه علي السياقين الأساسيين لمصدر الأفكار الجديدة، تمثل الأول في استخدامه للفانتازيا كفضاء تدور فيه الأحداث والشخصيات، وتمثل الثاني في رؤية الواقع المألوف بمنظور مغاير.
الفانتازيا
تتلخص الصفات المميزة للفانتازيا في إدراج الوقائع والأحداث الخيالية، والمتجاوزة للواقع المألوف، داخل إطار متماسك ذاتيا، كما تتميز بقدرتها على التشويق والإثارة القائمين على قدر من الغموض الذي لا يعوق الوصول إلي رؤية النص، ولا يكشفها أيضا، من هنا لعبت الفانتازيا دورا مهما في تعميق الحدث عند محمد عبد المنعم زهران، واكسابه قدرا عاليا من التشويق، وقدرا كبيرا من العمق الفني، وصولا إلي إحداث التأثير المرجو من عملية الإبداع، لقد أتاحت الفانتازيا في نصوص ” لم أكن هناك.. لأنه ” ” المتجول في الأحلام ” ” هناك.. يا صاحبي ” ” المتظاهر ” ” اهتزاز الشوارع ” ” حياة الأحلام ” مساحات غير محدودة لحرية الحكي، تمثلت في القدرة علي اختراق حدود المكان والزمان، والتحرك داخل لاوعي الشخصيات، بحيث يصبح واقعا له منطقه الخاص، وقابل للتصديق.
ففي قصة ” لم أكن هناك.. لأنه ” نقف أمام قصة عادية للتناقض المجتمعي الذي يجعل للبطل الرياضي قيمة أكبر من قيمة الكاتب المبدع، لكن الفضاء الفانتازي الذي دار فيه الصراع بين البطل والمبدع يهب المبدع القدرة علي تبديل حظه مع البطل الرياضي في غفلة منه، حين يكون الاثنان هناك علي رف الكتب الخاص بـ ” حسن باشا “، البطل الرياضي في صفحة جريدة تفرش الرف، والمبدع في كتاب علي الرف أعلي الجريدة، وفي اللحظة الإنسانية العميقة التي تتساقط فيها دموع المبدع حسرة علي حظه العسر، وتمتد يد البطل لتمسح البلل عن وجهه، تقع الحيلة ويُبدل المبدع حظه بحظ البطل الرياضي، ليصبح مع مرور الوقت كاتبا مشهورا، بينما ينتهي الحال بالبطل الرياضي ليصبح بائعا للطعمية في إحدى الحارات الفقيرة.
إن المساحة الشاسعة التي خلقتها الفانتازيا هنا بين الواقعي والمتخيل هي التي صنعت منطق السرد الخاص بالنص، وجعلتنا نصدق الحيلة، ونتقبل بإعجاب شديد تفتت الزمن، والتحرك في اللا مكان وداخل الأشياء، والقدرة علي تبديل المصائر أيضا.
منظور الرؤية
يكشف لنا المنظور عن مستويات عرض الحكاية من خلال موقع الراوي إزاء الحدث والشخصيات، فالرواة يختلفون أمام الحدث الواحد، حيث ينقل لنا كل راوي كما شاهد هو، لا كما حدث في الواقع، لذا يمثل ” منظور الرؤية ” الطريقة التي ينظر بها الراوي إلي الأحداث والشخصيات عند تقديمها، وتُحدد وجهة نظره لها، وموضعه من الحكي، يمكن القول إذن أنه كلما كانت نظرة الكاتب مختلفة ومغايرة كلما كان بإمكانه أن يهبنا قصة ذات قيمة، هنا قد لا يهم الكاتب كثيرا أن تكون الحكاية التي بين يديه واقعية أو أسطورية أو فانتازية أو أي شيء آخر، طالما قرر أن ينظر إليها بشكل مغاير وقادر علي توليد الأفكار، وهو ما اعتمده أيضا محمد عبد المنعم زهران في قصص ” بجواركَ.. بينما تمطر ” ” في شارع ” ” صورة السيد عبد القادر ” ” الجد يتذكر القرآن ” ” عمق الأشجار ” ” عجوزان “، إن حكايات هذه القصص تبدو عادية جدا لو أننا قصصناها علي بعضنا البعض، لكن الرؤية الفنية المغايرة التي نظر بها زهران إليها أكسبتها قدرا عاليا من التشويق أثناء عملية التلقي، وقدرا كبيرا من العمق الفني القادر علي التأثير، فقصة ” بجواركَ.. بينما تمطر ” تكشف لنا عن علاقة ملتبسة بين أخوين، لكن منظور الرؤية يُحملها تناقض العالم كله، الشمال والغرب في مقابل الجنوب والشرق، الغيم في مقابل السماء الصافية، الغني في مقابل الفقر، الكبير في مقابل الصغير، وأخيرا الحياة بحرص وانتظام شديد في مقابل الرغبة في الحياة بحرية مطلقة، وقتل كل المخاوف التي يتجنبها الآخر، سواء كانت حقيقة أو وهما، فالرغبة في الحياة بشكل سليم ومنتظم تشبه تماما الحياة وفق تعليمات الأبراج، هكذا يخبرنا السرد أن كل المخاوف إنما هي وهم من نبت مجهول، فالنظام سيتحول بمرور الزمن إلي عمليات حسابية دقيقة لتجنب كافة الأخطار حتى قبل حدوثها، هكذا ينشأ الخوف من المطر والمرض والموت، فيضطر الأخ الأصغر إلي البقاء إلي جوار الأخ الأكبر حبا وواجبا، لكنهما يتحولان بالعلاقة، مع الوقت والاجهاد والمغالاة، لتصبح علاقة تبعية لا أخوة، عاجزة عن تقديم المقابل، ورافضة دوما للنصح، بحيث لا يجد الأخ الأصغر أمامه سوي قتل الأخ الأكبر للتخلص من أوهامه ومخاوفه التي تتجه نحو تكبيل حياته هو أيضا، ومنعه حتى من الاستمتاع بالوجود في الشارع بينما يهطل المطر.
يتبقى لنا القول بأهمية القدرة التخييلية للكاتب، فهي التي تتيح له القدرة كي يقنعنا برؤيته، ويجعلنا نتعاطف مع شخصياته، ونُعجب بأماكنه، ونندهش لتصوراته ولقدرته علي إخراج كلمة ” الله ” من دواخلنا تعبيرا عن الجمال الذي يجسده لنا، هذه القدرة التخيلية هي التي تهبه منطق السرد الذي يمثل المسافة التي يصنعها الكاتب بين الواقع وقدرته علي تخيل هذا الواقع بشكل فني، ويخبرنا من خلالها بإمكانية حدوث هذا المتخيل السردي، ويدفعنا إلى تصديقه بعد أن يمزجه بالواقع الذي انطلق منه، صانعا حالة إنسانية عامة يمكن تمثلها وتجسيدها، وخالقا لإنسانية النص، التي هي روحه التي تهبه البسمة والخِفة والنظرة العميقة والخلود.