في أدب الرحلة تـُكتشف حضارات بعاداتها وتقاليدها وفنونها ، و بها تؤسس لعلاقة ميْسمها اكتشاف ثغر منسية أو بعيدة عن الرحالة . فقبل أن يعيش العالم على إيقاع الانفجار التقاني المتسارع ، الذي يطوى المسافات الشاسعة في ذاكرة الانسان ، كانت الرَّحلات ، عبر التاريخ ، تعيد ترتيب علاقة الانسان مع ذاته ومع الآخر من جهة ، ومع الزمان والمكان من جهة أخرى . وذلك عن طريق المشاهد التي يصادفها الرحالة ، ويصفها كتعبير عن موقف تجاه الحياة والوجود . فكان للمقارنة ، التي يعقدها صاحبها أثناء سفره بين الأصقاع ، وعي مسْجورٌ بالتبدل والإبدال ، بما هي أوجه ثقافية تعكس نمط العيش والحياة. غير أن تدوين هذه المشاهد ، التي يصادفها المسافر ، تكون عبارة عن نقلة في الزمان والمكان والتاريخ . كما أن الأجناس الأدبية ، التي تُعنى بالرحلات ، تجعل من عنصر المفاجأة والتشويق الحجرة الزاوية . ومن منظور آخر، فهي لا تسعى إلى جلب القارئ المهتم فحسب ، بل تعمل حثيثا على أن يظل ـ أي القارئ ـ مشدودا بخيط رفيع ، إلى سحر المكان وروحانيته ؛ فكلما كانت كتابة الرحلة تنوس بين الحقيقة والخيال ، كلما خاطبت الوجدان و الشعور و الأحاسيس و الذوق الفني . فبقدر ما يكون الوصف موضوعيا للرحَّالة ، بقدر ما تتشاكل الصورة الذهنية و خيالَ القارئ في وفاق تام ، وذلك عبر توسيع قنوات السرد الغني بالوصف ، علاوة على التأثير المباشر ، الذي تخلفه تباين أضرب زوايا الرؤية و المشاهدة ، بحسب الوسيلة المستعملة في الرحلة .
وفي ذات المسعى ، كان للأديب الفرنسي الشهير جول غابرييل فيرن ، اهتمام كبير بأدب المغامرة و الاستكشاف ، حيث استصدر، منتصف القرن التاسع عشر ، كتابا عنونه ب " خمسة أسابيع في منطاد " . إن هذه الرحلة ، التي يمَّمت شطر جنوب الصحراء الإفريقية ، بعدما كانت مجهولة عن الأوروبيين ، استطاعت أن تخترق سُجوف البطاح السابغة عبر سفينة هوائية ، حيث تكون زاوية الرؤية عمودية من خلال منطاد ينقط عنان السماء . ففي منتصف القرن التاسع عشر أذاعت صحيفة دايلي تلغراف خبرا مفاده أن مجهول أدغال أفريقيا ، سينقشع سرابُه قريبا أمام الباحثين و المهتمين ؛ بهدف اكتشاف كنوز و أسرار هذه الربوع . فما كان للعلامة ساموئيل فرغوسن إلا أن يجهز راحلته ، ويغادر القارة العجوز ميمما شطر جنوب الصحراء . وتحدثت الصحيفة بإسهاب ، وأثنت الثناء الحسن على هذا العمل ، الذي سيقوم به الرحالة فرغوسن . حيث فك ألغاز رحلات سابقة عنه ، بالرغم من أنها رفعت الخوف و الوجل عن أدغال بلاد إفريقية ، انطلاقا من عيون النيل إلى بلاد السودان ؛ ومن رأس رجاء الصالح إلى بحيرة الزمنزي .
إن ما فعله العلامة ساموئيل فرغوسن ، وهو يكتشف قلب إفريقية من الشرق إلى حدود جزيرة زنجبار ، سيُحتفظ به للتاريخ الانساني ؛ من زاوية أنه نقل أحداثا أقرب إلى أنساغ السيرة الذاتية ، تكشف عن حقيقة الجبل المرتجف ، الذي تحوم حوله أقوام بدائيين ، ومعروفين ب " نيام ، نيام " نسبة إلى الصوت الذي تحدثه عملية المضغ و العلك . فالجبل المرتجف عرفته العربُ بالمكان الذي يربط زنجبار بينابيع البحر الأبيض المتوسط عبر شلالات نهر النيل ، فلولاه لكانت أرض مصر عبارة عن مفاوزَ و فلوات حسب تعبير المؤرخ هيرودوت . كانت الرحلة التي أقدم عليها فرغوسن عرت حقائق التخلف ، الذي ترزح تحت نيره بلاد إفريقية . من خلال طقوس بدائية متعلقة بالعادات والعبادات ، وطريقة العيش أيضا ؛ حيث لقي الرحالة أخطارا تهدد حياته ، إذ لولا تضافر جهود أصحابه وتعاونهم معه ، وهم على متن المنصورة ، لوقع فريسة الهلاك .
فإذا كانت الرحلة تقدم المعرفة و التجربة و الثقافة ، فإنها تكشف عن المستور البعيد ؛ تعري الحقائق التاريخية ، وتزيل عنها الشوائب ، فكأنما الرحالة ينتج خطابا جديدا حول الذات والآخر ، ومن تم فهو يعيد تصحيح المسار التاريخي ذاته . فاكتشاف الشرق كان بالصدفة عن طريق رحلات ابن بطوطة في القرن الرابع عشر ، من خلال كتابه الذائع الصيت " تحفة النظار في غرائب الأمصار و عجائب الأسفار " ؛ الكتاب الوثيقة . فشلالاته السردية جعلته يتبوَّأ مصاف أمهات المصادر ، التي تـُعنى بقديم السرديات العربية ؛ " ألف ليلة و ليلة " و " فن المقامات " عند كل من بديع الزمان الهمداني و الحريري ، وغيرها من المصادر ... إن لكتاب ابن بطوطة أنساغا ضاربة في جذور السيرة الذاتية ، كما وصف ذلك المفكر والروائي المغربي بنسالم حميش عندما ألف سيرة هذا الطنجي . تبدو المزية التي يمكن استخلاصها ، هي أن هذا العمل لم يخرج ، إلى حيز الوجود ، إلا بأمر من السلطان المغربي أبو عنان المريني . فهذا العمل يُحسب لصالح القائم على شؤون الرعية آنذاك ، حيث لولاه ـ أي السلطان ـ لما لقي هذا الكتاب من الشهرة ما أطبقت كل الآفاق ، إلى درجة أنه أصبح دليلا يهتدى به معظم الباحثين ؛ خصوصا عندما ترجم إلى اللغتين الفرنسية و الأنجليزية . فلا بد ، في هذا كله ، أن ندرك مدى المجهود الذي بدله ابن بطوطة ، وهو يروي محكيات رحلته على كاتب البلاط ابن جزي الكلبي الأندلسي من خلال فصول متعددة تلخص مسار الرحلة ، التي دامت ثلاثين عاما . وأمام هذا كله ، خصص ابن بطوطة الشرق الأقصى بفصول أربعة تتراوح بين مملكتي الهند والصين ، مشيرا إلى مدى انتشار المد الإسلامي في هذه الربوع .
وعلى غرار ما قام به ابن بطوطة ، في العصور الوسطى ، نجد رحلتين حديثتي العهد بالزمن ، استأثرت أيضا باهتمام كبير بالشرق الأقصى المتمثل في بلاد اليابان ؛ الأولى قام بها علي أحمد الجرجاوي في مستهل القرن العشرين ، والثانية قام بها صبري حافظ في بداية العشرية الثانية من القرن الحالي . فالرحلتان مصريتان بامتياز بينهما قرن من الزمن ، فهذا الأخير أحدث ، في بلاد اليابان ، الكثير من المتغيرات الجوهرية ؛ ثقافية و اجتماعية واقتصادية و فنية وعلمية . سياقيا ، يظل محفوظا في ذاكرة التاريخ أن الجرجاوي هو أول مصري وطئت قدماه بلاد اليابان ، علاوة على أن رحلته لم تقصد نشر تعاليم الدين الإسلامي فحسب ، بل كان شغله الشاغل هو : الاستزادة من خبرة هذه الربوع في شتى الميادين العلمية و الثقافية و الفكرية . يقول الجرجاوي " وإني لم أقصد برحلتي هذه في الحقيقة مجرد الاشتراك مع الذين ذهبوا إلى اليابان في نشر تعاليم الدين الإسلامي ، بل كانت رغبتي متوجهة أيضا إلى استطلاع أحوال هذه الأصقاع ، ومقدار ما وصلت إليه من المدينة وتقدمها في العلوم شأن من سبقني من السائحين " . بينما الرحلة الثانية ، التي قادت الدكتور صبري حافظ إلى زيارة اليابان ، كانت بدافع العمل الثقافي ، وتصحيح صورة الدين الإسلامي هناك . في الوقت الذي ارتفعت فيه صيحات "الإسلاموفوبيا" و المتأسلمين ، الذين يعملون حثيثا على تشويه وجه الإسلام في اليابان .
إن القاسم المشترك بين هتين الرحلتين هو الاسترسال في الاستطرادات الواصفة ، من خلال عقد المقارنة بين زمنين ؛ بهدف الوقوف على مدى الإبدال الذي عاشته اليابان طيلة عقد من الزمن . يقول حافظ معلقا على رحلة الجرجاوي في كتابه " رحلتان إلى اليابان " : " والواقع أن أهم ما استوقفني في رحلة الجرجاوي الطويلة بالباخرة من تونس إلى اليابان ، والتي استغرقت عدة شهور ، واستطراداته الشائقة قبل الوصول إلى اليابان ، هي محاورته مع الفرنسي يدعى مسيو بيرتو يسأله عن تأخر المسلمين ، ووضعهم المزري ، حيث وقعت الكثير من أراضيهم تحت نير الاستعمار الأوروبي " . لقد كان الاستعمار الوجه الآخر، الذي كشف عنه الجرجاوي ، خصوصا وأن رحلته صادفت حادث دنشواي الشهير. فضلا عن أن الاستعمار كانت له يد طولى في التخلف الذي تعيشه بلاد المسلمين ، وذلك عن طريق النهب الممنهج والمستمر للثروات الطبيعية ، التي تزخر به هذه الربوع ، وذلك بتواطئ و خِذلان مع حكومات منصبة صوريّا . بينما رحلة حافظ صبري جعلت من ثلاث مدن يابانية هدفا لها ، وهي : أوساكا و طوكيو و كيوطو . ولئن كان استكشاف الشرق الأقصى يمر عبر ربط جسور التواصل ؛ فإن الأخلاق العالية التي يتمتع بها اليابانيون ، حسب صبري ، تكون حاجزا حقيقيا أمام هذا الانفتاح ، بل قد يتحول إلى عائق إبستيمولوجي . بيد أن احترام القانون المنظم للحياة الاجتماعية جُبل عليه اليابانيون ، بل أصبح دَيْدنا لا يزيغون عنه قيد أنملة . إن رحلة حافظ كانت بهدف لمس و الوقوف عن كثب على الهوة الشاسعة بين الأمم المتخلفة والمتقدمة لا على مستوى العمران فحسب ، بل أضحى التباين واضحا على مستوى السلوك و القناعات ، حيث يقول الدكتور صبري " وانتظرنا في طابور بالغ النظام ، لا أحد تجاوز دوره فيه ، أو القفز عليه بالفهلوات العربية المعتادة " .
مما سبق ، يساعدنا النص الرحلي ، إذن ، على تجاوز الذات و الطبيعة من خلال حجم المعرفة ، التي يزخر بها . فمهما حاولنا أن نستعيد بعض خصوصيات كل رحلة على حده ، وموقعها ضمن خريطة الفعل الثقافي الحقيقي ، فإن رصدَ الفوارق و تحديد مواقع الذات داخل هذا العالم الفسيح ، يظل الشغل الشاغل للنص الرحلي . فلا ضير أن نستمتع بهذا الأخير ، على اعتبار أنه نص سردي لغوي ، يواري سوأة التباين بين الذات و الآخر ، ثم بين الزمان و المكان .
وفي ذات المسعى ، كان للأديب الفرنسي الشهير جول غابرييل فيرن ، اهتمام كبير بأدب المغامرة و الاستكشاف ، حيث استصدر، منتصف القرن التاسع عشر ، كتابا عنونه ب " خمسة أسابيع في منطاد " . إن هذه الرحلة ، التي يمَّمت شطر جنوب الصحراء الإفريقية ، بعدما كانت مجهولة عن الأوروبيين ، استطاعت أن تخترق سُجوف البطاح السابغة عبر سفينة هوائية ، حيث تكون زاوية الرؤية عمودية من خلال منطاد ينقط عنان السماء . ففي منتصف القرن التاسع عشر أذاعت صحيفة دايلي تلغراف خبرا مفاده أن مجهول أدغال أفريقيا ، سينقشع سرابُه قريبا أمام الباحثين و المهتمين ؛ بهدف اكتشاف كنوز و أسرار هذه الربوع . فما كان للعلامة ساموئيل فرغوسن إلا أن يجهز راحلته ، ويغادر القارة العجوز ميمما شطر جنوب الصحراء . وتحدثت الصحيفة بإسهاب ، وأثنت الثناء الحسن على هذا العمل ، الذي سيقوم به الرحالة فرغوسن . حيث فك ألغاز رحلات سابقة عنه ، بالرغم من أنها رفعت الخوف و الوجل عن أدغال بلاد إفريقية ، انطلاقا من عيون النيل إلى بلاد السودان ؛ ومن رأس رجاء الصالح إلى بحيرة الزمنزي .
إن ما فعله العلامة ساموئيل فرغوسن ، وهو يكتشف قلب إفريقية من الشرق إلى حدود جزيرة زنجبار ، سيُحتفظ به للتاريخ الانساني ؛ من زاوية أنه نقل أحداثا أقرب إلى أنساغ السيرة الذاتية ، تكشف عن حقيقة الجبل المرتجف ، الذي تحوم حوله أقوام بدائيين ، ومعروفين ب " نيام ، نيام " نسبة إلى الصوت الذي تحدثه عملية المضغ و العلك . فالجبل المرتجف عرفته العربُ بالمكان الذي يربط زنجبار بينابيع البحر الأبيض المتوسط عبر شلالات نهر النيل ، فلولاه لكانت أرض مصر عبارة عن مفاوزَ و فلوات حسب تعبير المؤرخ هيرودوت . كانت الرحلة التي أقدم عليها فرغوسن عرت حقائق التخلف ، الذي ترزح تحت نيره بلاد إفريقية . من خلال طقوس بدائية متعلقة بالعادات والعبادات ، وطريقة العيش أيضا ؛ حيث لقي الرحالة أخطارا تهدد حياته ، إذ لولا تضافر جهود أصحابه وتعاونهم معه ، وهم على متن المنصورة ، لوقع فريسة الهلاك .
فإذا كانت الرحلة تقدم المعرفة و التجربة و الثقافة ، فإنها تكشف عن المستور البعيد ؛ تعري الحقائق التاريخية ، وتزيل عنها الشوائب ، فكأنما الرحالة ينتج خطابا جديدا حول الذات والآخر ، ومن تم فهو يعيد تصحيح المسار التاريخي ذاته . فاكتشاف الشرق كان بالصدفة عن طريق رحلات ابن بطوطة في القرن الرابع عشر ، من خلال كتابه الذائع الصيت " تحفة النظار في غرائب الأمصار و عجائب الأسفار " ؛ الكتاب الوثيقة . فشلالاته السردية جعلته يتبوَّأ مصاف أمهات المصادر ، التي تـُعنى بقديم السرديات العربية ؛ " ألف ليلة و ليلة " و " فن المقامات " عند كل من بديع الزمان الهمداني و الحريري ، وغيرها من المصادر ... إن لكتاب ابن بطوطة أنساغا ضاربة في جذور السيرة الذاتية ، كما وصف ذلك المفكر والروائي المغربي بنسالم حميش عندما ألف سيرة هذا الطنجي . تبدو المزية التي يمكن استخلاصها ، هي أن هذا العمل لم يخرج ، إلى حيز الوجود ، إلا بأمر من السلطان المغربي أبو عنان المريني . فهذا العمل يُحسب لصالح القائم على شؤون الرعية آنذاك ، حيث لولاه ـ أي السلطان ـ لما لقي هذا الكتاب من الشهرة ما أطبقت كل الآفاق ، إلى درجة أنه أصبح دليلا يهتدى به معظم الباحثين ؛ خصوصا عندما ترجم إلى اللغتين الفرنسية و الأنجليزية . فلا بد ، في هذا كله ، أن ندرك مدى المجهود الذي بدله ابن بطوطة ، وهو يروي محكيات رحلته على كاتب البلاط ابن جزي الكلبي الأندلسي من خلال فصول متعددة تلخص مسار الرحلة ، التي دامت ثلاثين عاما . وأمام هذا كله ، خصص ابن بطوطة الشرق الأقصى بفصول أربعة تتراوح بين مملكتي الهند والصين ، مشيرا إلى مدى انتشار المد الإسلامي في هذه الربوع .
وعلى غرار ما قام به ابن بطوطة ، في العصور الوسطى ، نجد رحلتين حديثتي العهد بالزمن ، استأثرت أيضا باهتمام كبير بالشرق الأقصى المتمثل في بلاد اليابان ؛ الأولى قام بها علي أحمد الجرجاوي في مستهل القرن العشرين ، والثانية قام بها صبري حافظ في بداية العشرية الثانية من القرن الحالي . فالرحلتان مصريتان بامتياز بينهما قرن من الزمن ، فهذا الأخير أحدث ، في بلاد اليابان ، الكثير من المتغيرات الجوهرية ؛ ثقافية و اجتماعية واقتصادية و فنية وعلمية . سياقيا ، يظل محفوظا في ذاكرة التاريخ أن الجرجاوي هو أول مصري وطئت قدماه بلاد اليابان ، علاوة على أن رحلته لم تقصد نشر تعاليم الدين الإسلامي فحسب ، بل كان شغله الشاغل هو : الاستزادة من خبرة هذه الربوع في شتى الميادين العلمية و الثقافية و الفكرية . يقول الجرجاوي " وإني لم أقصد برحلتي هذه في الحقيقة مجرد الاشتراك مع الذين ذهبوا إلى اليابان في نشر تعاليم الدين الإسلامي ، بل كانت رغبتي متوجهة أيضا إلى استطلاع أحوال هذه الأصقاع ، ومقدار ما وصلت إليه من المدينة وتقدمها في العلوم شأن من سبقني من السائحين " . بينما الرحلة الثانية ، التي قادت الدكتور صبري حافظ إلى زيارة اليابان ، كانت بدافع العمل الثقافي ، وتصحيح صورة الدين الإسلامي هناك . في الوقت الذي ارتفعت فيه صيحات "الإسلاموفوبيا" و المتأسلمين ، الذين يعملون حثيثا على تشويه وجه الإسلام في اليابان .
إن القاسم المشترك بين هتين الرحلتين هو الاسترسال في الاستطرادات الواصفة ، من خلال عقد المقارنة بين زمنين ؛ بهدف الوقوف على مدى الإبدال الذي عاشته اليابان طيلة عقد من الزمن . يقول حافظ معلقا على رحلة الجرجاوي في كتابه " رحلتان إلى اليابان " : " والواقع أن أهم ما استوقفني في رحلة الجرجاوي الطويلة بالباخرة من تونس إلى اليابان ، والتي استغرقت عدة شهور ، واستطراداته الشائقة قبل الوصول إلى اليابان ، هي محاورته مع الفرنسي يدعى مسيو بيرتو يسأله عن تأخر المسلمين ، ووضعهم المزري ، حيث وقعت الكثير من أراضيهم تحت نير الاستعمار الأوروبي " . لقد كان الاستعمار الوجه الآخر، الذي كشف عنه الجرجاوي ، خصوصا وأن رحلته صادفت حادث دنشواي الشهير. فضلا عن أن الاستعمار كانت له يد طولى في التخلف الذي تعيشه بلاد المسلمين ، وذلك عن طريق النهب الممنهج والمستمر للثروات الطبيعية ، التي تزخر به هذه الربوع ، وذلك بتواطئ و خِذلان مع حكومات منصبة صوريّا . بينما رحلة حافظ صبري جعلت من ثلاث مدن يابانية هدفا لها ، وهي : أوساكا و طوكيو و كيوطو . ولئن كان استكشاف الشرق الأقصى يمر عبر ربط جسور التواصل ؛ فإن الأخلاق العالية التي يتمتع بها اليابانيون ، حسب صبري ، تكون حاجزا حقيقيا أمام هذا الانفتاح ، بل قد يتحول إلى عائق إبستيمولوجي . بيد أن احترام القانون المنظم للحياة الاجتماعية جُبل عليه اليابانيون ، بل أصبح دَيْدنا لا يزيغون عنه قيد أنملة . إن رحلة حافظ كانت بهدف لمس و الوقوف عن كثب على الهوة الشاسعة بين الأمم المتخلفة والمتقدمة لا على مستوى العمران فحسب ، بل أضحى التباين واضحا على مستوى السلوك و القناعات ، حيث يقول الدكتور صبري " وانتظرنا في طابور بالغ النظام ، لا أحد تجاوز دوره فيه ، أو القفز عليه بالفهلوات العربية المعتادة " .
مما سبق ، يساعدنا النص الرحلي ، إذن ، على تجاوز الذات و الطبيعة من خلال حجم المعرفة ، التي يزخر بها . فمهما حاولنا أن نستعيد بعض خصوصيات كل رحلة على حده ، وموقعها ضمن خريطة الفعل الثقافي الحقيقي ، فإن رصدَ الفوارق و تحديد مواقع الذات داخل هذا العالم الفسيح ، يظل الشغل الشاغل للنص الرحلي . فلا ضير أن نستمتع بهذا الأخير ، على اعتبار أنه نص سردي لغوي ، يواري سوأة التباين بين الذات و الآخر ، ثم بين الزمان و المكان .