إبراهيم عبد القادر المازني - السيارة الملعونة!

كان لي - في وقت من الأوقات - سيارة من طراز لا أعينه (تًسع السبعة الأقاليم طراً) ولم تكن بي حاجة إلى كل هذه السعة، فإني كما يقول ابن الرومي:

أنا من خف واستدق، فما يُثقل ... أرضاً، ولا يسدّ فضاَء

وكنتُ إذا اتخذتُ مجلسي فيها لا أملأ إلا إصبعين منها، وكانت زنتها نحو طنين، أو بضعة قناطير، وأدع للقارئ حساب ذلك، فمالي قبلٌ بالحساب أو صبرٌ عليه؛ وما حاجة مثلي إلى الحساب والبراعة فيه وكل أشيائي تعد بالآحاد، فان كثرت جداً فبالعشرات؟؟ فأنا أكسب المال قرشاً قرشاً، وأنفق ما أكسب حتى قبل أن يصير في كفي، فما يستقر منه في جيبي شيء، فكأني ساعي بريد، لغيره لا له ما يتعب في حمله ويحفي قدميه وهو يدور به على البيوت! وما رأيت في حياتي ورقة بمائة جنيه! وللبنك الأهلي غرف منحدرة في الأرض، ولها نوافذ عليها شُباكة من السلك المنسوج، وحديد متعارض، فهي تؤدي الضوء ولا تنفذ منها اليدُ مع الأسف! وفي هذه الغرف تجلس فتيات إلى مكاتب صغيرة عليها حزم مكدسة من أوراق النقد المختلفة يختمنها بختم المدير أو لا أدري ماذا يطبعن عليها، وكثيراً ما أقف بهذه النوافذ وأنظر إلى الفتيات، أو على الأصح إلى الأوراق - اعني إلى الثروات - التي في أيديهن، فأتنهد أتحسر! وماذا تخسر الدنيا - أو البنك فانه هو الدنيا في تلك الساعات - إذا انتقلت إلى يدي بقدرة ربك - أو بعطف إحدى الفتيات - حزمة واحدة من هذه الأوراق الكبيرة؟

أيفلس البنك؟ كلا! أيقل الورق المتداول؟ كلا أيضاً! فإني بارع في إتلاف المال، فإذا صار في يدي كثر التداول ولم ينقص، ولقد فتنني منظر الورق مرة فطال وقوفي ونفد صبري، وخرج الرشد من أصابع كفي، فصحت بالفتاة الجميلة (هش. . . هش. . . .!)

فرفعت رأسها إلى النافذة ونظرت ثم ابتسمت وعادت إلى ما بين يديها

فعدت أصيح بها: (هش. . . . . هش. . . .!)

فصعدت عينها مرة أخرى فأسرعت أقول: (يا بنت الحلال! إن مُنى النفس جميعاً في حزمة من هذه الحزم الكثيرة - وفيك أيضاً لو تجودين! - فهلا أعطيتني مما أعطاك الله؟) ولا ادري ماذا كان جوابها، فقد شعرت بيد غليظة على كتفي، فالتفت، فإذا شرطي ضخم، فقلت لأطمئنه: (منظر جميل جداً، إن البنات يعملن بسرعة عجيبة. وأقول لك الحق، إنهن جميلات! من أين يا ترى يجمعنهم؟ ألا تعرف؟ لشد ما أتمنى أن يكون عندي ولو عشرين حزمة - أعني بنتاً - من أمثالهن!)

فضحك، وسرني ضحكه جداً، فحييته بأدب جم ولطف كثير، وتواضع جميل، وقلت وأنا أودعه:

(اجعل بالك إلي. . . إليهن، لا تدعهم يغبن عن عينك! فإن لي فيهن والله لمآرب! إيه ما أحلى أيديهن الرخصة البضة! ليتني أستطيع أن أضع كفي على كف واحدة منهن! ألا تتمنى ذلك يا صاحبي؟ متع عينك بالنظر يا أخي! متعها، منعها! وهل أقل من النظر؟

ولكن سيارتي، تلك على جمالها وضخامتها وسعتها، أرتني النجوم في الظهر الأحمر، ذلك أنها كانت تستنفذ من البنزين والزيت كل ما هو معروض في دكاكينهما على طريقها، ثم لا تشبع، حتى لقد فكرت في أن أصل خزانها بآبار الموصل! وكثيراً ما هممت بأن أغالطها وأدور من وراء خديعتها، وأملأ لها خزانها ماء بدلاً من البنزين، وأنا أقول لنفسي: (ومن أدراها ان هذا ماء لا بنزين؟) ثم إن خزان الماء كان يغلي كالمرجل بعد دقائق قليلة من السير، فتبدو لي علامة الخطر الحمراء، فأقف وأغير لها الماء، ثم أستأنف السير، وهكذا في الشتاء فكيف بها في الصيف؟ ولهذا صرت أشتري الثلج وافتته، وأحشو به خزانها بدلاً من الماء، ولا أركبها إلا ومعي ذخيرة كافية من ألواح الثلج على المقاعد الخلفية

ولو اقتصر الأمر على هذا لهان الخطب، ولأمكن احتمال المصاب، ولكن محاور العجلتين الخلفيتين كانت مبرية المساليط والأسنان التي تنشب في العجلة وتعلق بها فلا تدعها تفلت، ولم أكن أعلم هذا؟ وأنى لي أن أعرفه وهو شيء محجوب لا يبدو لعين الناظر؟ وكان فساد هذه الأسنان لا يُحدث أثره إلا وأنا في أرض خلاء، ولا أنيس فيها ولا ديار بها، فأكون سائراً مغتبطاً راضي النفس، منشرح الصدر، وفي يميني سيجارة أنعم بتدخينها، وفي عيني ابتسامة عذبة، وعلى لساني - أو شفتي، لا أدري - ألحان أغنية جميلة، وأكون قد خرجتُ من العمران، وأطلقت لها العنان لتهب فضاء الصحراء - حيث كنت أسكن - وإذا بصوت يقول (كركركركركركر. . .) وإذا بإحدى العجلتين الخلفيتين قد خرجت من محورها وذهبت تجري وحدها في الطريق وإذا أنا مائل على جنبي! فلولا حضور ذهني، وسرعة خاطري، وثبات جناني، لانقلبت بي السيارة، ولانتقل المازني - بعد أن يجدوه - إلى رحمة الله، أو على الأقل إلى المستشفى!

وأفتح ألباب، وأترجل، وأدور بها لأنظر ماذا حدث، ثم أقول:

(شيء جميل! ولكن هل كان من الضروري جداً أن تصنعي هذا هنا على الخصوص؟ ألم يكن من الممكن أن يحدث هذا في شارع محمد علي، أو القلعة، أو غيرهما، حيث الناس يروحون ويجيئون بلا انقطاع؟ أو أمام البيت على الأقل؟ سبحان الله العظيم! ما هذه الطباع الصبيانية؟!)

وأذهب أبحث عن العجلة الطائرة، ثم أدحرجها عائداً بها، وأخلع المعطف والسترة، وأرفع الأكمام، والبس ثوب (العمل) الأزرق، فقد احتجت إليه فحرصت عليه، وأخرج الآلة الرافعة، وعلبة الرزات، وأحمد الله على أن المحور سليم لم ينكسر، وأرد العجلة إلى مكانها، ثم أتوكل على الله وأستأنف السير.

ولكن ما كل مرة تسلم الجرة، فكنت كلما ازددتُ احتياطاً لهذه المفاجآت، زادتني هي افتتاناً في الحيل والمكر السيئ، وقد اضطررت أن أتخذ لي خادماً يصحبني في السيارة ليعينني على بلائها، فحدث مرة وأنا عائد إلى البيت، وكان الوقت منتصف الليل، أن كركرت العجلة - على عادتها - وطارت في ميدان الأوبرا. فوقفت في وسط الميدان، وأمرت الخادم أن يصلح ما فسد، ورحت أنا أتمشى على الإفريز وأدخن سيجارة حتى يفرغ من هذا الأمر، فجاءني يقول ان المحور قد انكسر!

قلت: (هممم! شيء جميل! خبر سار جداً. الثلج حملناه، والبنزين هذه ذخيرته وراءنا كأنا على سفر إلى القطب الشمالي. فلم يبق إلا أن نحمل معنا دكاناً كاملاً من أدوات السيارات والقطع اللازمة لها! لا بأس! غداً إن شاء الله نفعل ذلك. أما الليلة فعليك يا صاحبي أن تدخل في السيارة وتغلقها عليك - أبوابها ونوافذها فان البرد شديد - وتحضن العجلة المتمردة وتنام إلى الصباح، وإنه ليؤسفني أن لا أنيس لك في هذا الميدان الموحش سوى تمثال إبراهيم باشا، ولكنه كان بطلاً، فاحلم بوقائعه إلى الصباح. . . عم مساء والى الملتقى!) وأقسمت لأبيعنها، فما بقي لي على ألا عيبها صبر، ومضيتً بها - بعد إصلاح محورها - إلى الدكان الذي اشتريتها من صاحبه، وقلت له (بعها بأي ثمن! فما يعنيني إلا أن أتخلص منها)

وكان بيني وبيته ود، فسألني (هل تبيعها بنصف ثمنها؟)

قلت: (وبثلثه - بل بربعه!)

قال: لا لا. حرام. إنها سيارة فخمة! ولو عرضتها بهذا الثمن الزهيد لظن الناس الظنون، ولتوهموا أن فيها عيباً لا يداوى! وأخلق بهم حينئذ أن ينصرفوا عنها ويزهدوا فيها) فسألته

(بكم تنوي إذن أن تعرضها؟)

قال: (بمائة جنيه -)

فصحت (يا خبر اسود! بمائة؟ إن هذه سرقة!)

قال: (لا تكن أبله. . . مالك أنت؟)

وبقيت عنده أسابيع، لا يشتريها أحد، فمررتُ به يوماً فألفيته خارجاً، فرجا مني أن أنتظره حتى يعود. . . دقائق لا أكثر. . . وأخبرني أن سيدة ستحضرـ فإذا جاءت قبله، فعلي أن أستقبلها وأحييها حتى يرجع

وذهب. وجاءت السيدة، فلم يسعني إلا أن أنهض لاستقبالها، لا لأن صاحب الدكان كلفني ذلك، بل لأنها كانت أجمل من أن يستطع امرؤ أن يجرؤ على إهمالها، فقالت:

(هل أنت المسيو. . . . .؟)

قلت: (ليتني كنته! إذن لربحت في العام ثلاثة آلاف من الجنيهات! كلا! لقد خرج وسيعود بعد قليل جداً. . . . تفضلي!)

فأجالت عينها حتى وقعت على سيارتي فقالت

(هل هذه معروضة للبيع؟)

قلت (أظن ذلك! أعني نعم!)

قالت (إنها جميلة. . . ضخمة. . . فخمة. . . (وفتحت بابها) وثيرة المقاعد. . . بديعة. . . كم ثمنها؟)

فتنحنحت وقلت (إ. . . أ. . . ثمنها!!. . . . مائة جنيه!) قالت (ثمن معقول. . . ليست بغالية)

قلت (ولكنها لا تصلح لك. . أعني أن عيوبها فظيعة!)

قالت (عيوبها؟ إنه لا عيب فيها!)

قلت (الماء يغلي بعد دقائق)

قالت (طبيعي)

قلت (تحرق وقوداً كثيراً. . . تحتاج إلى جالون من البنزين كل أربعة أمتار)

قالت (لا تبالغ. . . إنها كبيرة ضخمة، فمن المعقول أن تحتاج إلى وقود كثير)

قلت (والعجل يطير أثناء السير)

قالت (أوه! ما هذا الإسراف في الطعن؟ هل أستطيع أن أجربها؟)

فخرجت بها، ودرنا بها دورات، ولم أرحمها - أعني السيارة - لأبرز لها - أعني للسيدة - عيوبها - أعني السيارة هذه المرة - فما كان في السيدة هنة، ولكنها كانت كأنها مسحورة، فلا البنزين القليل الذي وضعته فيها نفذ، ولا الماء غلا، ولا العجلة طارت

وقالت السيدة (أترى كيف كنت تبالغ؟ إن ماءها بارد كالثلج! ولا يزال أكثر البنزين باقياً، والعجلة في مكانها ثابتة. لو كان تاجر يصد الزبائن كما تفعل، لخرب!)

فلم تبق لي حيلة، وجاء صاحب المحل فتمت الصفقة، وحسب لي نصيبي من الثمن، مقدمة لثمن سيارة أخرى. . . . .

ولا أدري ماذا كان من أمر السيارة مع هذه السيدة المسكينة ولكنه لا ذنب لي، فقد حذرتها وأنذرتها، وأبرأت ذمتي

إبراهيم عبد القادر المازني



مجلة الرسالة - العدد 81
بتاريخ: 21 - 01 - 1935

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...