واللافتة التحذيرية أكثر من واضحة ..تصيح صياحاً ..هنا حقل ألغام !
والسياج الشائك يمنع حتى من لا يعرفِ القراءة ..واللوحة جمجمة وعظمتان متصالبتان ..إنها منطقة حدودية بين إقليمين فلا تحاول تخطّي الحدود إلا من المعبر المخصّص
والمعبر كان عصيّاً علينا ..إذ أنّ أوراقَنا ممهورةٌ بأختام حمراء نهائية لا رجعة عنها ..فهلمّي نتفيّأ بظلال الأسلاك الشائكة ..وكأنّ ظلالها الحنونة على الأرض أكبر مما يوحي لك حجمها الحقيقي ..وقد تكون الأسلاك الشائكة حنونة في زمن القهر ..لأنها لا تهاجمك إلا إذا اتكأت عليها..فلا تخزك ولا تؤاخذك ولا تأخذ عليك مأخذاً إلا إن دُسْت على أذنابها
تعالي نتخيّل أنفسنا بجناحين يعبران الحدود فلا تطالنا ألغامهم ولا حواجزهم ..ما أسعدكِ أيتها الطيور المهاجرة فلمّا تعرفين بعد جوازات السفر..ولا بصمات الأصابع ولا بصمات العيون
قالت وقد اعتادت الأشواك متّكأً واسترطبت وخزاتها :
-فإلى متى ؟
قلت :
-نحن بحاجة لخارطة الألغام فنمرّ بينها ولا تنفجر ..لابدّ من وجود ممرّاتٍ خفيّة بينها
أجابت وقد أسدلت أجفانها على ابتسامة حالمة :
-نعم ..وكم سيكون وصولنا جميلاً إلى الضّفة الأخرى ..بدايةٌ جديدة بأرضٍ جديدة ..فلا وزر يلاحقنا ولا سيف يعادينا ..سنمارس الحبَّ علانية بلا أوراق رسمية وبلا عقود عرفية ..فكلُّ شيءٍ هناك مُتاح بحرية على ما أظنّ ..كم أنا مشتاقة للمضيّ معك إلى المجهول
قلت محاولاً إيقاظها من حلُمٍ إن تمادى صار كابوساً:
-رويدكِ ..تذكّري أنه خلف تلك الأسلاك الساكنة كلابٌ ومخالب وأنياب ..
قالت وقد فتحت عيناها وحمْلقت نحو الغرب :
-مهما يكن ستكون أرحم من كلابنا الآدمية ..هيا لا تكن خوّافاً فحقل الألغام ذاك ليس طويلاً ..والحدود أقرب من مرمى حجر ..غداً سأعبر قبلك وأفتح لك طريقاً وليكن موطئ خطوتك تالياً لخطوتي ..سأكون كاسحة للألغام قبلك وإنْ مت فأنا فداء لك وأضحية تكفّر فيها عن خطاياك ..لنجرّب حظنا بين الألغام المدفونة بشكل عشوائي ..فإمّا أن تكتب لنا الحياة سوياً أو أموت متفجّرة قبلك ..وعندها يمكنك أن تعود من حيث أتينا ..وتبدأ حياتك مع امرأة أخرى يكون طريقها غير محفوفٍ بالأشواك والألغام
قالت كلماتها الأخيرة بإصرار من عقد العزم ..وكنت أرى في عينيها بريقاً غريباً استجدّ على عينيها ..نظرْتُ إلى قدميها الصغيرتين اللتين ستفتدياني وقلت ممازحاً :
-لنجرّب أن نجتاز الحقل قفزاً على قدمٍ واحدة لتخفيف احتمالات الوطء ..وهكذا تصبح أقدامنا الأربعة اثنتين ..أو تعالي أحملك على ظهري في رحلة الموت فيكون الجسدان واحداً ..أو لنخترق الحقل زحفاً فلا أقدام تدوس واليد تستكشف التراب بأصابعها التي تنغرس قليلاً بلا وزن يوقظ الألغام النائمة
-نعم ولكنّي مصرّة أن أزحفَ قبلك كعربون أقدّمه لك عن طيب خاطر
قالت ذلك والتجأت إلى صدري وكأنّ برد الليل داهمها..وحاولَت أن تنكمش بين ذراعيّ وكم كانت كبيرة ..أكبر من احتوائي لها وأقدس من أي امرأة تلتحفك ..كأنك تحتضن امرأة آيلة للشهادة على مذبح الحب ..
والريح الرافضة لقرارها ثارت حينها ولم تبخل على التلاعب بخصلات شعرها المتناثرة ..والقلب إن تشعر بخفقانه على صدرك ترى نبضاته قوية مرتعشة ..وفاضت عينايَ بالدموع
قالت هامسة :
-كأنك تودّعني بعبراتك
قلت وقد فاض بي :
-والله لن تكوني مطيّتي لبلوغ الضفة الأخرى ..تعالي نعدل عن هروبنا ونعود أدراجنا ونستسلم لأقدارنا رأفة بدموع أمك وثوران أبيك ..ولأواجه مصيري راضياً بين أبناء جلدتي
كفانا ما اخترقنا من حقول الألغام حتى وصلنا إلى هنا ..أهلك وأهلي وعاداتنا وأعرافنا وتقاليدنا كلها ألغام دفينة ..ونحن إن وُفّقنا باجتيازها جميعاً فلا يعني ذلك أننا وصلنا إلى مبتغانا
أجابت :
-لا تبتئس ولا ترتدع ، فاللقمة قد وصلت إلى الفم ..وحرامٌ ألا نتناولها وإن كانت مغموسة بالحرام ..وعليك أن تتذكّر أنّ عبور حقل الألغام بدون خارطة لا رجعة فيه ..فأنت إن نجحتَ في الذهاب لا يعني أنك ستنجح في الإياب ..
أهلي وأهلكَ ألغامٌ متحركة لا خارطة لهم ولا مخطط ..بل قل إنهم قنابل موقوتة قد تنفجر في وسواسهم الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس ..فلا تأمن لرجعتك إليهم قد يستقبلونك ثم يسلمونك لبعضهم فتدبّ فيهم حماسة الإنتقام والتشفّي ..وتثور ثائرة الأحقاد الدفينة والحميّة لغسل العار ..فيقتلونك في لحظة غضب يا مَن خطفت ابنتهم ..أما أنا فسأضيع مذبوحة في جريمة شرف لن يندى لها جبين ..والسكين المدمّى سيغسلونه فوق بلاليع الوهم ..والثكالى المقمّطات ستزغردن كاشفاتٍ شعورهنّ عن غبرة الماضي وأوساخه المعشعشة حتى الجذور..هنالك ألغام مزروعة أيضاً بين بصيلات أشعارهن كفقاقيع القيح الوبيل
هيا بنا ولنتابع مسيرتنا ..وكفانا افتراشاً للأسلاك الشائكة
-إن كان لابد مما ليس منه بد ..فليكن الليل سترنا وغطاءنا والقمر دليلنا وكشافنا ..فلنخفّف أحمالنا وأثقالنا ولنزحف نحو مصيرنا في حقل الألغام الأخير
قالت :
-فلا حقائب ولا ثياب ثقيلة
قلت :
-ولا أحذية ولا نعال
قالت وقد غدت ثيابها خفيفة :
-والبرد لن نشعر به بين الألغام ..ولا ملابس ولا أقنعة زائفة ..فلنواجه موتنا بعريٍّ كامل فتلتصق خلايانا المعرّاة وتتّحد في وصالٍ أبدي ..فإن وصلنا عراةً سيدثّروننا بوشاح الحب ، وإن مُتنا فنحن بلا أكفان
قالت ذلك وأصبحت ثيابها كومةً بجانبها ..ولم تبقِ إلا على قلادة ذهبية تتدلى في صدرها ..وتابعت :
-لا تخجل من جسدي المكشوف فأنا هكذا جاهزة للحب ..وللموت !
ساعدَتني في خلع ملابسي حتى الثمالة وكانت القشعريرةُ مسيطرةً عليها والرعدة تهزّها هزّاً ..وكان لابد لي أن أضمَّها إلى صدري لأدفئها وأسترها ..ومن ثغرة عملناها بين الأسلاك الشائكة بدأ زحفنا ..وكنت مطيّة لها وكانت مطية لي ..وبدأ العرق يتفزّر من جسدينا الخائفين ..وبدأ التراب الملتصق يموّهنا وبدأت الأمتار تتناقص في سعينا بين الألغام الدفينة
قالت:
-إنهم يكذبون فلا ألغام حتى الآن
وقالت وقد كثر كلامها لتخفيف غلواء نفسها :
-آهٍ لو يطول الطريق فما أحيلاه في تقلّباتنا ..فأنا فوقك وأنا تحتك والليل الدامس ثالثنا ..نحن حواء وآدم ورائحة التربة النظيفة في أجسادنا ..تقدّم يا جوادي الزاحف والنصر قاب قوسين أو أدنى ..تحسّس بأصابعكَ طريقنا المظلم وتلمّس أي جُحر أو أيَّ ترابٍ منكوش والزمِ الحياد عنه ..تلوى كالأفعى في مسارك فزارعي الألغام يظنّون أننا سنسلك الصّراط المستقيم والطرق الملتوية هي طرق النجاة ..تباطأ في سيرك كالدودة وأنت تحملني وتحتملني إلى فراش الحب زحفاً ..هذا هو موكب عرسنا بين الألغام..لقد أصبحتَ كالحلزون الدّبق يحمل قوقعته ومسارنا معروق ومعروك بمفرزات أجسادنا ..وترابنا شرشفٌ للحب نتمسّح به ولا نخجل من رائحته
وقالت أيضاً ..على وقعِ أنفاسي اللاهثة وقد غدت مسموعة :
-تمهّل إن شئت ..تريّث ..دعني أفترش أرضك وخذ استراحتك المفضلة على صدري كعاشقين في حقل ألغام ..قبّلني بصمت الخائف ولذة السّارق ..ولا تخضخضني ولا ترهزني فينفجر ترابك المزروع بالألغام ..ما أحيلى الحب فوق ترابٍ بكر لا يطؤه إلا زارعي الألغام
انظر القمر يبتسم لنا ..يسايرنا ..لا تنظر إلى الخلف فلم يبقَ إلا القليل ..ها أنا أرى أنوار الضفة الأخرى ..وأرى أضواء سيارات الدورية كأنهم يستعدّون لاستقبالنا
وقالت وقالت ..وكل ذراعٍ نقطعه من الأرض يروي حكاياتٍ شبيهة بالهذيان ..وجملاً مفككة الأوصال ولو بدت متتابعة..كالمخمور يشرب علقمه ويجترّ علائقه ..وينتظر السُّكْر فلا يسكر
مالكَ توقفت وتسمّرت وبدأت تنكمشْ على نفسك ..هل أخذ الإجهاد منك مأخذاً ؟..أم ارتطمت أصابعك بشيءٍ ما ؟
قلت:
-استعدّي لأمرٍ جلل ..كالموت المؤجّل نعرف أننا ماضونَ إليه على مهل ولكنه فاجأنا الآن ..دعينا نلتقط أنفاسنا قبل الوثب إلى الهاوية ..هنالك سلك يعترض طريقنا ..ليس مُكهرباً فقد لمسته ..لكنه مشدودٌ كوتر الربابة الوحيد إن عزفنا عليه سينشد لحناً حزيناً ..وإن جذبناه ستبدأ موسيقى المفرقعات والألعاب النارية تزركش سماءنا ..فلنستغفر ربنا ونطلب الرحمة قبل لقائه
قالت:
-لم تعد تنفع الصلاة أيها الجسد المنبطح ..فلا سجود ولا قيام في حقول الألغام ..والقبلة نحن متجهان إليها ..والله حولنا ولا حول لنا ..اجذب ذلك الوتر أو اعزف عليه بأصابعك ولا تعزف عنه ..ذلك الوتر هو تفاحتنا يا آدم وجذبه هو خطيئتنا الأخيرة ..اقطع حبل الخلاص من مشيمتنا لأننا سنولد من جديد ..مزق ذلك القيد الذي يمنعنا من الحرية
وغافلتني وشدّت ذلك السلك على عينين مغمضتين وكأنها ستفتح أبواب جهنم..ويغمض المرء عيونه إن رمى بنفسه من أعلى الجرف ويأمل أن يفتحهما ثانية ليُحصِ خسائرَه ..
لا ..لم نمت بعد ..
لكنّ صفارات الإنذار وأجراسه جُنَّ جنونها ..والأنوار الكاشفة حوّلت الليل إلى نهارٍ اصطناعيّ ..ونباح الكلاب يوحي بالنفير ..وسيارات الدورية في الضفة الأخرى دارت محركاتها ..لقد أصبحنا مكشوفين يا امرأة ..وعراة (كحواء وآدم ) حتى من ورقة التوت ..وخطاة هاربين من العدالة في جنة الألغام ..ولا إدبار ولا إقدام.. ننتظر أن يمسكوا بنا بالجرم المشهود ..تعالي نستر عوراتنا بالتراب المجبول قبل وصول الكلاب وحرس الحدود
واهتدت الكلاب إلى موقعنا بسرعة ..وأحاط بنا الحرس ونهرونا بلغتهم الأجنبية ..وتفرّجوا علينا بتفحّص كبضاعةٍ معروضة في سوق النخاسة ..وما زلنا متّحدين خوفاً وبرداً وخجلاً ..منكبّين على بعضنا وكانت هي السلحفاة وكنت قوقعتها قاسية الظهر ..وقد تلمَسُ أحذيتهم وأطراف بنادقهم أطراف السلحفاة فتنكمش ..كانوا يريدون فصلنا عن بعضنا خوفاً من سلاحٍ نخبّئه بيننا ..هه هه ولا سلاح بيننا مخفيّ إلا سلاح الحب ..وترفض السلحفاة عندها التحرك وتأبى الإنقلاب حتى لا يظهر بطنها الطري
ولمَعَت تكراراً عدسات التصوير في أيديهم تحت ابتساماتهم الساخرة ونظراتهم المستغربة ..أحدهم خجل مثلنا فخلع معطفه ليسترنا
وفي الضفة الأخرى وبعد ساعات من التحقيق ..قيل أننا قُبِلنا كلجوءٍ إنساني لهاربَين ينشدان الحبَّ الممنوع
والآن ..وأنا أكتب وأشطب ..أنتقي كلماتي انتقاءً وأتلوّى بين السطور ..كأنني أكتب في حقل ألغام ..قد تنفجر بي أية كلمة ..أو تجرجرني نحو صفارات الإنذار والكلاب الشمّامة ..ومقصّات الرقيب ..فأصبح متهماً بأنني تجاوزت الحدود وتخطيت الهوامش والحواجز واللوائح ..والشروط المعلنة والقوانين المرعية
الرأفة والرحمة لكل من يكتب متعرياً ..مكشوفاً ومفضوحاً ..كالرسام يرسم محبوبته عارية في مرسمه الفوضوي ..فلا تخجل من ريشته المجبولة بالألوان الزيتية ..لوحتك حقل ألغام أيضاً يا هذا ..وصورتها بالمجمل عورات وعورات موقوتة ..إن لمستها دمّرتك تدميراً
أسدلوا ستارتكم على كل ما قيل ..وليخلع أحدكم معطفه ويغطي مقالتي في أدراج النسيان لأنّ كلماتها ترتجف ..من البرد أو من الخوف أو الخجل أو التردّد ..لست أدري.
***************************
والسياج الشائك يمنع حتى من لا يعرفِ القراءة ..واللوحة جمجمة وعظمتان متصالبتان ..إنها منطقة حدودية بين إقليمين فلا تحاول تخطّي الحدود إلا من المعبر المخصّص
والمعبر كان عصيّاً علينا ..إذ أنّ أوراقَنا ممهورةٌ بأختام حمراء نهائية لا رجعة عنها ..فهلمّي نتفيّأ بظلال الأسلاك الشائكة ..وكأنّ ظلالها الحنونة على الأرض أكبر مما يوحي لك حجمها الحقيقي ..وقد تكون الأسلاك الشائكة حنونة في زمن القهر ..لأنها لا تهاجمك إلا إذا اتكأت عليها..فلا تخزك ولا تؤاخذك ولا تأخذ عليك مأخذاً إلا إن دُسْت على أذنابها
تعالي نتخيّل أنفسنا بجناحين يعبران الحدود فلا تطالنا ألغامهم ولا حواجزهم ..ما أسعدكِ أيتها الطيور المهاجرة فلمّا تعرفين بعد جوازات السفر..ولا بصمات الأصابع ولا بصمات العيون
قالت وقد اعتادت الأشواك متّكأً واسترطبت وخزاتها :
-فإلى متى ؟
قلت :
-نحن بحاجة لخارطة الألغام فنمرّ بينها ولا تنفجر ..لابدّ من وجود ممرّاتٍ خفيّة بينها
أجابت وقد أسدلت أجفانها على ابتسامة حالمة :
-نعم ..وكم سيكون وصولنا جميلاً إلى الضّفة الأخرى ..بدايةٌ جديدة بأرضٍ جديدة ..فلا وزر يلاحقنا ولا سيف يعادينا ..سنمارس الحبَّ علانية بلا أوراق رسمية وبلا عقود عرفية ..فكلُّ شيءٍ هناك مُتاح بحرية على ما أظنّ ..كم أنا مشتاقة للمضيّ معك إلى المجهول
قلت محاولاً إيقاظها من حلُمٍ إن تمادى صار كابوساً:
-رويدكِ ..تذكّري أنه خلف تلك الأسلاك الساكنة كلابٌ ومخالب وأنياب ..
قالت وقد فتحت عيناها وحمْلقت نحو الغرب :
-مهما يكن ستكون أرحم من كلابنا الآدمية ..هيا لا تكن خوّافاً فحقل الألغام ذاك ليس طويلاً ..والحدود أقرب من مرمى حجر ..غداً سأعبر قبلك وأفتح لك طريقاً وليكن موطئ خطوتك تالياً لخطوتي ..سأكون كاسحة للألغام قبلك وإنْ مت فأنا فداء لك وأضحية تكفّر فيها عن خطاياك ..لنجرّب حظنا بين الألغام المدفونة بشكل عشوائي ..فإمّا أن تكتب لنا الحياة سوياً أو أموت متفجّرة قبلك ..وعندها يمكنك أن تعود من حيث أتينا ..وتبدأ حياتك مع امرأة أخرى يكون طريقها غير محفوفٍ بالأشواك والألغام
قالت كلماتها الأخيرة بإصرار من عقد العزم ..وكنت أرى في عينيها بريقاً غريباً استجدّ على عينيها ..نظرْتُ إلى قدميها الصغيرتين اللتين ستفتدياني وقلت ممازحاً :
-لنجرّب أن نجتاز الحقل قفزاً على قدمٍ واحدة لتخفيف احتمالات الوطء ..وهكذا تصبح أقدامنا الأربعة اثنتين ..أو تعالي أحملك على ظهري في رحلة الموت فيكون الجسدان واحداً ..أو لنخترق الحقل زحفاً فلا أقدام تدوس واليد تستكشف التراب بأصابعها التي تنغرس قليلاً بلا وزن يوقظ الألغام النائمة
-نعم ولكنّي مصرّة أن أزحفَ قبلك كعربون أقدّمه لك عن طيب خاطر
قالت ذلك والتجأت إلى صدري وكأنّ برد الليل داهمها..وحاولَت أن تنكمش بين ذراعيّ وكم كانت كبيرة ..أكبر من احتوائي لها وأقدس من أي امرأة تلتحفك ..كأنك تحتضن امرأة آيلة للشهادة على مذبح الحب ..
والريح الرافضة لقرارها ثارت حينها ولم تبخل على التلاعب بخصلات شعرها المتناثرة ..والقلب إن تشعر بخفقانه على صدرك ترى نبضاته قوية مرتعشة ..وفاضت عينايَ بالدموع
قالت هامسة :
-كأنك تودّعني بعبراتك
قلت وقد فاض بي :
-والله لن تكوني مطيّتي لبلوغ الضفة الأخرى ..تعالي نعدل عن هروبنا ونعود أدراجنا ونستسلم لأقدارنا رأفة بدموع أمك وثوران أبيك ..ولأواجه مصيري راضياً بين أبناء جلدتي
كفانا ما اخترقنا من حقول الألغام حتى وصلنا إلى هنا ..أهلك وأهلي وعاداتنا وأعرافنا وتقاليدنا كلها ألغام دفينة ..ونحن إن وُفّقنا باجتيازها جميعاً فلا يعني ذلك أننا وصلنا إلى مبتغانا
أجابت :
-لا تبتئس ولا ترتدع ، فاللقمة قد وصلت إلى الفم ..وحرامٌ ألا نتناولها وإن كانت مغموسة بالحرام ..وعليك أن تتذكّر أنّ عبور حقل الألغام بدون خارطة لا رجعة فيه ..فأنت إن نجحتَ في الذهاب لا يعني أنك ستنجح في الإياب ..
أهلي وأهلكَ ألغامٌ متحركة لا خارطة لهم ولا مخطط ..بل قل إنهم قنابل موقوتة قد تنفجر في وسواسهم الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس ..فلا تأمن لرجعتك إليهم قد يستقبلونك ثم يسلمونك لبعضهم فتدبّ فيهم حماسة الإنتقام والتشفّي ..وتثور ثائرة الأحقاد الدفينة والحميّة لغسل العار ..فيقتلونك في لحظة غضب يا مَن خطفت ابنتهم ..أما أنا فسأضيع مذبوحة في جريمة شرف لن يندى لها جبين ..والسكين المدمّى سيغسلونه فوق بلاليع الوهم ..والثكالى المقمّطات ستزغردن كاشفاتٍ شعورهنّ عن غبرة الماضي وأوساخه المعشعشة حتى الجذور..هنالك ألغام مزروعة أيضاً بين بصيلات أشعارهن كفقاقيع القيح الوبيل
هيا بنا ولنتابع مسيرتنا ..وكفانا افتراشاً للأسلاك الشائكة
-إن كان لابد مما ليس منه بد ..فليكن الليل سترنا وغطاءنا والقمر دليلنا وكشافنا ..فلنخفّف أحمالنا وأثقالنا ولنزحف نحو مصيرنا في حقل الألغام الأخير
قالت :
-فلا حقائب ولا ثياب ثقيلة
قلت :
-ولا أحذية ولا نعال
قالت وقد غدت ثيابها خفيفة :
-والبرد لن نشعر به بين الألغام ..ولا ملابس ولا أقنعة زائفة ..فلنواجه موتنا بعريٍّ كامل فتلتصق خلايانا المعرّاة وتتّحد في وصالٍ أبدي ..فإن وصلنا عراةً سيدثّروننا بوشاح الحب ، وإن مُتنا فنحن بلا أكفان
قالت ذلك وأصبحت ثيابها كومةً بجانبها ..ولم تبقِ إلا على قلادة ذهبية تتدلى في صدرها ..وتابعت :
-لا تخجل من جسدي المكشوف فأنا هكذا جاهزة للحب ..وللموت !
ساعدَتني في خلع ملابسي حتى الثمالة وكانت القشعريرةُ مسيطرةً عليها والرعدة تهزّها هزّاً ..وكان لابد لي أن أضمَّها إلى صدري لأدفئها وأسترها ..ومن ثغرة عملناها بين الأسلاك الشائكة بدأ زحفنا ..وكنت مطيّة لها وكانت مطية لي ..وبدأ العرق يتفزّر من جسدينا الخائفين ..وبدأ التراب الملتصق يموّهنا وبدأت الأمتار تتناقص في سعينا بين الألغام الدفينة
قالت:
-إنهم يكذبون فلا ألغام حتى الآن
وقالت وقد كثر كلامها لتخفيف غلواء نفسها :
-آهٍ لو يطول الطريق فما أحيلاه في تقلّباتنا ..فأنا فوقك وأنا تحتك والليل الدامس ثالثنا ..نحن حواء وآدم ورائحة التربة النظيفة في أجسادنا ..تقدّم يا جوادي الزاحف والنصر قاب قوسين أو أدنى ..تحسّس بأصابعكَ طريقنا المظلم وتلمّس أي جُحر أو أيَّ ترابٍ منكوش والزمِ الحياد عنه ..تلوى كالأفعى في مسارك فزارعي الألغام يظنّون أننا سنسلك الصّراط المستقيم والطرق الملتوية هي طرق النجاة ..تباطأ في سيرك كالدودة وأنت تحملني وتحتملني إلى فراش الحب زحفاً ..هذا هو موكب عرسنا بين الألغام..لقد أصبحتَ كالحلزون الدّبق يحمل قوقعته ومسارنا معروق ومعروك بمفرزات أجسادنا ..وترابنا شرشفٌ للحب نتمسّح به ولا نخجل من رائحته
وقالت أيضاً ..على وقعِ أنفاسي اللاهثة وقد غدت مسموعة :
-تمهّل إن شئت ..تريّث ..دعني أفترش أرضك وخذ استراحتك المفضلة على صدري كعاشقين في حقل ألغام ..قبّلني بصمت الخائف ولذة السّارق ..ولا تخضخضني ولا ترهزني فينفجر ترابك المزروع بالألغام ..ما أحيلى الحب فوق ترابٍ بكر لا يطؤه إلا زارعي الألغام
انظر القمر يبتسم لنا ..يسايرنا ..لا تنظر إلى الخلف فلم يبقَ إلا القليل ..ها أنا أرى أنوار الضفة الأخرى ..وأرى أضواء سيارات الدورية كأنهم يستعدّون لاستقبالنا
وقالت وقالت ..وكل ذراعٍ نقطعه من الأرض يروي حكاياتٍ شبيهة بالهذيان ..وجملاً مفككة الأوصال ولو بدت متتابعة..كالمخمور يشرب علقمه ويجترّ علائقه ..وينتظر السُّكْر فلا يسكر
مالكَ توقفت وتسمّرت وبدأت تنكمشْ على نفسك ..هل أخذ الإجهاد منك مأخذاً ؟..أم ارتطمت أصابعك بشيءٍ ما ؟
قلت:
-استعدّي لأمرٍ جلل ..كالموت المؤجّل نعرف أننا ماضونَ إليه على مهل ولكنه فاجأنا الآن ..دعينا نلتقط أنفاسنا قبل الوثب إلى الهاوية ..هنالك سلك يعترض طريقنا ..ليس مُكهرباً فقد لمسته ..لكنه مشدودٌ كوتر الربابة الوحيد إن عزفنا عليه سينشد لحناً حزيناً ..وإن جذبناه ستبدأ موسيقى المفرقعات والألعاب النارية تزركش سماءنا ..فلنستغفر ربنا ونطلب الرحمة قبل لقائه
قالت:
-لم تعد تنفع الصلاة أيها الجسد المنبطح ..فلا سجود ولا قيام في حقول الألغام ..والقبلة نحن متجهان إليها ..والله حولنا ولا حول لنا ..اجذب ذلك الوتر أو اعزف عليه بأصابعك ولا تعزف عنه ..ذلك الوتر هو تفاحتنا يا آدم وجذبه هو خطيئتنا الأخيرة ..اقطع حبل الخلاص من مشيمتنا لأننا سنولد من جديد ..مزق ذلك القيد الذي يمنعنا من الحرية
وغافلتني وشدّت ذلك السلك على عينين مغمضتين وكأنها ستفتح أبواب جهنم..ويغمض المرء عيونه إن رمى بنفسه من أعلى الجرف ويأمل أن يفتحهما ثانية ليُحصِ خسائرَه ..
لا ..لم نمت بعد ..
لكنّ صفارات الإنذار وأجراسه جُنَّ جنونها ..والأنوار الكاشفة حوّلت الليل إلى نهارٍ اصطناعيّ ..ونباح الكلاب يوحي بالنفير ..وسيارات الدورية في الضفة الأخرى دارت محركاتها ..لقد أصبحنا مكشوفين يا امرأة ..وعراة (كحواء وآدم ) حتى من ورقة التوت ..وخطاة هاربين من العدالة في جنة الألغام ..ولا إدبار ولا إقدام.. ننتظر أن يمسكوا بنا بالجرم المشهود ..تعالي نستر عوراتنا بالتراب المجبول قبل وصول الكلاب وحرس الحدود
واهتدت الكلاب إلى موقعنا بسرعة ..وأحاط بنا الحرس ونهرونا بلغتهم الأجنبية ..وتفرّجوا علينا بتفحّص كبضاعةٍ معروضة في سوق النخاسة ..وما زلنا متّحدين خوفاً وبرداً وخجلاً ..منكبّين على بعضنا وكانت هي السلحفاة وكنت قوقعتها قاسية الظهر ..وقد تلمَسُ أحذيتهم وأطراف بنادقهم أطراف السلحفاة فتنكمش ..كانوا يريدون فصلنا عن بعضنا خوفاً من سلاحٍ نخبّئه بيننا ..هه هه ولا سلاح بيننا مخفيّ إلا سلاح الحب ..وترفض السلحفاة عندها التحرك وتأبى الإنقلاب حتى لا يظهر بطنها الطري
ولمَعَت تكراراً عدسات التصوير في أيديهم تحت ابتساماتهم الساخرة ونظراتهم المستغربة ..أحدهم خجل مثلنا فخلع معطفه ليسترنا
وفي الضفة الأخرى وبعد ساعات من التحقيق ..قيل أننا قُبِلنا كلجوءٍ إنساني لهاربَين ينشدان الحبَّ الممنوع
والآن ..وأنا أكتب وأشطب ..أنتقي كلماتي انتقاءً وأتلوّى بين السطور ..كأنني أكتب في حقل ألغام ..قد تنفجر بي أية كلمة ..أو تجرجرني نحو صفارات الإنذار والكلاب الشمّامة ..ومقصّات الرقيب ..فأصبح متهماً بأنني تجاوزت الحدود وتخطيت الهوامش والحواجز واللوائح ..والشروط المعلنة والقوانين المرعية
الرأفة والرحمة لكل من يكتب متعرياً ..مكشوفاً ومفضوحاً ..كالرسام يرسم محبوبته عارية في مرسمه الفوضوي ..فلا تخجل من ريشته المجبولة بالألوان الزيتية ..لوحتك حقل ألغام أيضاً يا هذا ..وصورتها بالمجمل عورات وعورات موقوتة ..إن لمستها دمّرتك تدميراً
أسدلوا ستارتكم على كل ما قيل ..وليخلع أحدكم معطفه ويغطي مقالتي في أدراج النسيان لأنّ كلماتها ترتجف ..من البرد أو من الخوف أو الخجل أو التردّد ..لست أدري.
***************************