يخطر ببالي من حين لآخر تساؤل عمّا إذا كان المشتغلون في حقل الترجمة يتضايقون من فضول المتفلسفة الذين يبدون كأنّهم "يستغلّون" هذا الحقل استغلالا بهدف إثارة أسئلتهم ومعالجة مشاكلهم وطرق قضاياهم. صحيح أنّ نقاط التقاء تجمع هؤلاء بأولئك، بل وتضمّ إليهم مشتغلين في حقول أخرى، إلا أنّ النظرة التي ترسخت عن الفلسفة عبر تاريخها، تجعل البعض، وربما عن غير كامل بُعد عن الصواب، تجعلهم يعتبرون أنّ الفلاسفة يحشرون أنوفهم في مجالات ربما لم تكن من اختصاصهم.
الظاهر أنه ليس من العسير العثور على ما يعضد هذا الرأي. فالفلسفة لم تكتف عبر تاريخها بالفضول، بل إنّها ادّعت الاحتضان والأمومة، وزعمت أنّ مهمتها هي التأسيس والتأصيل، مهمّتها إقامة الأسس وإثبات الأصول. ربما من أجل ذلك برّرت لنفسها، وخلال حقبة ليست بالقصيرة، تدخلها في العلوم، برّرت فضولها العلميّ. اقتضى الأمر جدالا ليس باليسير، وزمنا ليس بالقصير، كي يتضح أن العلوم في غنى عن مثل هذا التأسيس، وقد أوضح باشلار ذلك بما يغني عن التذكير. إلا أنّه لم يَحْرم الفلسفة، على رغم ذلك، من الانفتاح على العلوم. لكنه يأبى لهذا الانفتاح أن يكون نوعا من البحث عن دعائم تسند مواقفها، والأهمّ من ذلك، أن يكون نوعا من التمارين التطبيقية التي يخوضها الفيلسوف، بعد أن يكون قد طرق القضايا نفسها في حقله الخاص.
لنعد إذن إلى علاقة الفلسفة بالترجمة حتى لا نبتعد عن غرضنا. لا أظنّ أنّ مسعى الفيلسوف وهو يهتمّ بقضايا الترجمة هو أن يؤسّس لمواقف اللسانيين ونقاد الأدب، وليس بالأولى أن يغني عن التناول الذي يمكن لدراساتهم أن تسهم به في هذا المجال. قد تسعفنا عبارة لجيل دولوز في هذا الصدد، مؤدّاها أن الفلسفة من شأنها أن تجعل الدراسة تمتدّ، أن تجعل النص يمتدprolonger le texte . وفي ما يعنينا هنا لنقل أن التدخل الممكن للفلسفة في ميدان الترجمة هو أن تجعل الدراسات اللسانية والشعرية والأدبية تمتدّ إلى القضايا الكبرى التي يطرحها الاستنساخ، والى مفهومات النموذج والأيقونة والتكرار والتشابه والاختلاف..والأصل.
ما يلزم التأكيد عليه هنا هو أن هذه المفهومات متجذرة في تاريخ الميتافيزيقا، وهي من أجل ذلك صعبة التحديد، عسيرة التفكيك، ومن ثمّة فربما ينبغي تصيّدها، أو لنقل بتعبير نيتشه ضبطها apprehender في مناسبات متعددة وفي حقول متنوعة. كأن تفكيكها لا يستنفد في حقل بعينه. ربما وجدنا عند صاحب التفكيك ما يدعّم هذا الرأي، حيث نجد أن دريدا يعرض للمفهوم ذاته مرة في حقل الأنتروبولوجيا، ومرة في حقل التحليل النفسي، ومرة في حقل تاريخ الفلسفة وأخرى في حقل الترجمة. هي إذن كما يقول أصحاب الموسيقى تنويعات على النغمة نفسها، أو لنستعمل إن فضلنا وعلى غرار دريدا، لفظا أقرب إلى لغة العراك وإلى الاستراتيجية، فنقول: إنها "ضربات" متنوعة.
يتضح هذا الأمر أتم الوضوح بصدد المفهوم الذي يعنينا هنا، وأقصد مفهوم الأصل. قد لا يتسع المجال بطبيعة الحال للوقوف عند مختلف الضربات التي تلقاها هذا المفهوم سواء في حقل الابيستمولوجيا وفلسفة العلوم، وخصوصا الرياضي منها، أو في مجال التحليل النفسي، كما لا يمكن أن نستعرض اللحظات الأساسية التي عرف فيها هزات كبرى، ويكفي أن نتوقف عند ما يمكن اعتباره الضربة الكبرى التي تلقاها على يد الموقف الجينيالوجي.
نعرف أنّ نيتشه يميّز بين مفهومين عن الأصل: أصل كرسته الميتافيزيقا في " بحثها عن الدلالات المثالية والغائيات غير المحددة"، وآخر يريد أن يكون مضادا، وهو بالضبط ما يسعى التاريخ الجنيالوجي إلى إقامته. هناك أصل مؤسّس وآخر يتأسس.
الأصل الأوّل هو أصل "أوّل". فيه تكون الأمور قد "تمّت وحصلت"، كي تحدّد أساس كلّ ما سيتمّ ويحصل. إنّه النموذج قبل أن يبدأ الاستنساخ، وهو موطن حقيقة الأشياء: أي ما يجعلها ما هي عليه، وما يجعل معرفتها وإدراك حقيقتها أمرا ممكنا، ما "يؤسّس" ها، وما "يؤسّس" معرفتها.
ضدّ هذا الأصل تقوم الجينيالوجيا لتكشف أنّ ما نعثر عليه في البدء ليس "حقيقة" الأشياء، ليس الأصل الذي يؤسّس، وليس الهوية التي تحفظ وتصون، وإنما التبعثر والتشتت.
البحث عن الأصل إذن لا يؤسّس، إنه يربك ما ندركه ثابتا، ويحرك ما نفترضه ساكنا، ويجزئ ما نراه موحدا، ويفكك ما نعتبره متطابقا.
سأسمح لنفسي، بعد هذا التلخيص المقتضب للموقف الجينيالوجي، لا أن أطبقه على حقل الترجمة، ولا أن أؤسس لما يقوله أهل الدار عن النص الأصلي، وإنما أن أجعل النص الفلسفي، وهو هنا تمهيد كتاب " جنيالوجيا الأخلاق" أجعله يمتدّ بفتحه على حقل مغاير. فكأنّي أنا الذي أجيء إلى الترجمة سائلا وليس مؤسّسا، وأطلب، لا أقول تأسيس، وإنما تمديد النص الفلسفي، فأتساءل : أليس هذا الإرباك الذي يتحدّث عنه نيتشه، أليس هو ما تتعرّض له الأصول عندما تحشر في عملية الترجمة وتنقل من لغة إلى أخرى، ومن كاتب لآخر، ومن متلقّ إلى آخر؟
في مهمة المترجم، وهو كما نعلم تمهيد لترجمة ألمانية لأشعار بودلير، يؤكد فالتر بنيامين أن الترجمة تزحزح الأصل عن موقعه، وتجعله " يفصح عن حنينه إلى ما يتمم لغته ويكمل نقصها" فتحط من مكانته وتنزله من عليائه وتكشف عن عوزه، فترمي به في حركة التاريخ. الترجمات هي " ما يشكل تاريخ النص "، أي ما يسمح باستمراره وبقائه، بل بنموه وتجدده. إنّها تجعل النص في ابتعاد عن ذاته يهاجر موطنه الأصلي ومكانه المميّز كي يعيش في نسخه ويتغذى من حبرها.
في تعليق له على هذا النص، وتحديدا للفعل survivre الذي يستخدم بنيامين مرادفه الألماني، يضيف دريدا: إن الأصل " بفضل ترجماته لا يعيش مدة أطول، بل مدة أطول وفي حلة أحسن mieux ". بفضل الترجمة يحيا الأصل " فوق مستوى مؤلفه Au dessus des moyens de son auteur "، بفضل الترجمات " لا يبقى الأصل ويدوم فحسب، لا ينمو ويتزايد فحسب، وإنما يبقى ويرقى sur-vit".
غني عن البيان أنّ دريدا لا يعني هنا ارتقاء قيميا بمقتضاه تكون الفروع أعلى من أصولها مقاما، وتغدو النسخ أكثر من أصولها جودة وأروع بيانا وأعمق فكرا. المقصود بطبيعة الحال بعبارة au dessus des moyens أن النص عندما ينقل إلى اللغات الأخرى فإنّه يحيا " فوق مستوى مؤلفه". فوق مستواه يعني أساسا خارج رقابته وخارج سلطته من حيث هو مؤلف. فوق مستواه يعني أنه لا يملك أمامه حيلة. ذلك أن المؤلف سرعان ما يتبين عند كل ترجمة انه عاجز عن بسط سلطته على النص لحصر معانيه وضبطها، والتحكم في المتلقي مهما تنوعت مشاربه اللغوية والثقافية. فالترجمة ترسّب بقايا تنفلت من كل رقابة شعورية، وتجعل المعاني في اختلاف عن ذاتها، لا تحضر إلا مبتعدة عنها مباينة لها، خصوصا عندما تكون مرغمة على التنقل بين الأحقاب والتجوّل بين اللغات.
كتب غوته : "علينا أن نفحص ما تستشعره أنفسنا إزاء العمل المترجم، و نرى إلى أي حد يكون في إمكان هذه القوة الحية أن تستثير قوتنا و تخصبها". المسألة إذن هي أن نتبين، ونحن نترجم، ما هو الممكن، والى أي مدى يمكننا أن نذهب بلغة الاستقبال؟ ما هي الليونة التي تسمح بها بفعل الإخصاب الذي تقوم به الترجمة؟ لفظ الإخصاب الذي يستخدمه غوته هنا يدل على مدى فعالية الترجمة التي تجعل اللغة المترجمة تفصح عن إمكانيات لا عهد لنا بها.
ليست الترجمة إذن انتقالا من محتوى دلالي قار نحو شكل من التعبير مخالف، وإنما هي نمو وتخصيب للمعنى بفعل لغة تكشف، بفضل عملية التخالف الباطنية، عن إمكانيات جديدة.
وهكذا فإن الأصول تحمل في ذاتها انفلاتها عن نفسها. لهذا المعنى يشير بورخيس عندما يعتبر الأصل إحدى المسوّدات الممكنة التي تعبد الطريق لنص سيكتب بلغة أخرى، فكأن الترجمة نوع من التنقيب عن مسودات الكاتب الثاوية خلف مبيضته. إنّها بحث عن أصل الأصل، أو أصول الأصل على الأصح، بحث عن "أصغر الحقائق المتكتمة" على حد تعبير نيتشه.
بهذا المعنى تكون الترجمات هي ما يشهد على البدايات المتكررة و المتعثرة للأصل. ذلك أن الأصل يتعثر ويتلكأ. انه ليس اكتمالا يتهدده النقصان، وإنما هو انفتاح على إمكانيات غير متوقعة. والترجمات هي ما يبعث فيه الحياة بكل ما فيها من سواد وبياض حتى لا يبدو، وكما تريده الميتافيزيقا، وكأنه أصل طاهر مكتمل سبق كل البدايات، أصل في غنى عن كل زيادة ونمو، أصل بعيد عن كل حذف وخدش وتسويد.
الظاهر أنه ليس من العسير العثور على ما يعضد هذا الرأي. فالفلسفة لم تكتف عبر تاريخها بالفضول، بل إنّها ادّعت الاحتضان والأمومة، وزعمت أنّ مهمتها هي التأسيس والتأصيل، مهمّتها إقامة الأسس وإثبات الأصول. ربما من أجل ذلك برّرت لنفسها، وخلال حقبة ليست بالقصيرة، تدخلها في العلوم، برّرت فضولها العلميّ. اقتضى الأمر جدالا ليس باليسير، وزمنا ليس بالقصير، كي يتضح أن العلوم في غنى عن مثل هذا التأسيس، وقد أوضح باشلار ذلك بما يغني عن التذكير. إلا أنّه لم يَحْرم الفلسفة، على رغم ذلك، من الانفتاح على العلوم. لكنه يأبى لهذا الانفتاح أن يكون نوعا من البحث عن دعائم تسند مواقفها، والأهمّ من ذلك، أن يكون نوعا من التمارين التطبيقية التي يخوضها الفيلسوف، بعد أن يكون قد طرق القضايا نفسها في حقله الخاص.
لنعد إذن إلى علاقة الفلسفة بالترجمة حتى لا نبتعد عن غرضنا. لا أظنّ أنّ مسعى الفيلسوف وهو يهتمّ بقضايا الترجمة هو أن يؤسّس لمواقف اللسانيين ونقاد الأدب، وليس بالأولى أن يغني عن التناول الذي يمكن لدراساتهم أن تسهم به في هذا المجال. قد تسعفنا عبارة لجيل دولوز في هذا الصدد، مؤدّاها أن الفلسفة من شأنها أن تجعل الدراسة تمتدّ، أن تجعل النص يمتدprolonger le texte . وفي ما يعنينا هنا لنقل أن التدخل الممكن للفلسفة في ميدان الترجمة هو أن تجعل الدراسات اللسانية والشعرية والأدبية تمتدّ إلى القضايا الكبرى التي يطرحها الاستنساخ، والى مفهومات النموذج والأيقونة والتكرار والتشابه والاختلاف..والأصل.
ما يلزم التأكيد عليه هنا هو أن هذه المفهومات متجذرة في تاريخ الميتافيزيقا، وهي من أجل ذلك صعبة التحديد، عسيرة التفكيك، ومن ثمّة فربما ينبغي تصيّدها، أو لنقل بتعبير نيتشه ضبطها apprehender في مناسبات متعددة وفي حقول متنوعة. كأن تفكيكها لا يستنفد في حقل بعينه. ربما وجدنا عند صاحب التفكيك ما يدعّم هذا الرأي، حيث نجد أن دريدا يعرض للمفهوم ذاته مرة في حقل الأنتروبولوجيا، ومرة في حقل التحليل النفسي، ومرة في حقل تاريخ الفلسفة وأخرى في حقل الترجمة. هي إذن كما يقول أصحاب الموسيقى تنويعات على النغمة نفسها، أو لنستعمل إن فضلنا وعلى غرار دريدا، لفظا أقرب إلى لغة العراك وإلى الاستراتيجية، فنقول: إنها "ضربات" متنوعة.
يتضح هذا الأمر أتم الوضوح بصدد المفهوم الذي يعنينا هنا، وأقصد مفهوم الأصل. قد لا يتسع المجال بطبيعة الحال للوقوف عند مختلف الضربات التي تلقاها هذا المفهوم سواء في حقل الابيستمولوجيا وفلسفة العلوم، وخصوصا الرياضي منها، أو في مجال التحليل النفسي، كما لا يمكن أن نستعرض اللحظات الأساسية التي عرف فيها هزات كبرى، ويكفي أن نتوقف عند ما يمكن اعتباره الضربة الكبرى التي تلقاها على يد الموقف الجينيالوجي.
نعرف أنّ نيتشه يميّز بين مفهومين عن الأصل: أصل كرسته الميتافيزيقا في " بحثها عن الدلالات المثالية والغائيات غير المحددة"، وآخر يريد أن يكون مضادا، وهو بالضبط ما يسعى التاريخ الجنيالوجي إلى إقامته. هناك أصل مؤسّس وآخر يتأسس.
الأصل الأوّل هو أصل "أوّل". فيه تكون الأمور قد "تمّت وحصلت"، كي تحدّد أساس كلّ ما سيتمّ ويحصل. إنّه النموذج قبل أن يبدأ الاستنساخ، وهو موطن حقيقة الأشياء: أي ما يجعلها ما هي عليه، وما يجعل معرفتها وإدراك حقيقتها أمرا ممكنا، ما "يؤسّس" ها، وما "يؤسّس" معرفتها.
ضدّ هذا الأصل تقوم الجينيالوجيا لتكشف أنّ ما نعثر عليه في البدء ليس "حقيقة" الأشياء، ليس الأصل الذي يؤسّس، وليس الهوية التي تحفظ وتصون، وإنما التبعثر والتشتت.
البحث عن الأصل إذن لا يؤسّس، إنه يربك ما ندركه ثابتا، ويحرك ما نفترضه ساكنا، ويجزئ ما نراه موحدا، ويفكك ما نعتبره متطابقا.
سأسمح لنفسي، بعد هذا التلخيص المقتضب للموقف الجينيالوجي، لا أن أطبقه على حقل الترجمة، ولا أن أؤسس لما يقوله أهل الدار عن النص الأصلي، وإنما أن أجعل النص الفلسفي، وهو هنا تمهيد كتاب " جنيالوجيا الأخلاق" أجعله يمتدّ بفتحه على حقل مغاير. فكأنّي أنا الذي أجيء إلى الترجمة سائلا وليس مؤسّسا، وأطلب، لا أقول تأسيس، وإنما تمديد النص الفلسفي، فأتساءل : أليس هذا الإرباك الذي يتحدّث عنه نيتشه، أليس هو ما تتعرّض له الأصول عندما تحشر في عملية الترجمة وتنقل من لغة إلى أخرى، ومن كاتب لآخر، ومن متلقّ إلى آخر؟
في مهمة المترجم، وهو كما نعلم تمهيد لترجمة ألمانية لأشعار بودلير، يؤكد فالتر بنيامين أن الترجمة تزحزح الأصل عن موقعه، وتجعله " يفصح عن حنينه إلى ما يتمم لغته ويكمل نقصها" فتحط من مكانته وتنزله من عليائه وتكشف عن عوزه، فترمي به في حركة التاريخ. الترجمات هي " ما يشكل تاريخ النص "، أي ما يسمح باستمراره وبقائه، بل بنموه وتجدده. إنّها تجعل النص في ابتعاد عن ذاته يهاجر موطنه الأصلي ومكانه المميّز كي يعيش في نسخه ويتغذى من حبرها.
في تعليق له على هذا النص، وتحديدا للفعل survivre الذي يستخدم بنيامين مرادفه الألماني، يضيف دريدا: إن الأصل " بفضل ترجماته لا يعيش مدة أطول، بل مدة أطول وفي حلة أحسن mieux ". بفضل الترجمة يحيا الأصل " فوق مستوى مؤلفه Au dessus des moyens de son auteur "، بفضل الترجمات " لا يبقى الأصل ويدوم فحسب، لا ينمو ويتزايد فحسب، وإنما يبقى ويرقى sur-vit".
غني عن البيان أنّ دريدا لا يعني هنا ارتقاء قيميا بمقتضاه تكون الفروع أعلى من أصولها مقاما، وتغدو النسخ أكثر من أصولها جودة وأروع بيانا وأعمق فكرا. المقصود بطبيعة الحال بعبارة au dessus des moyens أن النص عندما ينقل إلى اللغات الأخرى فإنّه يحيا " فوق مستوى مؤلفه". فوق مستواه يعني أساسا خارج رقابته وخارج سلطته من حيث هو مؤلف. فوق مستواه يعني أنه لا يملك أمامه حيلة. ذلك أن المؤلف سرعان ما يتبين عند كل ترجمة انه عاجز عن بسط سلطته على النص لحصر معانيه وضبطها، والتحكم في المتلقي مهما تنوعت مشاربه اللغوية والثقافية. فالترجمة ترسّب بقايا تنفلت من كل رقابة شعورية، وتجعل المعاني في اختلاف عن ذاتها، لا تحضر إلا مبتعدة عنها مباينة لها، خصوصا عندما تكون مرغمة على التنقل بين الأحقاب والتجوّل بين اللغات.
كتب غوته : "علينا أن نفحص ما تستشعره أنفسنا إزاء العمل المترجم، و نرى إلى أي حد يكون في إمكان هذه القوة الحية أن تستثير قوتنا و تخصبها". المسألة إذن هي أن نتبين، ونحن نترجم، ما هو الممكن، والى أي مدى يمكننا أن نذهب بلغة الاستقبال؟ ما هي الليونة التي تسمح بها بفعل الإخصاب الذي تقوم به الترجمة؟ لفظ الإخصاب الذي يستخدمه غوته هنا يدل على مدى فعالية الترجمة التي تجعل اللغة المترجمة تفصح عن إمكانيات لا عهد لنا بها.
ليست الترجمة إذن انتقالا من محتوى دلالي قار نحو شكل من التعبير مخالف، وإنما هي نمو وتخصيب للمعنى بفعل لغة تكشف، بفضل عملية التخالف الباطنية، عن إمكانيات جديدة.
وهكذا فإن الأصول تحمل في ذاتها انفلاتها عن نفسها. لهذا المعنى يشير بورخيس عندما يعتبر الأصل إحدى المسوّدات الممكنة التي تعبد الطريق لنص سيكتب بلغة أخرى، فكأن الترجمة نوع من التنقيب عن مسودات الكاتب الثاوية خلف مبيضته. إنّها بحث عن أصل الأصل، أو أصول الأصل على الأصح، بحث عن "أصغر الحقائق المتكتمة" على حد تعبير نيتشه.
بهذا المعنى تكون الترجمات هي ما يشهد على البدايات المتكررة و المتعثرة للأصل. ذلك أن الأصل يتعثر ويتلكأ. انه ليس اكتمالا يتهدده النقصان، وإنما هو انفتاح على إمكانيات غير متوقعة. والترجمات هي ما يبعث فيه الحياة بكل ما فيها من سواد وبياض حتى لا يبدو، وكما تريده الميتافيزيقا، وكأنه أصل طاهر مكتمل سبق كل البدايات، أصل في غنى عن كل زيادة ونمو، أصل بعيد عن كل حذف وخدش وتسويد.