كان الميدان يئن تحت وطأة ظهيرة قائظة، ورطوبة لاتحتمل، فشمس أغسطس تتعامد فوق المبانى وأسفلت الطرقات، تلهب رؤوس البشر وكافة الأشياء .
رغم هذا، كان هناك بشر كثيرون، وحركة دائبة، وثمة رجل يمشى بطيئا فى هذا الزحام، جذبنى إليه المعطف الصوفى الثقيل الذى يرتديه فى هذا التوقيت من العام .
كان يمشى وحيدا، منكفئا فى لامبالاة واضحة، منسلخا عن كل مايحيط به فى هذا العالم .
كيف يحتمل ؟
تساءلت
واندفعت وراء فضول صبيانى طارئ لرؤية وجهه. لم أبذل جهدا كبيرا للحاق به، ثم تجاوزه بعدة خطوات تتيح التطلع إليه عن قرب وهو يتقدم إلى الأمام .
للوهلة بدا لى مستغرقا فى تفكير عميق وهو ينظر إلى الأرض لايرفع عينيه عنها، وشفتاه تهمسان بكلمات غير مسموعة، بينما وقع خطواته المتهالكة يبعث الآسى فى النفوس .
لم أكن أدرى أسباب تلك الرغبةالغامضة للإهتمام بالرجل على هذا النحو المفاجئ، وقبل أن تروادنى فكرة التراجع عثرت على الدافع الخفى الذى جعلنى مشدودا إليه، حدث ذلك عندما رفع هامته للحظات ثم عاد إلى الإطراق مرة أخرى، وجدتنى أعرفه تماما.
هذا ماتأكد لى رغم إنقضاء سنوات طويلة لم أره فيها، على الفور، نشطت ذاكرتى وطفت على السطح تلك الايام التى مرت سريعا، فوقفت حائرا تحت تأثير مباغت من الدهشة وعدم التصديق، أنظر إليه وهو يجر قدميه ويمر أمامى فى خطوات رتيبة ومتثاقلة لم تستطع محو بقايا زهو وكبرياء، رغم تلك الهيئة البائسة .
بعد تفكير سريع قررت أن أستوقفه. برفق شديد نقرت فوق كتفه بأطراف أصابعى، فتوقف عن السير، ثم استدار بصعوبة بالغة .
بادرته باسمه مغتعلا ابتسامة مشجعة، صوب إلى نظرة خاملة من عينين مطفأتين ذهب بريقهما دون أن يفوه بكلمة واحدة .
عاودت ترديد اسمه مرة أخرة قبل أن يهيمن الفتور، لكن لحظات ثقيلة من الصمت مرت وهو يتأملنى بتكاسل واضح، نطق بعدها بصوت خافت أرهقنى سماعه .
ماذا تريد ؟
شعرت بالسعادة لالتقاطى أول الخيط .
ألاتذكرنى ؟
قلت
لم تبد عليه علامات التفكير أو سيماء التذكر،وبدرت عنه حركة يسيرة تنبئ عن عزمه المضى فى طريقه ، فسارعت فى الحال محاولا استبقائه .
انظر جيدا، ربما عرفتنى
بدا الارتباك والحيرة يسيطران علينا .
فشعرت أن كل شخص فى الميدان ينظر إلينا، للتخلص من هذا الموقف المشحون بالغرابة شرعت أحدثه عن أشياء لها وقع خاص لديه، ربما تركت أثرا فى نفسه، وحركت فى ذاكرته بادرة أمل .
حدثته عن زمالتنا فى الجامعة، انضمامنا لأسرة الأرض، المظاهرات التى كان يفجرها، ويقوم بقيادتها اذا لاحت فى الأفق بوادر خيانة .
التمعت عيناه فجأة مع الكلمات الأخيرة، ترقرقرت فيهما دموع خفيفة، لكنه ظل ساكنا .
فى محاولة أخيرة لتبديد إرهاصات اليأس، ومشاعرالإحباط اللذين بدءا يجثمان فوق صدرى .
قلت له :
سأختصر عليك هذا العناء .
ونطقت اسمه عله يتذكر، فارتسمت على وجهه أطياف ابتسامة ضئيلة ومروعة، هتف بعدها باسمى، ثم سرعان ماتلاشت، ابتسامة لاتصدر إلا عن هؤلاء الذين تحولوا إلى رماد، وفقدوا اى ارتباط حقيقى بالحياة وهم يهيمون على وجوههم، جثثا فارقتها الروح، وتنتظر مواراة التراب، فأدركت فى أى موقف عبثى فادح أنا، حيث أقف فى ميدان عام يرزح تحت وطأة أجواء خانقة، أتحدث عن التاريخ والوطن، وأشياء راحت تفقد معانيها، أرددها على مسامع رجل احترقت ذاكرته، ولم يعد يعى شيئا مما أقول .
* منقول عن:
رجل فى الميدان | صابر رشدي - مصر - الموجة الثقافية
رغم هذا، كان هناك بشر كثيرون، وحركة دائبة، وثمة رجل يمشى بطيئا فى هذا الزحام، جذبنى إليه المعطف الصوفى الثقيل الذى يرتديه فى هذا التوقيت من العام .
كان يمشى وحيدا، منكفئا فى لامبالاة واضحة، منسلخا عن كل مايحيط به فى هذا العالم .
كيف يحتمل ؟
تساءلت
واندفعت وراء فضول صبيانى طارئ لرؤية وجهه. لم أبذل جهدا كبيرا للحاق به، ثم تجاوزه بعدة خطوات تتيح التطلع إليه عن قرب وهو يتقدم إلى الأمام .
للوهلة بدا لى مستغرقا فى تفكير عميق وهو ينظر إلى الأرض لايرفع عينيه عنها، وشفتاه تهمسان بكلمات غير مسموعة، بينما وقع خطواته المتهالكة يبعث الآسى فى النفوس .
لم أكن أدرى أسباب تلك الرغبةالغامضة للإهتمام بالرجل على هذا النحو المفاجئ، وقبل أن تروادنى فكرة التراجع عثرت على الدافع الخفى الذى جعلنى مشدودا إليه، حدث ذلك عندما رفع هامته للحظات ثم عاد إلى الإطراق مرة أخرى، وجدتنى أعرفه تماما.
هذا ماتأكد لى رغم إنقضاء سنوات طويلة لم أره فيها، على الفور، نشطت ذاكرتى وطفت على السطح تلك الايام التى مرت سريعا، فوقفت حائرا تحت تأثير مباغت من الدهشة وعدم التصديق، أنظر إليه وهو يجر قدميه ويمر أمامى فى خطوات رتيبة ومتثاقلة لم تستطع محو بقايا زهو وكبرياء، رغم تلك الهيئة البائسة .
بعد تفكير سريع قررت أن أستوقفه. برفق شديد نقرت فوق كتفه بأطراف أصابعى، فتوقف عن السير، ثم استدار بصعوبة بالغة .
بادرته باسمه مغتعلا ابتسامة مشجعة، صوب إلى نظرة خاملة من عينين مطفأتين ذهب بريقهما دون أن يفوه بكلمة واحدة .
عاودت ترديد اسمه مرة أخرة قبل أن يهيمن الفتور، لكن لحظات ثقيلة من الصمت مرت وهو يتأملنى بتكاسل واضح، نطق بعدها بصوت خافت أرهقنى سماعه .
ماذا تريد ؟
شعرت بالسعادة لالتقاطى أول الخيط .
ألاتذكرنى ؟
قلت
لم تبد عليه علامات التفكير أو سيماء التذكر،وبدرت عنه حركة يسيرة تنبئ عن عزمه المضى فى طريقه ، فسارعت فى الحال محاولا استبقائه .
انظر جيدا، ربما عرفتنى
بدا الارتباك والحيرة يسيطران علينا .
فشعرت أن كل شخص فى الميدان ينظر إلينا، للتخلص من هذا الموقف المشحون بالغرابة شرعت أحدثه عن أشياء لها وقع خاص لديه، ربما تركت أثرا فى نفسه، وحركت فى ذاكرته بادرة أمل .
حدثته عن زمالتنا فى الجامعة، انضمامنا لأسرة الأرض، المظاهرات التى كان يفجرها، ويقوم بقيادتها اذا لاحت فى الأفق بوادر خيانة .
التمعت عيناه فجأة مع الكلمات الأخيرة، ترقرقرت فيهما دموع خفيفة، لكنه ظل ساكنا .
فى محاولة أخيرة لتبديد إرهاصات اليأس، ومشاعرالإحباط اللذين بدءا يجثمان فوق صدرى .
قلت له :
سأختصر عليك هذا العناء .
ونطقت اسمه عله يتذكر، فارتسمت على وجهه أطياف ابتسامة ضئيلة ومروعة، هتف بعدها باسمى، ثم سرعان ماتلاشت، ابتسامة لاتصدر إلا عن هؤلاء الذين تحولوا إلى رماد، وفقدوا اى ارتباط حقيقى بالحياة وهم يهيمون على وجوههم، جثثا فارقتها الروح، وتنتظر مواراة التراب، فأدركت فى أى موقف عبثى فادح أنا، حيث أقف فى ميدان عام يرزح تحت وطأة أجواء خانقة، أتحدث عن التاريخ والوطن، وأشياء راحت تفقد معانيها، أرددها على مسامع رجل احترقت ذاكرته، ولم يعد يعى شيئا مما أقول .
* منقول عن:
رجل فى الميدان | صابر رشدي - مصر - الموجة الثقافية