أنحدر مخلّفًا مبان كثيرة انتصبتْ فيما كان يُعرف بـِ ( گاع الشعيبي). وحين تلوح لي شناشيل الخشب، أو ما تبقّى منها، في البيت الوحيد الذي ما زال قائمًا على حاله؛ أدرك أنني وصلت.
لا أدري كيف استقرّ ذلك الاسم الطويل كلّه في ذاكرتي كلّ هذا الوقت! هل كان موجودًا حقًّا على يافطتها الكبيرة؛ مع أنّ (البطاقة الشخصية للتلميذ) تقف عند كلمة (التطبيقية) دون أية إضافات أخرى؟ أم أنني كنت سبّاقًا في المزاوجة بين الاسمين! خصوصًا وأنّ ما أقرأه الآن على يافطتها الصغيرة المحبوسة خلف باب حديد مغلق: (مدرسة الجمهورية الابتدائية النموذجية للبنين)؟!
لم أكنْ أنا الذي يقترب.. بل ذلك الصغير ببنطلونه الرصاصي وقميصه الأبيض، يميل جسده تجاه حقيبته البنية المتدلية من يده. يبدو المسمار، وقد أدخله أبي في حلقة يد الحقيبة المقطوعة ليعيد ربطها، واضحًا.. إلا أنه، وهو يحملها بيده ليتفحّصها بعد أنْ أنهى مهمته ونهض تاركًا عدّة عمله مبعثرة حوله، قال: (ما مبيّن). وكنتُ أراه معقوفًا.. أتحسس رأسه المدبب بإبهامي وأنا أسير محاولًا اللحاق بأخي، وكان قد غاب منذ عقود، وهو يستحثّني للوصول قبل أن يدقّ الجرس ويظهر الأستاذ (عبد الرزاق الشاهين)(1) بجسده النحيل في رواق مدخل المبنى
وإذ أقترب؛ لا ترى عيناي عارضة الحديد عند رأس الشارع المقابل، ولا فوضى علب الحراسة الموضوعة بعدها مبتلعة الرصيف كلّه وبعضًا من الطريق.. لا المبنى الكبير المشيّد حديثًا عند زاوية الشارع الأخرى.. ولا السيارات الكثيرة المتوقفة على جانبيّ الطريق في حين يتجمّع سائقوها قريبًا من بوابة المدرسة.. لم أكن أرى كل ذلك.
كنتُ، وأنا أمرّ أمام مساحة أرض خالية يبدو أنها مسحتْ حديثًا، أتجاوز (دكان عزيز) الملغّز بالأسرار كصاحبه الواقف أمامه دومًا بمعطف داكن وكوفية تخفي ملامحه.. كنتُ أرى بيت (سؤدد فرانسو) بطابوقه الذي يبدو مغسولًا على الدوام.. دكان (عبود) المبتعد قليلًا في الشارع المجاور حيث كان يسمح لنا، أحيانًا، بالخروج إليه لشراء (نصف لفّة) بـ(10) فلوس بعد أن أصبح دوامنا من الساعة (8) صباحًا وحتى (2) بعد الظهر؛ بستة دروس كاملة واستراحة طويلة بعد الدرس الرابع أسميناها: (فرصة الأكل)! وقد كان قبل ذلك لفترتين: من الساعة (8) إلى الساعة (12) ظهرًا.. ثم من الساعة (2) بعد الظهر وحتى (4) عصرًا.!!
مدرسة الجمهورية
أصبح بمواجهة مبنى المدرسة فأجد أنه ما زال محتفظًا بارتفاعه عن الشارع.. مع أنّ (مدرسة الملك فيصل).. وهو الاسم الذي شيّدتْ به عام 1930م في عهد الملك فيصل الأول رحمه الله. يؤشر ذلك إلى بعد رؤية الجهة التي صممت المبنى وأشرفتْ على تنفيذه.. على خلاف الكثير من مدارسنا التي بُنيت لاحقًا واستحالتْ، بسبب ارتفاع شوارعنا المستمر، إلى حفر.
يغيب (أبو زكي) عن تجمهر سواق حافلات نقل التلاميذ عند البوابة.. ولم أره وأنا أرتقي الدرجات لأصل إلى مدخل المبنى، في حين تجلس امرأة، ملفوفة بالسواد، في ذات المكان الذي كان يقف فيه (ناجح)(2) عند باب غرفة المدير. لا يبدو أنها رأتني وأنا أدخل.. غير أنها انتبهت إليّ لمّا وقفتُ قريبًا منها.
لم يكن المدير موجودًا. ومع أنّ بابًا مستحدثًا ينفتح أمامي، فيما كان يُعرف سابقًا بـ(غرفة المعاون)، على عدد من أشخاص كان بالإمكان سؤالهم والحديث معهم.. مع ذلك؛ آثرتُ الوقوف متفحصًا مدخل المبنى وجزء الساحة المنفلتْ على جانبي جدار ينتصب بمواجهة رواق المدخل ويطل بوجهه الآخر على الساحة.
تتركني المرأة وحدي، ربما، لتبحث عن المدير.. ويتيح لي ذلك فرصة تفحّص الموجودات حولي.
يختفي الباب الخشب اللامع لغرفة المدير تاركًا مكانه لباب بائس، دون قفل أو مقابض، طلي بلون الرصاص.. فيما نصب باب حديد مشبك، بقفل كبير، بين الساحة والمدخل. خلفه.. وقف أطفال يتشبثون بحديده مثل مساجين يمسكون بقضبان زنزانة وعيونهم شاخصة إلى الخارج. لا أثر للجدارية الكبيرة التي رسمها الأستاذ (هادي البنك)(3).. تضيع تاركة مكانها لشعارات لا يلتزم بها أحد.
يلقي عليّ المدخل بكلّ حزنه؛ فاهرب إلى الباب المستحدث المفتوح أمامي.
***
أخلى صوت الجرس الساحة، تقريبًا، من التلاميذ.. ومعهم ذهبت أصوات مرحهم وصخبهم. مكنني ذلك من مسح المكان بعينين لم تتعبا من الركض خلفهم وهم يختفون في صفوفهم. إلا أنني كنت أخرجهم من الصفوف لأعيدهم إلى (الإصطفاف الصباحي): كلّ مجموعة تلاميذ، مع المرشد، أمام صفّهم. كنتُ هناك.. أنا الذي أقف هنا، الآن، بجسد متعب، يضعني طول قامتي في الصف الأخير دائمًا. أستعرض الواقفين. ومع أنّ الساحة كانت خالية؛ إلا أنني أرى معلّميّ كلّهم يقفون أمام تلاميذهم.
حلّ الهدوء فابعث صوت آخر ما زالت نبرته عالقة في أذنيّ. التفتُّ إلى المكان الذي كان يوضع فيه (المايكروفون) عند الجدار المواجه لرواق المدخل.. ولا أحد! غير أني كنت أراه وأسمع صوته: الأستاذ (عبد الجبار ياسر).. مرشد صفنا، الأول (ب)، وهو يكرر ذلك قبل كلّ عيد:
– العيد على الأبواب. وبدل أنْ تشتروا ثيابًا ملوّنة.. اشتروا الأبيض والرصاصي، لينفعكم في العيد.. وفي الدوام(4).
وليس بعيدًا عن (المايكروفون).. وعلى كرسيّ أو طاولة؛ يستقرّ صندوق خشب صغير خط على جنبه: (صندوق دعم العمل الفدائي). وكان جديدً لامعًا كما القضية الفلسطينية في حينه. مرة أخرى يأتيني صوته صافيًا:
– لنا أخوة يعيشون في المخيّمات.. إخوتنا الفلسطينيون……………………..
ما زال صفّنا، الأول (ب)، هناك.. أقصى يسار الساحة. أقترب منه. (د.ا.دا.ر.دار).. أردد ذلك وحدي دون أنْ يكون أيّ من زملائي، الموجودين في الصورة، معي.
***
بإهمال ما كانت يومًا (غرفة الموسيقى).. وغلق الممرّ الضيّق المؤدي إلى مبنى المكتبة الكائن خلف صفيّ السادس؛ يفقد المكان زهوه القديم. والكتب؟ سألته. (نقلناها إلى الغرفة هناك.. في الأعلى). الصف الرابع (ب).. صف الأستاذ جعفر(5)! (لقد توفي.. رحمه الله).
أسمع ذلك منه فتعيدني ذكرى المكتبة إلى (الكومدينو) المصنوع من الخشب المغلّف بألواح (الفورمايكا) البيضاء موضوعًا عند باب الصف الخامس (ب).. في نهاية خط الصفوف الممتد مع واجهة المبنى. كلّ أسماء كتب المكتبة وأرقامها كانت مفهرسة فيه حتى أننا عندما انتقلنا، بعدها، إلى مكتبة البصرة المركزية؛ لم نجد صعوبة في البحث عمّا نريده.
نقل المكتبة إلى الأعلى يعني غياب هذا (الكومدينو) بأدراجه المتعددة وبطاقات كتبه.. وكذلك غياب طاولة الخشب الكبيرة الممتدة وسطها. كانت أعداد (مجلتي) و(المزمار) بأوراقها الملونة وهي تتخذ شكل الجريدة؛ مع الكثير ممّا كانت تصدره (دار ثقافة الأطفال) في حينه.. كلّها كانت متوفرة للقراءة دون الحاجة إلى تنظيم استمارة لاستعارة كتاب، فبعض دروس القراءة كانت تتمّ هناك. أول مرة حصل لي فيها ذلك كان مع الأستاذ (طالب غالي)(6)، كنّا وقتها في الصفّ الثاني. ما زلتُ أتذكّر ذلك.. وأتذكّر أيضًا أنّه ودّعنا بعزف على العود مصاحب لأغنية:
(عمّال.. عمّال
ويلي.. ويلي.. ويلاه
عمّال واحنه تعابه
حط ايديك بيديّ)
ربما كانت أغنيته هذه إحدى أغاني أوبريت (المطرقة).. أو (بيادر خير) الذي جرت بعض تدريباته في هذه المدرسة وبمشاركة نخبة من معلميها.. منهم، إضافة إلى الأستاذ طالب غالي، قصي البصري (معلم مادة النشيد والموسيقى) والأستاذ إبراهيم أبو الهيل (معلم مادة الرياضيات).
الآن.. لا غرفة للموسيقى. والمسرح الكبير الذي كان مشيّدًا من الخشب على جزء ساحة المدرسة الملاصق لصفّ السادس (ب)؛ لا يشبهه الحيّز الصغير الذي يحتلّ مكانه.. وباختفائه تصمتُ أصوات فرقة المدرسة الموسيقية وتضيع أناشيدها.. أصوات تلاميذها الممثلين في مسرحيات يبذل فيها الأستاذ (محمد الوائلي) جهدًا كبيرًا في اختيار التلاميذ وتدريبهم حتى في أيام العطل.
لا أثر للصور التي كانت معلّقة في الصفوف وعلى جدار رواق ساحة المدرسة. والكؤوس الكثيرة التي اصطادها الأستاذ كريم عباس (معلم مادة التربية الرياضية) بإعداده فريقًا سلويًّا مميزًا؛ والتي كانت تزيّن غرفة المدير (الأستاذ يحيى العبودي.. ومن بعده مصطفى يعقوب العيسى) لم أرَ أيًّا منها! قد تكون مخبأة في مكان ما.. هذا إن نجتْ من الضياع في ليالينا وصباحاتها المظلمة الكثيرة.
الأستاذ كريم عباس كان حاضرًا، بعينيه الخضراوين، في الساحة.. وفي (غرفة الرياضة) الخالية منه. ما زالت غرفته الصغيرة في مكانها بين صفيّ السادس، إلا أنه تركها منذ أنْ أطفأتْ خضرة عينيه إحدى شظايا حرب الثماني سنوات وهو في ساحة المدرسة.
السؤال فيما إذا كان هناك مَنْ يعطي دروسا في الخطّ العربي كـ(ألأستاذ محمد رضا السهيل).. أو مَنْ يختار التلاميذ لأداء أدوار في مسرحيات المدرسة أو إلقاء كلماتها في المناسبات وأيام الخميس كما كان يفعل (الأستاذ محمد الوائلي).. أو يبدأ درسه بحكاية تاريخية طريفة مثل (الأستاذ إبراهيم كاظم مطر) الذي درّسنا (مادة الاجتماعيات) في الصف السادس.. هذه الأسئلة وغيرها لم أطرحها على أحد، كنتُ أجد أجوبتها أمامي.
ومع أنّ المدرسة التي شُيّدتْ في عهد (الملك فيصل الأول) فقدت الكثير من امتيازاتها في العهود الجمهورية الأخيرة.. إلا أنها ما زالتْ مدرسة بدوام واحد. وهي صفة نادرة اليوم.. حيت أصبحتْ عدد ساعات اليوم الدراسي (الفعلي)، في بعض المدارس، دون الثلاث ساعات.
2017م محمد عبد حسن البصرة
هولمش :
(1) عبد الرزاق الشاهين: معاون مدير مدرسة الجمهورية في مطلع سبعينيات القرن الماضي.
(2) (أبو زكي) و(ناجح): من العاملين في المدرسة في تلك الفترة.
(3) هادي البنك: من رواد الفن التشكيلي في البصرة ومعلم مادة التربية الفنية في المدرسة.
(4) وهذا مثال يؤكد قيام جهاز التعليم في تلك الفترة بدوره التربوي إضافة إلى التعليمي.
(5) جعفر مرتضى: مرشد الصف الرابع (ب) والمشرف على الفرقة الكشفية للمدرسة. ويقتضي الوفاء الإشارة إلى كل من الأساتذة: إلياس يلده.. عدنان عبد الرزاق.. وفي جواد الماجدي.. غازي العبود.. الأستاذ شفيق.. عادل الكروي.. الأستاذ حافظ.. عبد الستار الشريدة.. الأستاذ قاسم.. طه راضي التميمي.. الأستاذ جورج.. طارق أحمد.. زكي الرمضان.
(6) طالب غالي: الشاعر والملحن والموسيقي المعروف.
* عن
محمد عبد حسن : مدرسة الجمهورية الابتدائية التطبيقية النموذجية المختلطة
لا أدري كيف استقرّ ذلك الاسم الطويل كلّه في ذاكرتي كلّ هذا الوقت! هل كان موجودًا حقًّا على يافطتها الكبيرة؛ مع أنّ (البطاقة الشخصية للتلميذ) تقف عند كلمة (التطبيقية) دون أية إضافات أخرى؟ أم أنني كنت سبّاقًا في المزاوجة بين الاسمين! خصوصًا وأنّ ما أقرأه الآن على يافطتها الصغيرة المحبوسة خلف باب حديد مغلق: (مدرسة الجمهورية الابتدائية النموذجية للبنين)؟!
لم أكنْ أنا الذي يقترب.. بل ذلك الصغير ببنطلونه الرصاصي وقميصه الأبيض، يميل جسده تجاه حقيبته البنية المتدلية من يده. يبدو المسمار، وقد أدخله أبي في حلقة يد الحقيبة المقطوعة ليعيد ربطها، واضحًا.. إلا أنه، وهو يحملها بيده ليتفحّصها بعد أنْ أنهى مهمته ونهض تاركًا عدّة عمله مبعثرة حوله، قال: (ما مبيّن). وكنتُ أراه معقوفًا.. أتحسس رأسه المدبب بإبهامي وأنا أسير محاولًا اللحاق بأخي، وكان قد غاب منذ عقود، وهو يستحثّني للوصول قبل أن يدقّ الجرس ويظهر الأستاذ (عبد الرزاق الشاهين)(1) بجسده النحيل في رواق مدخل المبنى
وإذ أقترب؛ لا ترى عيناي عارضة الحديد عند رأس الشارع المقابل، ولا فوضى علب الحراسة الموضوعة بعدها مبتلعة الرصيف كلّه وبعضًا من الطريق.. لا المبنى الكبير المشيّد حديثًا عند زاوية الشارع الأخرى.. ولا السيارات الكثيرة المتوقفة على جانبيّ الطريق في حين يتجمّع سائقوها قريبًا من بوابة المدرسة.. لم أكن أرى كل ذلك.
كنتُ، وأنا أمرّ أمام مساحة أرض خالية يبدو أنها مسحتْ حديثًا، أتجاوز (دكان عزيز) الملغّز بالأسرار كصاحبه الواقف أمامه دومًا بمعطف داكن وكوفية تخفي ملامحه.. كنتُ أرى بيت (سؤدد فرانسو) بطابوقه الذي يبدو مغسولًا على الدوام.. دكان (عبود) المبتعد قليلًا في الشارع المجاور حيث كان يسمح لنا، أحيانًا، بالخروج إليه لشراء (نصف لفّة) بـ(10) فلوس بعد أن أصبح دوامنا من الساعة (8) صباحًا وحتى (2) بعد الظهر؛ بستة دروس كاملة واستراحة طويلة بعد الدرس الرابع أسميناها: (فرصة الأكل)! وقد كان قبل ذلك لفترتين: من الساعة (8) إلى الساعة (12) ظهرًا.. ثم من الساعة (2) بعد الظهر وحتى (4) عصرًا.!!
مدرسة الجمهورية
أصبح بمواجهة مبنى المدرسة فأجد أنه ما زال محتفظًا بارتفاعه عن الشارع.. مع أنّ (مدرسة الملك فيصل).. وهو الاسم الذي شيّدتْ به عام 1930م في عهد الملك فيصل الأول رحمه الله. يؤشر ذلك إلى بعد رؤية الجهة التي صممت المبنى وأشرفتْ على تنفيذه.. على خلاف الكثير من مدارسنا التي بُنيت لاحقًا واستحالتْ، بسبب ارتفاع شوارعنا المستمر، إلى حفر.
يغيب (أبو زكي) عن تجمهر سواق حافلات نقل التلاميذ عند البوابة.. ولم أره وأنا أرتقي الدرجات لأصل إلى مدخل المبنى، في حين تجلس امرأة، ملفوفة بالسواد، في ذات المكان الذي كان يقف فيه (ناجح)(2) عند باب غرفة المدير. لا يبدو أنها رأتني وأنا أدخل.. غير أنها انتبهت إليّ لمّا وقفتُ قريبًا منها.
لم يكن المدير موجودًا. ومع أنّ بابًا مستحدثًا ينفتح أمامي، فيما كان يُعرف سابقًا بـ(غرفة المعاون)، على عدد من أشخاص كان بالإمكان سؤالهم والحديث معهم.. مع ذلك؛ آثرتُ الوقوف متفحصًا مدخل المبنى وجزء الساحة المنفلتْ على جانبي جدار ينتصب بمواجهة رواق المدخل ويطل بوجهه الآخر على الساحة.
تتركني المرأة وحدي، ربما، لتبحث عن المدير.. ويتيح لي ذلك فرصة تفحّص الموجودات حولي.
يختفي الباب الخشب اللامع لغرفة المدير تاركًا مكانه لباب بائس، دون قفل أو مقابض، طلي بلون الرصاص.. فيما نصب باب حديد مشبك، بقفل كبير، بين الساحة والمدخل. خلفه.. وقف أطفال يتشبثون بحديده مثل مساجين يمسكون بقضبان زنزانة وعيونهم شاخصة إلى الخارج. لا أثر للجدارية الكبيرة التي رسمها الأستاذ (هادي البنك)(3).. تضيع تاركة مكانها لشعارات لا يلتزم بها أحد.
يلقي عليّ المدخل بكلّ حزنه؛ فاهرب إلى الباب المستحدث المفتوح أمامي.
***
أخلى صوت الجرس الساحة، تقريبًا، من التلاميذ.. ومعهم ذهبت أصوات مرحهم وصخبهم. مكنني ذلك من مسح المكان بعينين لم تتعبا من الركض خلفهم وهم يختفون في صفوفهم. إلا أنني كنت أخرجهم من الصفوف لأعيدهم إلى (الإصطفاف الصباحي): كلّ مجموعة تلاميذ، مع المرشد، أمام صفّهم. كنتُ هناك.. أنا الذي أقف هنا، الآن، بجسد متعب، يضعني طول قامتي في الصف الأخير دائمًا. أستعرض الواقفين. ومع أنّ الساحة كانت خالية؛ إلا أنني أرى معلّميّ كلّهم يقفون أمام تلاميذهم.
حلّ الهدوء فابعث صوت آخر ما زالت نبرته عالقة في أذنيّ. التفتُّ إلى المكان الذي كان يوضع فيه (المايكروفون) عند الجدار المواجه لرواق المدخل.. ولا أحد! غير أني كنت أراه وأسمع صوته: الأستاذ (عبد الجبار ياسر).. مرشد صفنا، الأول (ب)، وهو يكرر ذلك قبل كلّ عيد:
– العيد على الأبواب. وبدل أنْ تشتروا ثيابًا ملوّنة.. اشتروا الأبيض والرصاصي، لينفعكم في العيد.. وفي الدوام(4).
وليس بعيدًا عن (المايكروفون).. وعلى كرسيّ أو طاولة؛ يستقرّ صندوق خشب صغير خط على جنبه: (صندوق دعم العمل الفدائي). وكان جديدً لامعًا كما القضية الفلسطينية في حينه. مرة أخرى يأتيني صوته صافيًا:
– لنا أخوة يعيشون في المخيّمات.. إخوتنا الفلسطينيون……………………..
ما زال صفّنا، الأول (ب)، هناك.. أقصى يسار الساحة. أقترب منه. (د.ا.دا.ر.دار).. أردد ذلك وحدي دون أنْ يكون أيّ من زملائي، الموجودين في الصورة، معي.
***
بإهمال ما كانت يومًا (غرفة الموسيقى).. وغلق الممرّ الضيّق المؤدي إلى مبنى المكتبة الكائن خلف صفيّ السادس؛ يفقد المكان زهوه القديم. والكتب؟ سألته. (نقلناها إلى الغرفة هناك.. في الأعلى). الصف الرابع (ب).. صف الأستاذ جعفر(5)! (لقد توفي.. رحمه الله).
أسمع ذلك منه فتعيدني ذكرى المكتبة إلى (الكومدينو) المصنوع من الخشب المغلّف بألواح (الفورمايكا) البيضاء موضوعًا عند باب الصف الخامس (ب).. في نهاية خط الصفوف الممتد مع واجهة المبنى. كلّ أسماء كتب المكتبة وأرقامها كانت مفهرسة فيه حتى أننا عندما انتقلنا، بعدها، إلى مكتبة البصرة المركزية؛ لم نجد صعوبة في البحث عمّا نريده.
نقل المكتبة إلى الأعلى يعني غياب هذا (الكومدينو) بأدراجه المتعددة وبطاقات كتبه.. وكذلك غياب طاولة الخشب الكبيرة الممتدة وسطها. كانت أعداد (مجلتي) و(المزمار) بأوراقها الملونة وهي تتخذ شكل الجريدة؛ مع الكثير ممّا كانت تصدره (دار ثقافة الأطفال) في حينه.. كلّها كانت متوفرة للقراءة دون الحاجة إلى تنظيم استمارة لاستعارة كتاب، فبعض دروس القراءة كانت تتمّ هناك. أول مرة حصل لي فيها ذلك كان مع الأستاذ (طالب غالي)(6)، كنّا وقتها في الصفّ الثاني. ما زلتُ أتذكّر ذلك.. وأتذكّر أيضًا أنّه ودّعنا بعزف على العود مصاحب لأغنية:
(عمّال.. عمّال
ويلي.. ويلي.. ويلاه
عمّال واحنه تعابه
حط ايديك بيديّ)
ربما كانت أغنيته هذه إحدى أغاني أوبريت (المطرقة).. أو (بيادر خير) الذي جرت بعض تدريباته في هذه المدرسة وبمشاركة نخبة من معلميها.. منهم، إضافة إلى الأستاذ طالب غالي، قصي البصري (معلم مادة النشيد والموسيقى) والأستاذ إبراهيم أبو الهيل (معلم مادة الرياضيات).
الآن.. لا غرفة للموسيقى. والمسرح الكبير الذي كان مشيّدًا من الخشب على جزء ساحة المدرسة الملاصق لصفّ السادس (ب)؛ لا يشبهه الحيّز الصغير الذي يحتلّ مكانه.. وباختفائه تصمتُ أصوات فرقة المدرسة الموسيقية وتضيع أناشيدها.. أصوات تلاميذها الممثلين في مسرحيات يبذل فيها الأستاذ (محمد الوائلي) جهدًا كبيرًا في اختيار التلاميذ وتدريبهم حتى في أيام العطل.
لا أثر للصور التي كانت معلّقة في الصفوف وعلى جدار رواق ساحة المدرسة. والكؤوس الكثيرة التي اصطادها الأستاذ كريم عباس (معلم مادة التربية الرياضية) بإعداده فريقًا سلويًّا مميزًا؛ والتي كانت تزيّن غرفة المدير (الأستاذ يحيى العبودي.. ومن بعده مصطفى يعقوب العيسى) لم أرَ أيًّا منها! قد تكون مخبأة في مكان ما.. هذا إن نجتْ من الضياع في ليالينا وصباحاتها المظلمة الكثيرة.
الأستاذ كريم عباس كان حاضرًا، بعينيه الخضراوين، في الساحة.. وفي (غرفة الرياضة) الخالية منه. ما زالت غرفته الصغيرة في مكانها بين صفيّ السادس، إلا أنه تركها منذ أنْ أطفأتْ خضرة عينيه إحدى شظايا حرب الثماني سنوات وهو في ساحة المدرسة.
السؤال فيما إذا كان هناك مَنْ يعطي دروسا في الخطّ العربي كـ(ألأستاذ محمد رضا السهيل).. أو مَنْ يختار التلاميذ لأداء أدوار في مسرحيات المدرسة أو إلقاء كلماتها في المناسبات وأيام الخميس كما كان يفعل (الأستاذ محمد الوائلي).. أو يبدأ درسه بحكاية تاريخية طريفة مثل (الأستاذ إبراهيم كاظم مطر) الذي درّسنا (مادة الاجتماعيات) في الصف السادس.. هذه الأسئلة وغيرها لم أطرحها على أحد، كنتُ أجد أجوبتها أمامي.
ومع أنّ المدرسة التي شُيّدتْ في عهد (الملك فيصل الأول) فقدت الكثير من امتيازاتها في العهود الجمهورية الأخيرة.. إلا أنها ما زالتْ مدرسة بدوام واحد. وهي صفة نادرة اليوم.. حيت أصبحتْ عدد ساعات اليوم الدراسي (الفعلي)، في بعض المدارس، دون الثلاث ساعات.
2017م محمد عبد حسن البصرة
هولمش :
(1) عبد الرزاق الشاهين: معاون مدير مدرسة الجمهورية في مطلع سبعينيات القرن الماضي.
(2) (أبو زكي) و(ناجح): من العاملين في المدرسة في تلك الفترة.
(3) هادي البنك: من رواد الفن التشكيلي في البصرة ومعلم مادة التربية الفنية في المدرسة.
(4) وهذا مثال يؤكد قيام جهاز التعليم في تلك الفترة بدوره التربوي إضافة إلى التعليمي.
(5) جعفر مرتضى: مرشد الصف الرابع (ب) والمشرف على الفرقة الكشفية للمدرسة. ويقتضي الوفاء الإشارة إلى كل من الأساتذة: إلياس يلده.. عدنان عبد الرزاق.. وفي جواد الماجدي.. غازي العبود.. الأستاذ شفيق.. عادل الكروي.. الأستاذ حافظ.. عبد الستار الشريدة.. الأستاذ قاسم.. طه راضي التميمي.. الأستاذ جورج.. طارق أحمد.. زكي الرمضان.
(6) طالب غالي: الشاعر والملحن والموسيقي المعروف.
* عن
محمد عبد حسن : مدرسة الجمهورية الابتدائية التطبيقية النموذجية المختلطة