حفّت بالنص التراثي مناهج جمّة دارسة ومحلّلة ومؤوّلة النص المطبوع المتداول منه خاصة، فيما ألمّت مناهج أخرى بالنص المخطوط عبر رؤى نظرية وآليات مخبرية من ذلك الفيلولوجيا، والباليوغرافيا (علم الخطوط القديمة)، والكوديكولوجيا (علم المخطوط). وسنقتصر على التعريف بعلم الفيلولوجيا في الغرب نشأةً ومراحلَ وثمرات.
مفهوم الفيلولوجيا
يترجّح اصطلاح الفيلولوجيا في منشئه بين معنيين قديم (دراسة النصوص القديمة) وحديث (علم اللغة)، ويرى صبحي الصالح (فقه اللغة، ص20) أن «اسم فقه اللغة عندهم [أي الغربيين] «philologie» : وهي كلمة مركبة من لفظين إغريقيين أحدهما philos بمعنى الصديق، والثاني Logos بمعنى الخطبة أو الكلام، فكأن واضع التسمية لاحظ أن فقه اللغة يقوم على حب الكلام، للتعمق في دراسته من حيث قواعده وأصوله وتاريخه. «ولا يختلف هذا التعريف عمّا ذهب إليه تمام حسان القائل: «وبهذا المعنى أصبح لفظ (فيلولوجيا) يعني «دراسة النصوص القديمة» من حيث القاعدة ومعاني المفردات وما يتصل بذلك من شروح ونقد وإشارات تاريخية وجغرافية… إلخ». (الأصول، ص235). بذلك يدل اصطلاح الفيلولوجيا في الغرب قديمًا على الاعتناء بالنصوص القديمة دراسة ونقدًا وتحقيقًا وضبطًا… ابتداءً بالنصوص اليونانية واللاتينية فالشرقية (العبرية والفارسية…) ثم العربية.
يرى صبحي الصالح أن كلا العلمين قريب بعضهما من بعض في قوله: «وربما لا يكون مفهوم علمائنا القدامى لـ «فقه اللغة» شديد الاختلاف عما أصبحنا نسميه: «فقه اللغة الاتباعي» إلّا في مواطن قليلة؛ فسنرى أن كثيرًا من مباحث القوم في اللغة كان يتناول العربية الفصحى؛ من حيث قواعدها، وتاريخ أدبها، ونقد نصوصها، فقابلت الفصحى عندهم الإغريقية واللاتينية عند الفرنجة». (دراسات في فقه اللغة: 20). مضمّن قول. أن الفيلولوجيا في اعتنائها بالتراث اليوناني واللاتيني شبيهة بفقه اللغة في اعتنائها أيضًا بالتراث العربي، لكن ألا يحق القول: لِمَ أدى تطور الفيلولوجيا بمعناها هذا إلى ظهور مناهج التحقيق العلمي أو نقد النصوص في الغرب ولم ينتج فقه اللغة تلك المناهج عند العرب؟ وكانت الإشارة غالبًا إلى علوم الحديث (توثيق الرواية والإسناد، والمعارضة، وطرق تحمّل العلم…) والجَرح والتعديل (الضبط والتدقيق…) والأدب (توثيق نسبة القصائد). ولربما أفضى السؤال السالف إلى سؤال أعقد هو: ما أصل مناهج تحقيق النصوص التراثية اليوم، العرب أم الغرب؟!
ويفصّل تمام حسان في المسألة مقسِّمًا الفيلولوجيا إلى «نوعين من أنواع النشاط أو التحقيق العلمي هما׃
(أ)- فك رموز الكتابات القديمة التي يعثر عليها الباحثون في حقل الآثار مرقومة على الحجارة أو جدران المباني في صورة نصوص بلغات مجهولة أو لغات معلومة ولكن الرموز مجهولة.
(ب)- وأطلق اللفظ كذلك على تحقيق الوثائق والمخطوطات القديمة بغية نشرها والانتفاع بها في النشاط العلمي، وفي الدراسات التاريخية والأثرية.. ومن ذلك أيضًا ما نعرفه في وقتنا الحاضر من تحقيق المخطوطات وطبعها، على نحو ما يقوم به طلاب الدراسات العليا في أقسام اللغة العربية بالجامعات من نشر التراث برسائلهم العلمية» (الأصول: 236).
يبدو الاصطلاح عند حسّان رديف دراسة الكتابات القديمة من وجه، وتحقيق الوثائق والمخطوطات من وجه ثانٍ. وفي ذلك اهتبال بالتراث القديم ونقله من المخطوط إلى المطبوع. ومفهومه الأول لا يبتعد من نظيره الوارد عند سلفه صبحي الصالح، قبل أن يتطور إلى علم اللغة وعلم اللغة المقارن حسب الأطوار الآتية:
تحليل النصوص والوثائق القديمة
مقارنة الظواهر
وصف الأنظمة في اللغات الحية
هكذا دلّ الاصطلاح على مفهومين في الغرب، لكنه ليس كذلك عند العرب، حيث كان فقه اللغة قديمًا –حسب جبور عبدالنور- قريبًا «إلى نمط من تأليف المعاجم، فيُعنى بالمفردات الدالة على الكليات والأشياء التي تختلف أسماؤها، وأوصافها باختلاف أحوالها، وضروب الألوان والآثار والأطعمة والعلوم والأرض والنبت وسواها من المفردات اللغوية…» (المعجم الأدبي: 194) ولم يستمرّ الاصطلاح في مجال تحقيق النصوص التراثية، بل حلّ محلّه تحقيق النصوص أو النشر النقدي.
هكذا ارتبطت الفيلولوجيا بالنصوص التراثية، فيسّرت انتقالها من المخطوط إلى المطبوع، فضلًا عن اختصاصها فيما بعد بالمجال اللغوي واللغوي المقارَن. والفيلولوجيا بمعنى تحقيق النصوص هو مقصد البحث، وهو ما ذهب إليه أيضًا تمام حسان في قوله: «ومن الشائع على ألسنة المهتمين بالوثائق في العهد الحاضر أن يطلقوا على دراساتهم اسم (فيلولوجيا). وأحمد شوقي بنبين الذي يرى أن «الفيلولوجيا بالمفهوم الألماني هي الدراسة العلمية للنصوص الأدبية، وتُعنى بتوثيق النصوص وتحقيقها ونشرها والتعليق عليها، ولا نعني بها فقه اللغة الذي يدرس اللغة على المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية أو النحوية والدلالية والأسلوبية والبلاغية والشعرية». (دراسات في علم المخطوطات والبحث الببليوغرافي، ص13).
بناء على ما سلف، يتبين المقصود بأن الاعتناء بالتراث القديم عامة، ودراسة النصوص والوثائق خاصة، وتحقيق النصوص التراثية على الأخص، هو مبتغى الفيلولوجيا في الغرب منذ العصر اليوناني إلى العصر الحديث مع حركة الاستشراق والاستعراب، الغرض منه توفير النصوص التراثية للباحثين والدارسين، عبر تصحيحها وضبطها وتوثيقها ونقدها ونشرها.. وهذا هو مقصد البحث؛ إذ يرى أيمن فؤاد سيد أن «الدراسة الفيلولوجية للمخطوط العربي وهي الدراسة التي تُعنى بنَصِّ الكتاب ومضمونه العلمي الذي كتبه المؤلف بنفسه، والتي اصطلح على تسميتها (تحقيق النصوص)». (الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات: 2/545).
هكذا ظهرت اصطلاحات في الغرب مثل:
Édition critique. Eclectisme. Édition de référence. Stémmatique…
تلتها اصطلاحات أخرى عربية مثل: تحقيق علمي، تحقيق نقدي، نشرة نقدية، تصحيح، ضبط، قراءة، عناية، اعتناء، نشر، إخراج، تخريج…
أصول الفيلولوجيا وامتداداتها: يذهب بعض الباحثين إلى ربط ظهور الفيلولوجيا (تحقيق النصوص) بالتأسيس للنهضة الأوربية رابطين إياها بالنهضة الإنسية، فيما يوغل بها آخرون إلى ما قبل الميلاد، وكانت وظيفتها إحياء النصوص القديمة بمعاودة النظر فيها، وهذه أهم مراحلها في الغرب:
حقبة ما قبل الميلاد: يرجع أحمد شوقي بنبين الفيلولوجيا إلى القرن السادس قبل الميلاد، حين عكف علماء اليونان على تصحيح نصَّيْ ملحمتيِ الإلياذة والأوديسة لهوميروس، وتنقيتهما من الزوائد والتصحيف والتحريف. ثم استمرت الفيلولوجيا في القرن الثاني قبل الميلاد، بعد افتتاح مدرستين مشهورتين هما:
مكتبة الإسكندرية في مصر: اعتنى فيها بقصيدتي هومير ثلاثة قيمين على مكتبة المتحف الإسكندري ما بين سنتي 270 و 150 ق.م، وهم:
زينودوت: الذي «نشر نسخة منقحة لهومر ومعجمًا هومريًّا؛ ويبدو زينودوت – في هذا العصر من فجر العلم الجديد- رجلًا موهوبًا ذا هدف نقدي، ولكنه تعوزه الطريقة النقدية الصالحة» (مصادر الشعر الجاهلي، ناصر الدين الأسد، ص313). أرستوفان: هو تلميذ سلفه زينودوت وقد اعتنى بالملحمتين، و«نشر أيضًا نسخة منقّحة من هومر. وكان يعنى بدلالات النصوص المخطوطة عناية تفوق عناية زينودوت.» أرستارخ: هو تلميذ سلفه أرستوفان، حيث «كان للمصادر المخطوطة قيمة كبيرة عنده حينما صنع نسخته من النص الهومري. وحينما كانت الموازنات والمقابلات تسلمه إلى شك في قراءتين كان يستهدي «باستعمال الشاعر الخاص». فهو يبدو في الغاية من الحذر والحيطة، بعيدًا من التسرع في تخطئة النصوص أو تصويبها. ولو قارناه بزينودوت لوجدناه يتحرج من القراءات التي تعتمد على الحدس والظن».
ما يعني أن الفيلولوجيا بمعناها التحقيقي اعتنت بأقدم النصوص الشعرية اليونانية، محاولة الوصول إلى الأصل كما قاله هوميروس، ويمكن اعتبار مجهودات السكندريين أنماطًا بدائية لما سيعرف فيما بعد بالنشر النقدي في عصر النهضة الأوربية وما تلاها.
مكتبة پرگامون أو پرگاموم، تقع في آسيا الصغرى (تركيا حاليًّا)، فكانت منافسة لمكتبة الإسكندرية. وقد «حاول علماء المدرستين معًا كتابة ملحمتي هوميروس من جديد لتصفيتهما مما شابهما من إضافات ونقص» (أصول التحقيق العلمي: 9) هكذا سعى أمين المكتبة كريتس إلى ذلك مستفيدًا من خبرته المكتبية حيث «جمع فهارس للأعمال النثرية والشعرية.. لكن الدراسات النقدية كانت محور اهتمامه، فقد تخصص في الدراسات حول الشاعر اليوناني الشهير هوميروس…» (مكتبتا الإسكندرية وبرجاموم: ص80).
حقبة ما بعد الميلاد
ابتداءً من القرن الميلادي الثامن شهدت أوربا على عهد شارلمان حركة علمية بارزة فيما عُرف بعصر النهضة في أوربا، تجلت في تشجيع التعليم وتأسيس الجامعات والترجمة من العربية إلى اللاتينية، فظهر في هذه الحقبة منهجان لإحياء التراث هما:
المنهج الوثائقي: ظهر منذ القرن الثالث عشر للميلاد، ويعتمد جمع الوثائق بطريقة عشوائية، واعتنى في البداية بالكتاب المقدس، فجمع العلماء نُسَخَه واعتمدوا نسخة واحدة متوسلين بمعياريِ الذوق وجمال النسخة في غياب معيار علمي. والمنهج العلمي: الذي كان ثمرة تطور الدراسات الفيلولوجية في أوربا الغربية، وتجلى أثره أكثر في العصر الحديث بفعل ظهور حركة الاستشراق خاصة في اهتمامها بالتراث العربي.
الحقبة الحديثة
باطّراد الجهود في دراسة النص التراثي الغربي، شهد القرن التاسع عشر طفرة في الفيلولوجيا، حيث «لم يتأسس لدى الغربيين تفكير نظري ولا منهج علمي لتصحيح الكتب ونشرها إلا في القرن التاسع عشر حين عرفت الفيلولوجيا تطورًا كبيرًا خصوصًا في ألمانيا» من خلال جهود فيلولوجيين منهم: كارل لاخمان. الذي رفد الفيلولوجيا سنة 1851م بمعارف ومناهج ذات بال مثل: علم المخطوط وتاريخ النصوص، «فقد لاحظ هذا العالم ومدرسته أن التراث المخطوط لم يصل إلينا في نسخه الأصلية، بل وصل إلينا عن طريق شواهد ووسائط خضعت لألوان من التحريف والتصحيف.. فأخذ على عاتقه استرجاع لا النسخ الأصلية بل الشواهد التي ضاعت مع الزمن والتي يمكن أن تهديه إلى شكل قريب من النص الأصلي».
هكذا بدأ البحث عن النسخة الأصل لاستهلال التحقيق على نسخ متعددة، ويكاد يتفق الباحثون على إضافات لاخمان في هذا الباب، «فهو الأول الذي حاول أن يعيد بناء النصوص الضائعة، وذلك حسب موهبته الممتازة، ومعارفه الباليوغرافية والنقدية» (مقالات في علم المخطوطات، مصطفى الطوبي، ص21) وصنيعه كان مبتغاه في الأصل خدمة التراث الأوربي اللاتيني واليوناني خاصة، قبل أن يكون مستفادًا للمستشرقين في تعاملهم مع المخطوطات العربية، حيث «ظلت الدراسات الشرقية تجد تبريرها في التطبيق العملي لمذهب التحقيق العلمي النقدي للنصوص القديمة، كما طور في إطار الدراسات الكلاسيكية وكما وضعه بالشكل المثال كارل لاخمان» (الاستشراق ونشر التراث العربي، ستفان ليدر، مجلة التسامح، ع7، 2009م، ص403).
كما نذكر منافسه «هيرمان صوب» الذي له الفضل أيضًا في إنشاء نظرية علم النسب في ميدان المخطوطات، «وهدف هذا العلم هو حصر كل نسخ المخطوط وإرجاعها إلى أصل واحد يمكن اعتماده في عملية نقد النص» (أصول التحقيق العلمي: ص12)
والفيلولوجي الإنجليزي كلارك والفيلولوجي هنري كانتان..
أثمرت جهود لاخمان ومعاصريه استواء منهج التحقيق العلمي ونضجه معتمدًا «الاستخدام النقدي لكل النسخ وذلك بمحاولة جمع أكبر عدد منها والمقابلة فيما بينها في محاولة للوصول إلى نص أقرب ما يكون إلى نص المؤلف. وقد يتم هذا بعد إخضاع هذه النسخ لعملية تاريخ النص الذي يعتبر أساسيًّا في هذه العملية العلمية».
في هذه الحقبة نشطت حركة الاستشراق في المراكز العلمية بأوربا مثل ألمانيا وهولندا وروسيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا وإنجلترا.. والتفت الفيلولوجيون إلى المخطوطات الشرقية مثل: السريانية والفارسية والعبرية والعربية في أواسط القرن 19م خاصة، فعكفوا على فهرستها ودراستها وتحقيقها ونشرها بما فيها مخطوطات علوم الدين (تفسير وحديث وفقه وعقيدة…) وعلوم اللغة والأدب (نحو وبلاغة وعروض ومعجم وأدب…) وعلوم التاريخ والجغرافيا والعمران… والعلوم العقلية التجريبية (فلك وطب وحساب وطبيعة…) ومن أهم المستشرقين والمستعربين نذكر: دو ساسي، وفليشر، وبرغشتراسر، وغرونباوم، ونولدكه، وبروكلمان، وجِبْ، وشاخت، وغالان، ومرغليوث، ودوزي، وكراتشكوفسكي.. حيث يرى رضوان السيد أنهم «كانوا جميعًا تقريبًا من الفيلولوجيين المتعمقين بعدة لغات كلاسيكية وسامية إلى جانب العربية.. وقد تلقوا تدريبًا على التعامل مع النصوص العربية من جانب أساتذة التحقيق والنشرات العلمية للنصوص الكلاسيكية…» (النشر التراثي العربي، مجلة التسامح، ع 27، 2009م).
فكانت النتيجة تحقيق ونشر نصوص عربية كثيرة في مختلف الفنون بما فيها نصوص الأدب العربي شعره ونثره.
الحقبة المعاصرة
أي منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، حيث استمرت حركة النشر الفيلولوجي للنصوص العربية من قبل الأوربيين، وإن تراجعت في أواخر القرن العشرين، حيث عكف المحققون العرب على إخراج تراثهم ابتداء من النصف الأول من القرن العشرين، واطردت الجهود العربية بانحسار نظيرتها الأوربية، ورغم ذلك استمرت هذه النشرات في إسبانيا وهولندا في أيامنا هذه (أوائل القرن 21م) بعناية مؤسسات ومراكز وعلمية مثل: المجلس الأعلى للأبحاث العلمية في مدريد، وهيئة المخطوطات الإسلامية في كامبردج، ومؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن، ودار بريل للنشر في لايدن بهولندا.
من ثمرات هذه الحركة العلمية، إنتاج عدد كبير من التحقيقات والنشرات النقدية للتراثين الغربي والعربي خاصة، في علوم الدين والأدب واللغة والتاريخ والجغرافيا والطب والفلك والحساب.
* عن وبإذن من:
الفيلولوجيا.. من فقه اللغة إلى تحقيق التراث | مجلة الفيصل
مفهوم الفيلولوجيا
يترجّح اصطلاح الفيلولوجيا في منشئه بين معنيين قديم (دراسة النصوص القديمة) وحديث (علم اللغة)، ويرى صبحي الصالح (فقه اللغة، ص20) أن «اسم فقه اللغة عندهم [أي الغربيين] «philologie» : وهي كلمة مركبة من لفظين إغريقيين أحدهما philos بمعنى الصديق، والثاني Logos بمعنى الخطبة أو الكلام، فكأن واضع التسمية لاحظ أن فقه اللغة يقوم على حب الكلام، للتعمق في دراسته من حيث قواعده وأصوله وتاريخه. «ولا يختلف هذا التعريف عمّا ذهب إليه تمام حسان القائل: «وبهذا المعنى أصبح لفظ (فيلولوجيا) يعني «دراسة النصوص القديمة» من حيث القاعدة ومعاني المفردات وما يتصل بذلك من شروح ونقد وإشارات تاريخية وجغرافية… إلخ». (الأصول، ص235). بذلك يدل اصطلاح الفيلولوجيا في الغرب قديمًا على الاعتناء بالنصوص القديمة دراسة ونقدًا وتحقيقًا وضبطًا… ابتداءً بالنصوص اليونانية واللاتينية فالشرقية (العبرية والفارسية…) ثم العربية.
يرى صبحي الصالح أن كلا العلمين قريب بعضهما من بعض في قوله: «وربما لا يكون مفهوم علمائنا القدامى لـ «فقه اللغة» شديد الاختلاف عما أصبحنا نسميه: «فقه اللغة الاتباعي» إلّا في مواطن قليلة؛ فسنرى أن كثيرًا من مباحث القوم في اللغة كان يتناول العربية الفصحى؛ من حيث قواعدها، وتاريخ أدبها، ونقد نصوصها، فقابلت الفصحى عندهم الإغريقية واللاتينية عند الفرنجة». (دراسات في فقه اللغة: 20). مضمّن قول. أن الفيلولوجيا في اعتنائها بالتراث اليوناني واللاتيني شبيهة بفقه اللغة في اعتنائها أيضًا بالتراث العربي، لكن ألا يحق القول: لِمَ أدى تطور الفيلولوجيا بمعناها هذا إلى ظهور مناهج التحقيق العلمي أو نقد النصوص في الغرب ولم ينتج فقه اللغة تلك المناهج عند العرب؟ وكانت الإشارة غالبًا إلى علوم الحديث (توثيق الرواية والإسناد، والمعارضة، وطرق تحمّل العلم…) والجَرح والتعديل (الضبط والتدقيق…) والأدب (توثيق نسبة القصائد). ولربما أفضى السؤال السالف إلى سؤال أعقد هو: ما أصل مناهج تحقيق النصوص التراثية اليوم، العرب أم الغرب؟!
ويفصّل تمام حسان في المسألة مقسِّمًا الفيلولوجيا إلى «نوعين من أنواع النشاط أو التحقيق العلمي هما׃
(أ)- فك رموز الكتابات القديمة التي يعثر عليها الباحثون في حقل الآثار مرقومة على الحجارة أو جدران المباني في صورة نصوص بلغات مجهولة أو لغات معلومة ولكن الرموز مجهولة.
(ب)- وأطلق اللفظ كذلك على تحقيق الوثائق والمخطوطات القديمة بغية نشرها والانتفاع بها في النشاط العلمي، وفي الدراسات التاريخية والأثرية.. ومن ذلك أيضًا ما نعرفه في وقتنا الحاضر من تحقيق المخطوطات وطبعها، على نحو ما يقوم به طلاب الدراسات العليا في أقسام اللغة العربية بالجامعات من نشر التراث برسائلهم العلمية» (الأصول: 236).
يبدو الاصطلاح عند حسّان رديف دراسة الكتابات القديمة من وجه، وتحقيق الوثائق والمخطوطات من وجه ثانٍ. وفي ذلك اهتبال بالتراث القديم ونقله من المخطوط إلى المطبوع. ومفهومه الأول لا يبتعد من نظيره الوارد عند سلفه صبحي الصالح، قبل أن يتطور إلى علم اللغة وعلم اللغة المقارن حسب الأطوار الآتية:
تحليل النصوص والوثائق القديمة
مقارنة الظواهر
وصف الأنظمة في اللغات الحية
هكذا دلّ الاصطلاح على مفهومين في الغرب، لكنه ليس كذلك عند العرب، حيث كان فقه اللغة قديمًا –حسب جبور عبدالنور- قريبًا «إلى نمط من تأليف المعاجم، فيُعنى بالمفردات الدالة على الكليات والأشياء التي تختلف أسماؤها، وأوصافها باختلاف أحوالها، وضروب الألوان والآثار والأطعمة والعلوم والأرض والنبت وسواها من المفردات اللغوية…» (المعجم الأدبي: 194) ولم يستمرّ الاصطلاح في مجال تحقيق النصوص التراثية، بل حلّ محلّه تحقيق النصوص أو النشر النقدي.
هكذا ارتبطت الفيلولوجيا بالنصوص التراثية، فيسّرت انتقالها من المخطوط إلى المطبوع، فضلًا عن اختصاصها فيما بعد بالمجال اللغوي واللغوي المقارَن. والفيلولوجيا بمعنى تحقيق النصوص هو مقصد البحث، وهو ما ذهب إليه أيضًا تمام حسان في قوله: «ومن الشائع على ألسنة المهتمين بالوثائق في العهد الحاضر أن يطلقوا على دراساتهم اسم (فيلولوجيا). وأحمد شوقي بنبين الذي يرى أن «الفيلولوجيا بالمفهوم الألماني هي الدراسة العلمية للنصوص الأدبية، وتُعنى بتوثيق النصوص وتحقيقها ونشرها والتعليق عليها، ولا نعني بها فقه اللغة الذي يدرس اللغة على المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية أو النحوية والدلالية والأسلوبية والبلاغية والشعرية». (دراسات في علم المخطوطات والبحث الببليوغرافي، ص13).
بناء على ما سلف، يتبين المقصود بأن الاعتناء بالتراث القديم عامة، ودراسة النصوص والوثائق خاصة، وتحقيق النصوص التراثية على الأخص، هو مبتغى الفيلولوجيا في الغرب منذ العصر اليوناني إلى العصر الحديث مع حركة الاستشراق والاستعراب، الغرض منه توفير النصوص التراثية للباحثين والدارسين، عبر تصحيحها وضبطها وتوثيقها ونقدها ونشرها.. وهذا هو مقصد البحث؛ إذ يرى أيمن فؤاد سيد أن «الدراسة الفيلولوجية للمخطوط العربي وهي الدراسة التي تُعنى بنَصِّ الكتاب ومضمونه العلمي الذي كتبه المؤلف بنفسه، والتي اصطلح على تسميتها (تحقيق النصوص)». (الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات: 2/545).
هكذا ظهرت اصطلاحات في الغرب مثل:
Édition critique. Eclectisme. Édition de référence. Stémmatique…
تلتها اصطلاحات أخرى عربية مثل: تحقيق علمي، تحقيق نقدي، نشرة نقدية، تصحيح، ضبط، قراءة، عناية، اعتناء، نشر، إخراج، تخريج…
أصول الفيلولوجيا وامتداداتها: يذهب بعض الباحثين إلى ربط ظهور الفيلولوجيا (تحقيق النصوص) بالتأسيس للنهضة الأوربية رابطين إياها بالنهضة الإنسية، فيما يوغل بها آخرون إلى ما قبل الميلاد، وكانت وظيفتها إحياء النصوص القديمة بمعاودة النظر فيها، وهذه أهم مراحلها في الغرب:
حقبة ما قبل الميلاد: يرجع أحمد شوقي بنبين الفيلولوجيا إلى القرن السادس قبل الميلاد، حين عكف علماء اليونان على تصحيح نصَّيْ ملحمتيِ الإلياذة والأوديسة لهوميروس، وتنقيتهما من الزوائد والتصحيف والتحريف. ثم استمرت الفيلولوجيا في القرن الثاني قبل الميلاد، بعد افتتاح مدرستين مشهورتين هما:
مكتبة الإسكندرية في مصر: اعتنى فيها بقصيدتي هومير ثلاثة قيمين على مكتبة المتحف الإسكندري ما بين سنتي 270 و 150 ق.م، وهم:
زينودوت: الذي «نشر نسخة منقحة لهومر ومعجمًا هومريًّا؛ ويبدو زينودوت – في هذا العصر من فجر العلم الجديد- رجلًا موهوبًا ذا هدف نقدي، ولكنه تعوزه الطريقة النقدية الصالحة» (مصادر الشعر الجاهلي، ناصر الدين الأسد، ص313). أرستوفان: هو تلميذ سلفه زينودوت وقد اعتنى بالملحمتين، و«نشر أيضًا نسخة منقّحة من هومر. وكان يعنى بدلالات النصوص المخطوطة عناية تفوق عناية زينودوت.» أرستارخ: هو تلميذ سلفه أرستوفان، حيث «كان للمصادر المخطوطة قيمة كبيرة عنده حينما صنع نسخته من النص الهومري. وحينما كانت الموازنات والمقابلات تسلمه إلى شك في قراءتين كان يستهدي «باستعمال الشاعر الخاص». فهو يبدو في الغاية من الحذر والحيطة، بعيدًا من التسرع في تخطئة النصوص أو تصويبها. ولو قارناه بزينودوت لوجدناه يتحرج من القراءات التي تعتمد على الحدس والظن».
ما يعني أن الفيلولوجيا بمعناها التحقيقي اعتنت بأقدم النصوص الشعرية اليونانية، محاولة الوصول إلى الأصل كما قاله هوميروس، ويمكن اعتبار مجهودات السكندريين أنماطًا بدائية لما سيعرف فيما بعد بالنشر النقدي في عصر النهضة الأوربية وما تلاها.
مكتبة پرگامون أو پرگاموم، تقع في آسيا الصغرى (تركيا حاليًّا)، فكانت منافسة لمكتبة الإسكندرية. وقد «حاول علماء المدرستين معًا كتابة ملحمتي هوميروس من جديد لتصفيتهما مما شابهما من إضافات ونقص» (أصول التحقيق العلمي: 9) هكذا سعى أمين المكتبة كريتس إلى ذلك مستفيدًا من خبرته المكتبية حيث «جمع فهارس للأعمال النثرية والشعرية.. لكن الدراسات النقدية كانت محور اهتمامه، فقد تخصص في الدراسات حول الشاعر اليوناني الشهير هوميروس…» (مكتبتا الإسكندرية وبرجاموم: ص80).
حقبة ما بعد الميلاد
ابتداءً من القرن الميلادي الثامن شهدت أوربا على عهد شارلمان حركة علمية بارزة فيما عُرف بعصر النهضة في أوربا، تجلت في تشجيع التعليم وتأسيس الجامعات والترجمة من العربية إلى اللاتينية، فظهر في هذه الحقبة منهجان لإحياء التراث هما:
المنهج الوثائقي: ظهر منذ القرن الثالث عشر للميلاد، ويعتمد جمع الوثائق بطريقة عشوائية، واعتنى في البداية بالكتاب المقدس، فجمع العلماء نُسَخَه واعتمدوا نسخة واحدة متوسلين بمعياريِ الذوق وجمال النسخة في غياب معيار علمي. والمنهج العلمي: الذي كان ثمرة تطور الدراسات الفيلولوجية في أوربا الغربية، وتجلى أثره أكثر في العصر الحديث بفعل ظهور حركة الاستشراق خاصة في اهتمامها بالتراث العربي.
الحقبة الحديثة
باطّراد الجهود في دراسة النص التراثي الغربي، شهد القرن التاسع عشر طفرة في الفيلولوجيا، حيث «لم يتأسس لدى الغربيين تفكير نظري ولا منهج علمي لتصحيح الكتب ونشرها إلا في القرن التاسع عشر حين عرفت الفيلولوجيا تطورًا كبيرًا خصوصًا في ألمانيا» من خلال جهود فيلولوجيين منهم: كارل لاخمان. الذي رفد الفيلولوجيا سنة 1851م بمعارف ومناهج ذات بال مثل: علم المخطوط وتاريخ النصوص، «فقد لاحظ هذا العالم ومدرسته أن التراث المخطوط لم يصل إلينا في نسخه الأصلية، بل وصل إلينا عن طريق شواهد ووسائط خضعت لألوان من التحريف والتصحيف.. فأخذ على عاتقه استرجاع لا النسخ الأصلية بل الشواهد التي ضاعت مع الزمن والتي يمكن أن تهديه إلى شكل قريب من النص الأصلي».
هكذا بدأ البحث عن النسخة الأصل لاستهلال التحقيق على نسخ متعددة، ويكاد يتفق الباحثون على إضافات لاخمان في هذا الباب، «فهو الأول الذي حاول أن يعيد بناء النصوص الضائعة، وذلك حسب موهبته الممتازة، ومعارفه الباليوغرافية والنقدية» (مقالات في علم المخطوطات، مصطفى الطوبي، ص21) وصنيعه كان مبتغاه في الأصل خدمة التراث الأوربي اللاتيني واليوناني خاصة، قبل أن يكون مستفادًا للمستشرقين في تعاملهم مع المخطوطات العربية، حيث «ظلت الدراسات الشرقية تجد تبريرها في التطبيق العملي لمذهب التحقيق العلمي النقدي للنصوص القديمة، كما طور في إطار الدراسات الكلاسيكية وكما وضعه بالشكل المثال كارل لاخمان» (الاستشراق ونشر التراث العربي، ستفان ليدر، مجلة التسامح، ع7، 2009م، ص403).
كما نذكر منافسه «هيرمان صوب» الذي له الفضل أيضًا في إنشاء نظرية علم النسب في ميدان المخطوطات، «وهدف هذا العلم هو حصر كل نسخ المخطوط وإرجاعها إلى أصل واحد يمكن اعتماده في عملية نقد النص» (أصول التحقيق العلمي: ص12)
والفيلولوجي الإنجليزي كلارك والفيلولوجي هنري كانتان..
أثمرت جهود لاخمان ومعاصريه استواء منهج التحقيق العلمي ونضجه معتمدًا «الاستخدام النقدي لكل النسخ وذلك بمحاولة جمع أكبر عدد منها والمقابلة فيما بينها في محاولة للوصول إلى نص أقرب ما يكون إلى نص المؤلف. وقد يتم هذا بعد إخضاع هذه النسخ لعملية تاريخ النص الذي يعتبر أساسيًّا في هذه العملية العلمية».
في هذه الحقبة نشطت حركة الاستشراق في المراكز العلمية بأوربا مثل ألمانيا وهولندا وروسيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا وإنجلترا.. والتفت الفيلولوجيون إلى المخطوطات الشرقية مثل: السريانية والفارسية والعبرية والعربية في أواسط القرن 19م خاصة، فعكفوا على فهرستها ودراستها وتحقيقها ونشرها بما فيها مخطوطات علوم الدين (تفسير وحديث وفقه وعقيدة…) وعلوم اللغة والأدب (نحو وبلاغة وعروض ومعجم وأدب…) وعلوم التاريخ والجغرافيا والعمران… والعلوم العقلية التجريبية (فلك وطب وحساب وطبيعة…) ومن أهم المستشرقين والمستعربين نذكر: دو ساسي، وفليشر، وبرغشتراسر، وغرونباوم، ونولدكه، وبروكلمان، وجِبْ، وشاخت، وغالان، ومرغليوث، ودوزي، وكراتشكوفسكي.. حيث يرى رضوان السيد أنهم «كانوا جميعًا تقريبًا من الفيلولوجيين المتعمقين بعدة لغات كلاسيكية وسامية إلى جانب العربية.. وقد تلقوا تدريبًا على التعامل مع النصوص العربية من جانب أساتذة التحقيق والنشرات العلمية للنصوص الكلاسيكية…» (النشر التراثي العربي، مجلة التسامح، ع 27، 2009م).
فكانت النتيجة تحقيق ونشر نصوص عربية كثيرة في مختلف الفنون بما فيها نصوص الأدب العربي شعره ونثره.
الحقبة المعاصرة
أي منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، حيث استمرت حركة النشر الفيلولوجي للنصوص العربية من قبل الأوربيين، وإن تراجعت في أواخر القرن العشرين، حيث عكف المحققون العرب على إخراج تراثهم ابتداء من النصف الأول من القرن العشرين، واطردت الجهود العربية بانحسار نظيرتها الأوربية، ورغم ذلك استمرت هذه النشرات في إسبانيا وهولندا في أيامنا هذه (أوائل القرن 21م) بعناية مؤسسات ومراكز وعلمية مثل: المجلس الأعلى للأبحاث العلمية في مدريد، وهيئة المخطوطات الإسلامية في كامبردج، ومؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن، ودار بريل للنشر في لايدن بهولندا.
من ثمرات هذه الحركة العلمية، إنتاج عدد كبير من التحقيقات والنشرات النقدية للتراثين الغربي والعربي خاصة، في علوم الدين والأدب واللغة والتاريخ والجغرافيا والطب والفلك والحساب.
* عن وبإذن من:
الفيلولوجيا.. من فقه اللغة إلى تحقيق التراث | مجلة الفيصل