بانياسيس - طوبولوجيا اللغة- أرقام لا حروف

لن يقبلوا أبدا أن تقول بأن اللغة ناقصة ، أيا كانت هذه اللغة ، اللغة ناقصة جدا ، ناقصة حد أنها عاطلة عن أن تؤدي وظيفتها في التعبير عن الوجود. وربما كان هايديجر مخطئا حين وصف اللغة ببيت الوجود.
ليس سخرية بل حقيقة حينما تطلب من شخص ان يرسم خطوطا متقاطعة على ظهرك ثم يرقمها ثم تخبرة بالرقم المحدد للمكان الذي عليه أن يحكه لك. ليست تلك سخرية بل علاج حقيقي للنقص المهول في اللغة ، إن الوجود ليس أحادي البعد فكيف للغة أن تتعامل معه على هذا النحو. لقد أنفق العرب كل تركيب صوتي ليصفوا النوق والإبل ولكن هل استطاعوا بعد كل هذا أن يحولوا اللغة إلى إحداثيات قادرة على منح كل ذرة في الوجود مسمى خاصا بها؟ لا هذا لم يحدث ؛ سيفهم هذا الأمر بدقة كل من يحاول أن يقتنص بادرة الكتابة الأدبية لأن أول ما سيواجهه هو أن عليه أن يكتب جملة طويلة جدا ليصف حركة صغيرة جدا أو جزءا من شيء مادي أو معنوي على نحو ينزع عنه المفارقة بين الذات والموضوع ويلقي بالموجودات الى داخل الوعي بشكل شامل. اللغة التي تبدو ساحرة هي في الواقع ساخرة ؛ هي تمد لسانها وهي تشاهد الشعراء يحاولون الامساك بجسدها الهلامي عبر المجازات دون جدوى ، المجازات نفسها وهم ؛ ليست لأنها كذب محض بل لأنها محاولة لشرح صور مختلفة ببعضها البعض رغم أن لكل صورة ذاتيتها في مواجهة الأخرى. الأسد شجاع من قال أن شجاعة الرجل كشجاعة الأسد ؛ ما العلاقة بين حيوان أقل عقلانية في ردود أفعاله من انسان عاقل يزن الأمور بميذان الذهب؟ خداك أقحوانتان.. ما علاقة الخد بالاقحوانة..ان تشابها في اللون فما الفرق بين أن نقول خداك أقحوانتان أو أن نقول الاقحوانتان خداك؟ وهل لون الحمرة في الخدين كلون حمرة الاقحوان..لو كان هذا صحيحا لعنى أن هذه الفتاة تعاني من حساسية جلدية خطيرة.
الاستعارات كلها وهم ولكنه وهم ترسخ في ذهن الناس على نحو مبالغ فيه كمحض حقيقة. والمجاز ليس أكثر من محاولة ملء الفراغ اللغوي الذي تسقط داخله المشاعر الانسانية نافقة كلا شيء.
لماذا اللغة ناقصة؟ لأن اللغة دونا عن كل منتجات الانسان لم تتطور...، ولأنها حصلت على قداسة لا مبرر لها دحرت أي محاولة لبناء قدرات جديدة لها. ما معنى أن تقرأ لشكسبير وتقرأ مدونة حمورابي وتقرأ قصائد محمود درويش وتقرأ اخبار الصحف دون ان تتجاوز كل المفردات بضعة الاف فقط على أقصى تقدير. نعم سنضطر دوما الى تقسيم ظهورنا الى إحداثيات لنتمكن من منح خلية ما فيها مسمى خاصا بها. فلماذا لا نهدم اللغة تماما ونعيد مفهومها على نحو إحداثي...ربما حينها سنتمكن من إنهاء سيطرة الماضي تماما أو نسبيا ، تنتهي علوم اللغة تماما من نحو وصرف وبلاغة وعروض..الخ..
وربما حينها نكون أكثر قدرة على التعبير عن الوجود على نحو دقيق جدا فيصدق قول هايديجر نسبيا.
لكن...

تخيل نفسك تسقط في كوكب ما ؛ سكانه يتحدثون بلغة إحداثية شاملة... ألن تصاب بالرعب...
إننا كبشر لن نتحمل ذلك الكمال في اللغة..لأن جمال اللغة يكمن في نقصها وليس في كمالها الأمثل وهي من ثم لا تختلف عن غيرها من المتع التي يسعى الانسان لاشباعها اشباعا كاملا ولكن دون جدوى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...